حين يمرض الشاعر..تتوجّع القصيدة..قصيدة "أنا مريض..أنا كئيب" للشاعر التونسي الكبير جلال باباي نموذجا.
تصدير : سأل عبده وازن محمود درويش : أليست الفنون قادرة على هزم الموت كما قلتَ في قصيدتك “جدارية”؟
أجابه : هذا وهم نتخيله كي نبرر وجودنا على الأرض،لكنه وهم جميل”.
(تقديم محمد المحسن)
ظاهرة الحزن في الشعر العربي المعاصر،مالبثت تزداد إنتشارا أفقيا ورأسيا،أفقيا منذ نازك الملائكة وحتى اليوم وفي جميع أجيال الشعراء،شبابا وكهولا،ورأسيا في تنوع تناولها من حيث الصورة الفنية والتجربة الشعورية وزاوية التناول .
والسؤال الذي ينبت على حواشي الواقع :
هل يعود ذلك إلى واقعنا العربي الذي يزداد سوءا،ظلما”و ظلاما،ومواجع تنخر جسد المبدعين..ولا معين..؟!
وهنا أضيف : ظاهرة الحزن في الشعر الحديث ليست ظاهرة عبثية،وإنما لها دوافعها وطرق تجلياتها التي تميز شاعر عن غيره،بل ولها أسبابها ومبرراتها الذاتية والموضوعية التي تكمن وراء غلبة طابع الحزن والتشاؤم على العوالم النفسية لكثير من شعراء الشعر الحديث،وهو ما يؤكد بوضوح ذيوع ظاهرة الحزن في معظم النتاج الشعري.
من هؤلاء الشعراء البارزين الشاعر التونسي القدير جلال باباي الذي يعد صوتا شعريا قويا بين شعراء الجيل الحاليه،لأنه حين يكتب الشعر تتجلى في أعماله العديد من الظواهر الشعرية وقضايا الحداثة،فضلا عن لغته القوية وألفاظه العذبة،بل إن ابداعاته الشعرية مفعمة بتجليات الحداثة التي تدعو إلى التأمل والدراسة .
ما أيد أن أقول تصريحا وليس تلميحا..؟
كما تتنقّل راقصات الباليه بخفّة ولطف على أنغام «كسّارة البندق»،للمؤلّف الموسيقي الرّوسي «تشيكوفسكي»،كذلك يتنقّل الشّاعر التونسي القدير جلال باباي برقّة وعذوبة في قصيدته«أنا مريض..أنا كئيب»،على أنغام موسيقاها الشّعريّة الكامنة في عمقها الإنسانيّ..
أبيات شعريّة منسوجة بالحزن والاشتياق والحنين والألم والغضب و الوجَع،تعكس لنا مكنونات شخصيّة الشّاعر وهو يواجه معاناته بصبر الأنبياء،وتدخلنا إلى عالمه بسلاسة،فيطيب لنا أن نقرأ السّطور وما بينها.
الشاعر جلال باباي يطارد الحزن في قصيدته"أنا مريض..أنا كئيب" حتى يشكل إطارا كليا يحتويه لا يغادره إلا قليلا..فيغدو أسلوبا لشاعريته يؤطرها نسقا مبثوثاً في المشاعر والتصوير والتدفق..وهذا النسق يمنح قصيدته وجهها ووجهتها وحيويتها.
فأي بحر يغسل عن الشاعر القدير جلال باباي الآلام..
وأي يَم سيقذف به إلي زمن جميل لن يمنح فرصة واحدة للمواجع..؟
ويظل..سؤالي حافيا،عاريا،ينخر شفيف الرّوح
أنا مريض....أنا كئيب
الإهداء..إلى " لارا فابيان"*صوت ملائكي يقتحم صمت الليل.
لم ادخن ..
لم اتجرٌع نبيذا مذ غادرت التاريخ
لم يعد يروق لي شيء لما أعلنت الرحيل
بات فراشي رصيفا لمحطة القطارات
حين تركتني لوحدتي بتٌ مفردا أنا جدٌ كئيب..
أنا مريض لمٌا اطبقت أمٌي بوٌابة صدرها البلٌورية
تركتني فريسة لليل والنسيان
عامين مرٌوا وجسدي مازال متكلٌسا
أهملني الرفاق وحلٌ باليسار الشقاق
كانت حبيبتي جلمود صخر ..
قلب متيبٌس همت بنبيذي وسجائري ورقائق المواعيد
علقت قدماي بآخر السفن
ولم أكن أفقه وجهتي
أنا مريض..أنا كئيب..
أنا جدٌ مريض..
أتطاير بأحلام اليقظة
جمرا في أحراش البادية
أنا مريض..أنا كئيب
أفقت من إغماءة حولين أفتٌش لي عن حبيب
فداهمني بالحلول شرخ ذاكرتي المفقود أن أكون...
أو ..أغيب!!!
جلال باباي
إن المتأمل لقصيدة ”أنا مريض..أنا كئيب”،يجدها قصيدة حداثية من ناحية الشكل (بنائها الهندسي)،فقد خالفت القصيدة نظام القصيدة العمودية والتي تعتمد على نظام الشطرين متكونة من (صدر/عجز) والتي قال عنها باشلار قصيدة العبقرية الرتيبة،فجاءت على شاكلة الأسطر منتمية إلى أحد أهم أنواع الشعر والمتمثل في “الشعر الحر”،متكونة من [21] سطر،يحكمه نظام عروضي خاص بالشعر الحر،فنجد أن هذه الأسطر تارة تطول وتارة تقصر،وذلك راجع للحالة الشعورية المتدفقة للشاعر،فكلما ضاق صدره إنفرج مجال القول..
إن "شعرية المرض" قديمة منذ تحدث المتنبي عن "الحمى" التي يصفها بقوله: "وزائرتي كأن بها حياء/ فليس تزور إلا في الظلام".
وفي العصر الحديث يُعد تصوير السيَّاب لابتلاءاته أشهر من أن يشار إليه : "لك الحمد مهما استطال البلاء/ ومهما استبدَّ الألم/ لك الحمد إن الرزايا عطاء/ وإن المصيبات بعض الكرم". ثم تأتي تجربة حلمي سالم وقبلها تجربة أسامة الدناصوري،ثم تجربة محمود قرني في ديوانه الأحدث "مسامرات في الحياة الثانية"،على سبيل المثال.
لكن ما يميز الشاعر التونسي القدير جلال باباي هو أنه جعل من الجسد المعتل مدخلاً للحديث عن حياته عامة مبرزا في بعض قصائده معاناة الشاعر حين تحتدم المواجع في نفسه..
أما بخصوص هذه القصيدة"أنا مريض..أنا كئيب"فقد صاغها الشاعر ببراعة فائقة،ولم تخضع بالتالي للانثيال العاطفي بل قامت على درجة واضحة من البناء والإحكام.
لك مني يا جلال..باقة ورد تعبق بعطر الإبداع..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق