من لا يعرف الشاعر التونسي القدير جلال باباي..أقول
أحب الحياة-رغم مواجعه-كعاشقٍ ابدي مهما جانبت توقعاته،وانتصر دوماً على ضعفها وراودها عن اذيّته،وواجهها بملامح ونظرات جُبلت بالتحدي والسخرية والذكاء.
هي سيرة حياة مذهلة،اعتبرها أطول قصيدة كتبها،جبلها من ترابه ورصعها بفسيفساء متقنة اكتنه أسرارها وعبث بألوانها.
بدا لنا كذواقة يلتهم الزمن ويتأنى في تذوقه،ينافس نفسه بصدق وعناد،ويأبى لا ان يقلب حياته على جمر حارق.
أحب الحياة-رغم مواجعه-كعاشقٍ ابدي مهما جانبت توقعاته،وانتصر دوماً على ضعفها وراودها عن اذيّته،وواجهها بملامح ونظرات جُبلت بالتحدي والسخرية والذكاء.
والحياة عنده قطار طويل وسكة ومحطات ولذة ارتحال..والكتابة عنده رحلة لا يرجو منها وصولاً ولا راحة..هي نسق حياة سبحة لا نهائية..ومحطات عديدة،وظل يُكمل بهجة الاستكشاف،يعاند الصعوبات،ويحوّل التعب الى ثمار،والثمار إلى لذة…
هو شاعر قدير-وهذا الرأي يخصني-مثابر مُجدّد،يراهن على الكلمة وامداء وحيها،يصطفيها كميثاق خلاص،يرميها كنردٍ اكيد من ربحه أو يناوشها كأفعى في جحرها.
إن التكامل الجمالي- في قصائد الشاعر التونسي الفذ جلال باباي -يكمن في روح البناء الكلية من حيث الشفافية والعمق والتماسك الجمالي بين الأنساق،فثمة قيمة جمالية في الاندماج والتلاحم بين الأنساق الوصفية والمضافة،مما يرتد على إيقاع -القصيدة-بشكل عام،لاسيما في العلاقات الجدلية التي تعطي جمالياتها على الشكل النسقي التضافري الذي يشكله النص الشعري.
إن خصوصية التجربة الشعرية لذى هذا الشاعر تمتاز باكتنازها بالرؤى والدلالات المراوغة التي تباغت القارئ في مسارها الإبداعي،وهذا يعني أن الحياكة الجمالية في قصائد-جلال- حياكة فنية يطغى عليها الفكر التأملي والإحساس الوجودي،وكشف الواقع بمؤثراته جميعها..وهي ترتكز أساسا على المخيلة الإبداعية،ومستوى استثارتها،الأمر الذي يؤدي إلى تكثيف الرؤى،وتحقيق متغيرها الجمالي.
ذهب في بعض قصائده الى اقاصي العذاب كما الى اقاصي العشق،متقناً شهوة الإسترسال وبراعة الومض…يكتب ويكتب وكأن الكلمات تتوالد وتنساب بسعادة الى ناشره وبسهولة الى القارئ من أصابعه الماسكة بقلم لا ينضب حبره.
لا يحاول -جلال باباي-أن يسترضي قارئه او يستميله.هو يصافح البؤس البشري-أحيانا-، ويروي سقوط الانسان في هاويته،ويفتح بجرأةٍ ستارة تفضح ما نوّد ان نخفي لإراحة ضمائرنا.. يكتب الحياة مشدداً على وجهها المُعتم كي يحتفي ببهائها المتعالي على التراب المُعّفر.
ختاما أقول: مثل ساحر متمكّن يقود الشاعر جلال باباي القارئ في كل قصيدة من قصائده، يقوده سيرا حيناً،وركضا في الكثير من الأحيان.نتابع الكلمات بأجراسها الموسيقية بلهفة الفضول والحيرة ونلتهم الكلمات التهاما،ومن ثم لا نملك فرصة للهرب من فتنة ابداعه الشعري الخلاق،منذ أول بيت في قصائده،حتى آخر نقطة في آخر-بيت-لا نستطيع أن نهرب من فتنة قصيدته المخاتلة أحيانا والمستفزة للذائقة الفنية للمتلقي،حيث تتحول اللغة إلى مجرد أداة، وتصبح بالتالي مثل إزميل النحات أو فرشاة الرسام،ولا تكون محور القصيدة،مثلما تعودنا من بعض الشعراء العرب الذين يهتمون باللغة وزركشتها على حساب البناء الجمالي للقصيدة.
سواء في الشعرأو النثر تكشف لنا أعمال المبدع جلال باباي،الشاعرالتونسي أصيل مدينة أكودة الساحلية من ولاية سوسة (جوهرة الساحل)عن مدى قدرته على الإنتفاع من معارفه الأدبية والثقافية والفكرية،بدون أن يسقط في نرجسية «ذات الكاتب/الشاعر»،التي تقول: «أنا موجود بالقوة».وإنما يستثمر كل ذخائره مراعيا حدود الجنس الأدبي،ومحافظا على الحس الجمالي والأثر الفني للعمل الأدبي.
سألته ذات يوم قائلا: “لقد تمرسنا في صناعة الأمل،و لولاه لقضينا حزنا و كمدا”، كان قد أخذنا لنفس السياق الكاتب الروسي “دوستويفسكي” منذ أكثر من مائة عام ليؤكد أنه ” أن تعيش بدون أمل هو أن تتوقف الحياة”،لماذا هذا الإجماع على قدرة الأمل في مجابهة واقع لطالما تساءلنا عن جنسيته ضمن حدود أحلامنا؟
فأجابني جوابا مربكا حيث قال :"يبدو أنّه علينا أن نخلقَ معادلاً موضوعياً لأزماتنا، الأمل يشكّل هذا المعادل الموضوعي. هذا من جانب، من جانب آخر فإنّ الأمل يحمل في طياته بذور الأمل التي ستنبت يوماً ما في حقول الألم،وشيئا فشيئاً ستتمدد تلك النباتات وهي تطرد أمامها الأشواك حتى تنظّف الأرض منها، وتحولها من أرض يباب إلى أرض غنية الأزهار والفرح. لو عدنا إلى زمن الكاتب الروسي الخالد دوستويفسكي:”أن تعيش بدون أمل هو أن تتوقف الحياة”، سنرى أنّه أطلق مقولته تلك بينما كانت بلاده تعيش أصعب ظروفها، وبعد ذلك بسنوات شهدت روسيا “الثورة البلشفية” عام 1917،تلك الثورة التي غيّرت وجه روسيا والعالم لعدة عقود.."
هوذا الشاعرالتونسي السامق جلال باباي كما عرفته..وعرفته الساحة الشعرية تونسيا وعربيا..
محمد المحسن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق