الاثنين، 6 ديسمبر 2021

السّرد الممانع للسّرد والتّعبيريّة الجامحة في " همس المرايا لجميلة بلطي عطوي " بقلم الاستاذ بوراوي بعرون

 السّرد الممانع للسّرد و التّعبيريّة الجامحة في " همس المرايا لجميلة بلطي عطوي " للاستاذ بوراوي بعرون


في اطار نشاط نادي مختار اللغماني (للأدب والفكر والفن) بدار الثقافة المغاربية ابن خلدون وبتنظيم من جمعية مراجعات وبرئاسة الدكتور والشاعر عبد العزيز الحاجي تمّ تقديم العمل الجديد للأديبة التونسية الاستاذة جميلة بلطي عطوي 'همس المرايا' والذي قدّم له الاستاذ والشاعر الأديب بوراوي بعرون بهذه الورقة:


تصدير

" فقصيدة النّثر - أوّلا وأخيرا – هي مسألة ذاتيّة، فردانيّة، بهواجسها و تعابيرها. وبقدر ما تنتمي إلى نفسها تتمرّد عليها بهذه الذّاتيّة التي تأبى التعميم أو التّقنين. لهذا، فإنّ قصيدة النّثر العربيّة، عبر تراكماتها، لم تشكّل نوعا ذا أسوار و قضبان ونواء، إنّما هي أشكال كتابيّة تنتمي إلى فضاء في التّحوّلات غير المتوقّعة وغير المحسوبة. أشكال تتحرّك في اللّنهائي و اللّامحدود. ويكفي للشّاعر أن يقصد ويعي أنّه يكتب قصيدةمنفلتة من الأوزانو التّفعيلات و البنى الجاهزة كي يكون ما يكتبه قصيدة نثر. فالقصد هو الأساس، وتسمية القصيدة جاءت من هنا. " بول شاوول، مقدّمة في قصيدة النّثر العربيّة، فصول، أفق الشّعر، المجلد السّادس عشر، العدد الأوّل، صيف 1997، ص162



تقديــــــــم

" همس المرايا " مجموعة نصوص سرديّة تعبيريّة أصدرتها الكاتبة " جميلة بلطي عطوي " سنة 2020 عن دار المسار للنّشر و التّوزيع في حجم متوسّط، ستّة وخمسون نصّا تتضمّن مائة و اثنتي عشر صفحة بمعدّل صفحتين لكلّ نصّ. أقصر نصّ من صفحة واحدة يتضمّن ستّة أسطر وأطول نصّ من ثلاث صفحات يتضمّن واحدا وخمسين سطرا. ترد كلّ النّصوص في كتابة سرديّة أفقيّة. تظهر الكتابة وكأنّها نمط جديد لكتابة هي مابين نمط الخواطر و قصائد النّثر التي عرفها الشّعر العربيّ الحديث منذ أواسط القرن الماضي مع مجلّة شعر البيروتيّة. فهل نحن إزاء هذه أم تلك أم نحن إزاء نمط في الكتابة ثالث أسمته الكاتبة بالسّرد التّعبيري أسوة بالموقع الالكترونيّ الذي أسّسه ثلّة من الأدباء العراقيين سنة 2015؟ للتّفاعل مع هذه التّساؤلات ارتأينا اتّباع التّمشّي التّالي: أوّلا ننظر في عتبات النّصّ أو ما يمكن أن نطلق عليه: المفاتيح السّيميائية الخارجيّة للنّصّ ( العنوان والغلاف و النّصّ المميّز بالصّفحة الثّانية من الغلاف )، ثانيا نعمّق النّظر في أنماط الكتابة المعتمدة داخل هذه النّصوص، ثالثا ننظر في الخصائص الفنّيّة للنّصوص، و ختاما نصوغ بعض الملاحظات و التّساؤلات في علاقة بآفاق مثل هذه الكتابة.



في استكشاف المفاتيح السّيميائة للمجموعة

اختارت الكاتبة عنوانا لنصوصها " همس المرايا " مذيّلا بنوع الجنس الأدبيّ ( سرد تعبيريّ ) وهو عنوان داخليّ للنّصّ الأخير أي بمثابة مسك الختام. همس المرايا مركّب إضافيّ: همس / مضاف و المرايا / مضاف اليه. والهمس هو الحديث الخافت يراد به إيصال الكلام إلى شخص معيّن دون سواه، والهمس يتعلّق بالأسرار والأخبار الهامّة عادة. فهل تهمس الكاتبة إلى قرّائها من خلال التقاطها لهمس مراياها، وهل تهمس المرايا؟ أم هي تعكس صورا و مشاهد؟ كيف يجيء فعل المرايا همسا؟ وعن أيّة مرايا تتحدّث الكاتبة؟ في الرّسم المصاحب، من خلال الأزرق ذي الدّرجتين اللّونيّتين، العاتم من أسفل والفاتح من أعلى يظهر وجه فتاة تقف حذو مرآة لعلّها صاحبة المرآة، وكأنّ الفتاة تعرض ما تعكسه مرآتها وكأنّها تهمس مع المرآة إلى أشخاص لا يظهرون في الصّورة، أليست الفتاة هي الكاتبة في سنّ مبكّرة؟ ألسنا إزاء كاتبة تحتفي بالنّوستالجيا، تحنّ إلى زمن مضى، ألسنا إزاء كاتبة تنشّط الذّاكرة فتصلها الذّكريات همسا مثلما يحدث في الأحلام، وما المرايا إلاّ شاشات الرّوح تعرض الصّور للكاتبة دون سواها في همسات تدغدغ أعماق الوجدان لعلّها هي هي نصوصها. عندما نعود إلى النّصّ الحامل للعنوان " همس المرايا " صص127-129 نجد أنفسنا إزاء كتابة لاهي شعريّة بالمواصفات المعروفة في أنظمة الكتابة الشّعريّة مثل نظام الشّطرين العموديّ أو نظام التّفعيلة السّطريّ او نظام قصيدة النّثر الحداثيّ، ولاهي نثريّة بالمدلول المعروف للكتابة النّثريّة حكائيّة كانت أو مقالة تقريريّة، نحن إزاء كتابة من نمط آخر هي سرديّة تعبيريّة حسب العبارة المشار إليها في الصّفحة الأولى من الغلاف تحت العنوان. كتابة سرديّة تدور في فلك الشّعور، هي كتابة يمكن اعتبارها شعوريّة، تتوضّح ملامحها أكثر عند النّظر في النّصّ المميّز في الصّفحة الثّانية من الغلاف بعنوان " الواحة " نصّ من عشرة أسطر يبدأ بتركيب شبه إسنادي يصف حالة الأنا " مثقلة تلك الأنا ... " هذه الأنا تشدّ الهمّة رغم العسف. بنبض الشّعور ترسم الدّرب، تخاتل العتمة الخانقة. ... " هل نحن إزاء كتابة سرديّة تعبيريّة مدارها الشّعور من قبيل الخواطر " في الخاطر تنساب أغنية " السّطر الثّامن؟ أم نحن إزاء كتابة سرديّة ذات ملامح شعريّة من قبيل قصيدة النّثر الحداثيّة؟ أم أنّنا إزاء نمط ثالث من الكتابة السّرديّة غير التّقليديّة؟ قد تكون قصيدة نثر جديدة ممّا يسمّيه البعض قصيدة نثر ما بعد الحداثة، أو القصيدة المصبوبة صبّا / الكتلة... من خلال ما رصدناه من مؤشّرات ذات علاقة بالمفاتيح السّيميائيّة لهذه النّصوص بالإمكان صياغة فرضيّتين للقراءة، الأولى: العنوان ونصّه الحامل له داخل المتن يميلان بنا صوب كتابة شعوريّة من فيض الخاطر هي أقرب الى الخواطر المنبثقة من أعماق الشّعور هي من قبيل الخواطر التّجريديّة. العنوان والنّصّ المميّز على قفا الكتاب " الواحة " ينزاحان بنا نحو السّرديّة التّعبيريّة ذات الملامح الشّعريّة حتى لكأنّنا إزاء قصيدة شعريّة بامتياز.


في تجلّيّات أنماط الكتابة

تنبع نصوص الكاتبة من أعماق الذّات، تتدفّق شعورا سرديّا أسمته سردا تعبيريّا، أي سردا لا يستهدف القصّ / الحكاية، كما لا يستهدف المقالة التّقريريّة وما شابهها، إنّه سرد يغالب السّرد و يجابهه كأنّه ليس من جنسه، يقول الدكتور أنور علي الموسوي " السرد لا بقصد السرد، السّرد الممانع للسّرد، السّرد لا بقصد الحكاية والقصّ، السّرد بقصد الإيحاء و الرّمز والرّمز هو نقل الإحساس والعاطفة، هذه هي ( السّرديّة التّعبيريّة ) السّرديّة التّعبيريّة و أسلوبيّاتها، جريدة شموس نيوز. ويضيف كريم عبدالله: " السّرديّة التّعبيريّة تتكوّن من مفردتي / السّرد – التّعبير / ويخطئ كثيرا من يتصوّر أنّ السّرد الذي نقصده هو السّرد الحكائي – القصصي، وّنّ التّعبير نقصد به الأشياء و التّعبير عن الأشياء. انّ السّرد الذي نقصده إنّما هو السّرد الممانع للسّرد أي أنّه السّرد بقصد الإيحاء والرّمز والخيال الطّاغي واللّغة العذبة والانزياحات اللّغويّة العظيمة وتعقّد الإبهار ولا نقصد منها الحكاية أو الوصف. أمّا مفهوم التّعبيريّة فإنّه مأخوذ من المدرسة التّعبيريّة والتي تتحدّث عن العواطف والمشاعر المتأجّجة والأحاسيس المرهفة، أي التي تتحدّث عن الآلام العظيمة والمشاعر العميقة وما تثيره الأحداث و الأشياء في الذّات الانسانيّة. " ( الناقد العراقي، تجليات اللغة في السردية التعبيرية شعرية الذاكرة في القصيدة السردية التعبيرية ) هل الكتابة عند جميلة بلطي عطوي من هذا القبيل؟ عندما نعود إلى النّصّ المميّز في الصّفحة الثّانية من الغلاف بعنوان " الواحة " نلمس ذلك، في هذا النّصّ لا يعترضنا السّرد الحكائيّ كما لا تعترضنا المقالة، نحن في حضرة كلام يتدفّق من عمق الشّعور بنبض هذا الشّعور على حدّ تعبير الكاتبة ترسم الأنا أي أناها الدّرب وتخاتل العتمة الخانقة، بكلمات منتقاة بعناية ذات ملامح شعوريّة خالصة وبأسلوب خبريّ تنساب التّراكيب في لغة ذات معجم واسع الاستعمال دون تعقيد تشقّ طريقها نحو ذات المتلقّي في مقابلة واضحة بين الحزن والفرح " تخاتل العتمة الخانقة " في بداية النّصّ " و في الخاطر تنساب أغنية " في المقطع الأخير من النّصّ. تنتصر الكاتبة في هذا النّصّ للفرح حيث تختتمه قائلة " ظلّ ظليل، نسيم عليل، واحة تزفّ بشرى الوصول. " وفي ذلك تشكيل لكتابة متفائلة بعيدة عن التّشاؤم العبثيّ والتّشاؤل القريب من ذلك ( إميل حبيبي مثالا ). في " همس المرايا " النّصّ المميّز بعنوانه الممنوح للمجموعة كاملة تشكّل الكاتبة / الرّسّامة بالكلمات لوحة تعبيريّة بامتياز. " ترسم بقلمها الرّصاص، تقصد المرايا، لوحات متناسقة حينا، متنافرة آخر ... " (السّطر التّاسع)، وتضيف الكاتبة في الصفحة الثّانية من النّصّ: " في الممرّات تنبهر العين بلوحات مدهشة رغم إحساس الألفة الطّاغي على أشكالها " (السّطران الثّالث و الرّابع)، وتقول في آخر الصّفحة الثّانية في تركيب إنشائيّ فيه التماس لطيف: " ابتسم فالزّمن هنا كما تشتهيه، فرشاتك والألوان ثمّ انطلق " (السّطران الأخيران من الصّفحة الثّانية). ألسنا إزاء كتابة تشكيليّة تستجيب لما ذهبت إليه " رشا السّيّد أحمد " / سوريا في مقالها بعنوان " السّرديّة التّعبيريّة الشّعريّة ": " التعبيريّة في الفنّ التّشكيليّ نشأت بعد عدّة مدارس فنّيّة سبقتها كان آخرها المدرسة التّأثيريّة ... وفكرتها تقوم على محاكاة الواقع الخارجي وتأثيره في النّفس وانعكاس هذا التّأثير على العمق الفنّي، والحسّي الشّعوري في أعماق النّفس البشريّة للفنّان لتعيد نفسها للخارج بكلّ تأثيرها القويّ على المتلقّي مستقطبا في العمل، ... " و تضيف في " التّعبيريّة في الأدب " ... ومنه انتقلت هذه المدرسة من الفنّ الألماني إلى الأدب الألماني إلى أوروبا كافّة،... وقد تأثّرت الحركة التّعبيريّة في ألمانيا أسلوبيّا بالكاتب السّويدي " أوغست سنراندبرغ " و الشّاعر الأمريكي " والت وايتمان " والذي يعتبر مبدع قصيدة أمريكا الحديثة والمحدثة، وامتدّ تأثيرها خارج ألمانيا، ففي روسيا مثلا نجد تشابها كبيرا بين التّعبيريّة ونظريّة " يفيغين فاختانجوف "المعروفة باسم " الواقع الخيالي " ويظهر هذا التّداخل بين التّعبيريّة التّشكيليّة والتّعبيريّة السّرديّة في النّصوص القصيرة عند الكاتبة خاصّة وهي بمثابة اللّوحات الفنّيّة المرسومة بالكلمات، ففي النّصّ بعنوان " نبضة " ص114 مقطعان مترابطان في حركة تبدو دوارانيّة متموّجة ذات منحى انجذابيّ لافت لكأنّنا إزاء فوهة مجرّة هي هي المجرّة التي يمخر عمقها ذاك الشّهاب الذي تعانقه الأحلام في شرفة الأمنية فيتمّ التّزاوج ويثمر ضوءا " في شرفة الأمنية تحطّ الأحلام،تعانق الشّهاب الواعد. تزاوج يثمر المزن العذاب. في رحم الكون ترف نبضة. حمل فولادة. سمر تحت قبّة تهطل شلاّل ضياء. " ألسنا إزاء لوحة تشكيليّة / رسم بالكلمات؟


في الخصائص الفنّيّة للكتابة

الكتابة السّرديّة التّعبيريّة حسب المهتمّين بها هي كتابة تحتفي بالإيحاء و الرّمزيّة والخيال الجامح وتوظّف لذلك لغة مرهفة لها خصائصها منها " وقعنة الخيال " و" اللّغة المتموّجة " و " اللّغة المتوهّجة " و " لغة المرايا وفسيفساء النّصّ ".

1 / اللّغة المتموّجة ووقعنة الخيال

يقول أنور غني الموسوي في مقال بعنوان " السّرديّة التّعبيريّة وأسلوبيّاتها: " ... وما الانزياح إلاّ شكل من أشكال التّعبير بواسطة الخيال، إذ أنّ العلاقة الانزياحيّة خياليّة كما هو حال المجاز، إذ لا ريب أنّ هناك لا ألفة بين المجاز و ذهن القارئ، لذلك لا بدّ على النّصّ أن يطرح مجازه بشكل واقعيّ، طرح المجاز وهو علاقة خياليّة يصورة واقعيّة هو ( وقعنة الخبال ) ... ويمكن وصف حالة تحقيق الألفة للاألفة التي يتميّز بها الخيال التّعبيري بأنّها حالة وقعنة له ... " ويضيف لاحقا: " إنّ اللّغة المتموّجة التي توفّرها السّرديّة التّعبيريّة، و التي تتناوب بين مفردات وتراكيب توصيليّة و أخرى مجازيّة انزياحيّة، يعطيها ميزة لا تتوفّر في الشّكلين الآخرين من الكتابة، أقصد السّرديّة القصصيّة و الشّعريّة التّصويريّة، فالأولى ليس لها إلاّ أن توغل في التّداوليّة و التّوصيليّة وتخفّض من مجازها والثّانية ليس لها إلاّ أن تتعالى في المجاز ... " ( شموس نيوز ... ) في النّصّ بعنوان " رؤى " ص80 تتجلّى اللّغة المتموّجة ويتشكّل الخيال بعبارات واقعيّة حيث تلاعب الشّمس الطّيف السّارح في تفاصيل الكون ويتدلّى على كتفيها " شال " عشتار " القزحي، العبارات واقعيّة من المعجم المستخدم على نطاق واسع ( تلاعب، الطّيف، يتدلّى، شال ) هذه العبارات وظّفت في سياقات مجازيّة مثل (الشّمس تلاعب الطّيف السّارح في تفاصيل الكون ) وهي في الواقع لا تلاعب أيّ طيف، تم إسناد الفعل لغير فاعله، وهي لا تضع شالا على كتفيها ولا علاقة لها بشال عشتار " قوس قزح " إلاّ من زاوية المجاز ... تقول الكاتبة في المقطع الثّاني من النّصّ " رؤى ": " واثقة الخطى تقتحم باحة الخصب الغافية. عن وجهها ترفع ستار العتمة. ومضة حدس، تلمع في الذّهن فكرة، رحلة البدء تنشد المنتهى. " بمفردات من الكلام المستخدم في الواقع تشكّل الكاتبة انزياحا لا يستجيب لما ينتظره المتلقّي حيث يبدو التركيب الأخير" رحلة البدء تنشد المنتهى " غير مناسب لما يأتي قبله " ومضة حدس، تلمع في الذّهن فكرة " وكأن لا علاقة بينهما، ممّا يظهر غير مألوف للمتلقّي من قبيل الشّفرة التي يستدعي فكّ طلاسمها توظيف آليّة التّأويل بالعودة إلى الشّمس وترحالها اليوميّ حسب ما يظهر للعيان بفعل دوران الأرض حول نفسها. ويتأكّد ذلك التّمشّي في المقطع الرّابع " في حضن الأفق يفتح الفنّ ذراعيه، يحضن البشر وليدا، " موناليزا " جديدة منها يغار ألق الفجر " مجاز بديع " يفتح الفنّ ذراعيه " وانزياح لافت في " موناليزا " جديدة منها يغار ألق الفجر " تظهر " موناليزا " في سياق غير متوقّع لكنّه جميل يفاجئ أفق الانتظار ويفتحه للتّأويل من خلال ربط الكلام بالكلام والإمساك بالخيط النّاظم لهذا السّرد التّعبيريّ العجيب. في هذا النّصّ " رؤى " ونصوص أخرى شبيهة به تتجلّى اللّغة المتموّجة خير تجلّ حيث تتناوب التّراكيب التّوصيليّة والتّراكيب المجازيّة الانزياحيّة فيما رأيناه أعلاه مثال: " تلمع في الذّهن فكرة " / تركيب توصيلي، و " رحلة البدء تنشد المنتهى " / تركيب مجازي.

2/ اللّغة المتوهّجة / لغة المرايا و النّصّ الفسيفسائي

يقول " كريم عبد الله " في تقديمه لنصوص جميلة بلطي عطوي " همس المرايا " تحت عنوان " الكتلة التّعبيريّة المتوهّجة: " ففي قصيدة ( غربة ) نجد هذه اللّغة المشرقة بالتّوهّج ... ويضيف بعد عرض النّصّ، ... نجد هنا لغة زاخرة بالدّهشة والتّكثبف تأخذنا بعيدا إلى عوالمها الجميلة، إنّ هذه الكتل التّعبيريّة تتميّز بمفرداتها المتناوبة بين الدّهشة و التّوهّج الجماليّ والفنّيّ، وتبرز أكثر من خلال الفقرات الكتابيّة التي تشكّل عمقا فنّيّا على شكل كتل تمتاز بعذوبتها و طراوتها وانسيابيّتها الجميلة " ( التّقديم ) ص10 ونلحظ ذلك في نصوص عدّة نذكر منها النّصّ بعنوان " الظّلّ " صص17-18 ففي المقطع الأوّل منه من " شاقها لون السّماء، ... " إلى " والأمل في يدها تتوكّأ عليه فيقيها المطبّات والحفر. " تتوهّج اللّغة أيّما توهّج ويندهش متلقّيها إذ هي تتدفّق من أعماق الشّعور القلق : " أطلّت من نافذتها فهالها لون رصاصيّ يسربل القبّة. اكفهرّ وجهها وهي تتابع الظّلّ يكتسح كلّ شيء، تنهّدت. هاهو يطبق على أنفاسها مثل كلّ مرّة، ضيق يلازمها منذ فقدت الأرض زينتها، هو يعلم مدى حبّها للصّفاء كما يدرك أنّها عنيدة ولن تتوانى في إيجاد المخرج. " وتتوهّج اللّغة في إدهاش لافت في المقطع الثّاني: " كلّما تقدّمت حفّتها فراشات بألوان الطّيف، هزّت الأجنحة فانساب النّسيم عليلا يملأ الصّدر، يجلي الضّباب فتسقط الغشاوة، تنفتح العين على البهجة المفقودة. سماء ربيعيّة، شمس درّة على جبين الأفق وشعاع يلثم الهام فتنتشي القمم. "

... وحول لغة المرايا والنّصّ الفسيفسائيّ يقول كريم عبد الله في مقاله الصّادر بالنّاقد العراقي حول الذّاكرة الشّعريّة ( لغة المرايا والنّصّ الفسيفسائيّ ) عند الشّاعرة جميلة بلطي عطوي في نصّها " أتوق إليك ": " في هذا النّصّ نجد ( التّسجيل المرئي ) حاضرا عن طريق الصّور الكثيرة والمعلومات الحسّيّة المتكرّرة وكذلك البصريّة، فمن خلال كلمات الشّاعرة والتي عبّرت عن حالتها النّفسيّة الدّاخليّة، ومدى تأثيرها في سلوكها وطريقة تعاطيها مع الواقع بعد أن كان للذّكريات صدى الماضي البعيد وهو يرنّ في الذّاكرة، لقد استطاع هذا ( التّسجيل المرئيّ أن يحرّك مشاعر المتلقّي ويستحضر الذّكريات ويؤثّر فيه ويحرّك مشاعره الدّفينة وأن يستثير الذّاكرة. كلّ هذا جاء من خلال ( لغة المرايا و النّصّ الفسيفسائي )، وتداخل ذكيّ ومحسوب بعناية فائقة من الشّاعرة في مقطع ( بوليفوني متعدّد الأصوات ) " النّاقد العراقي 30 / 09 / 2020. وتزخر نصوص " همس المرايا " بمثل هذه اللّغة / لغة المرايا، وبالنّصّ الفسيفسائيّ، حيث تحفر الكاتبة عميقا في الذّاكرة وتستحضر ذكريات بعيدة من خلال تنشيط مرايا الرّوح والشّعور العميق ففي النّصّ بعنوان " لن يموت الياسمين " صص19-21 تتعدّد الأصوات: الرّيح العاتية تلتفت يمينا وشمالا وتقول: " ؟أين البناءات؟ أين الشّجر؟ و صوت البرعم: " من تحت الرّكام أطلّ برعم صغير. قال: مرحبا، من هنا؟ لم أتيت؟ هل أنت الصّبا العليلة التي كانت تداعب أغصان أمّي، تلاعب أوراقها و أزهارها فتفرح وتضخّ عبيرا يفعم النّفوس؟ أم أنت العاصفة التي يرتجف لها الجميع ... " كما يتضمّن النّصّ وحدات نصّيّة مختلفة تنظر إلى الخراب الذي حلّ بالأرض من زوايا متعدّدة، زاوية نظر العاصفة التي جاءت لتمارس التّخريب لكنّها تراجعت لهول ما رأت من دمار حلّ بالأرض، ودعت الشّمس والنّهر و القمر والنّجوم قائلة: " أحيّائي تعالوا معا نردّ اعتبار الرّبيع،... ونقول للشّرّ خسئت لن يموت الياسمين " وزاوية نظر البرعم الذي كان يعرف من ألحق بالأرض الخراب الكبير يقصد الانسان ابن الأرض الذي وسمه بالعقوق قائلا: " بعينيّ رأيت العقوق يتجبّر. بأذنيّ سمعت فلذات الأكباد تتنمّر، هل سمعت بحياتك عن ابن يقتل أمّه،عن أخ يهتك حرمة أخته، عن ابن يقطع رأس أبيه. " في هذا النّصّ السّرديّ التّعبيريّ وفق التّصنيف المشار إليه أعلاه تتحدّث الكاتبة عن الضّرر المخيف الذي يلحقه عبث الانسان بالمحيط الذي يعيش فيه، من خلال استحضار لافت لكليلة ودمنة عبر جعل الكائنات الأخرى تتحدّث بدل الانسان، في تشخيص طريف،وبأسلوب حواريّ بين كائنين مختلفين في القوّة والتّأثير في العالم ( العاصفة و البرعم ) وظّفت الكاتبة السّرد للفت نظر المتلقّي إلى الخطر الذي يتهدّد البيئة داعية إيّاه على لسان العاصفة و البرعم إلى حماية عالمه في قول مؤثّر وكأنّه شعار إشهاريّ: " خسئت. لن يموت الياسمين. "


على سبيل الخاتمة

" همس المرايا " نصوص في السّرد التّعبيريّ خاضت من خلالها الكاتبة مغامرة التّجريب، الشّعر بأسلوب النّثر، مستلهمة تجارب عربيّة أخرى من خلال الانخراط في الموقع الافتراضيّ الذي تمّ تأسيسه في جوان 2015. في نصوص " همس المرايا " وظّفت " جميلة بلطي عطوي " خصائص السّرد التّعبيري الفنّيّة، ونجحت في تحقيق ذلك في النّصوص القصيرة وفي نصوص متوسّطة الطّول مثل " همس المرايا " و " ذات وسبات " و " لن يموت الياسمين " ... وبدت مختلف النّصوص ذات ملامح خواطريّة، إذ أنّ النّصوص من هذا القبيل هي خواطر ذات ملامح شعريّة، فهل يمكن الحديث عن علاقة أكيدة بين الخواطر والأدب السّردي التّعبيري؟ هل يمكن اعتبار النّصوص السّرديّة التّعبيريّة خواطر بالأساس، خواطر تدور في فلك الشّعر في الوقت الذي لا يمكن اعتبار الخواطر كلّها نصوصا سرديّة تعبيريّة؟ ثمّ ما هي العلاقة بين السّرد التّعبيري وقصائد نثر الحداثة وما بعدها؟ وهل بالإمكان السّير في طريق النّصوص المفتوحة على أجناس عدّة؟ هل تمضي بنا " جميلة بلطي عطوي " في هذا الأفق بعد أن تجذّر التّجربة في نمط الكتابة السّرديّة التّعبيريّة؟



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق