الجمعة، 30 يونيو 2023

قراءة بقلم الناقد الأردني هاشم خليل عبد الغني لقصيدة "سَأُخْبِرُ هَذَا الْمَسَاءَ...." للشاعرة والكاتبة التونسية سليمى السرايري

 قراءة بقلم الناقد الأردني هاشم خليل عبد الغني لقصيدة
"سَأُخْبِرُ هَذَا الْمَسَاءَ...."
للشاعرة والكاتبة التونسية سليمى السرايري
حين تقرأ للشاعرة سليمى السرايري ،تشعر بمتعة شائقة من التذوق الشفيف للغة إبداعية دافقة تكشف عن مضامين موضوعية إنسانية في نصوصها، تعالج من خلالها الذات الإنسانية، وعالمها الإبداعي متماسك البناء ومتنوع الينابيع.
في قصيدة (سَأُخْبِرُ هَذَا الْمَسَاءَ) جسدت الشاعرة أحاسيسها العميقة الناعمة، التي تحمل أسرار النفس الإنسانية البسيطة، المعبرة عن جمال الحياة وبساطتها. في الريف التونسي الجميل.
وتكشف عن جوهرِ الروحِ والإنسانِ، بأسلوبٍ معبرٍ وشاعريٍّ، فنجدُ في كلِّ كلمةٍ روحَ الشاعرةِ الملهمةِ، وقلبَهُا المتيّمِ بالإبداعِ والجمالِ، فترتفعُ روحُ الشعرِ بينَ السماءِ والأرضِ، في هدوء المساء وسكون الليل، حكايات تخبرنا أنَّ الأماني مهما تأجلتْ. سيأتي فجرها لتشرقْ.
ماذا ستخبرنا الرقيقة سليمى السرايري هذا المساء ؟؟
الشاعرة " السرايري «التي تقف أمام ذاتها، تحاول الكشف عن القيم النبيلة في الانسان للتعبير عن انفعالها بما حولها، نحن هنا أمام معانٍ إنسانية يتحتم الالتفات إليها والتمعن فيها. معانٍ تؤشر أن هذا المساء الجميل حافل بينابيع العاطفة والرفق والطهر، برفقة الأمل والثقة وبتهيئة أرض الحزن المثقلة بالهموم ـ لتكون صالحة لفلاحة الأحلام والآمال، لتنضج ويطيب قطافها، تهيئة لحياة روحية، حياة مرتبطة بما هو ذهني، بعيدة عن كل ما هو مادي وحسي.
وتضيغ الشاعرة خلال مدة من زمن هذا المساء الجميل، الذي منحني فرصة مثالية، توقفت لأكتب أغانٍ لأطفال طيبون وطاهرون، ذات محتوى راقٍ، تدعم نموّهم العقلي واستقرارهم النفسي كما سأروي لهم قصص العشق والهيام،التي وصلت إلى طريق مسدود وانتهت بشكل مأساوي.
سَأَمْسَحُ بِكَفِّي، عَلَى خَدِّ هَذَا الْمَسَاءِ الْجَمِيلِ
وَأُتِي بِالحَدِيقَةِ لِكَيْ تَيْنَعَ أَعْشَابُ قَلْبِي الْحَزِينِ
سَأَرْسُمُ عَلَى شُبَّاكِ رُوحِي شَجَرَةً لِلْعَصَافِيرِ وَالْيَمَامِ
وَأَمْكُثُ بُرْهَةً مِنَ الْوَقْتِ
لِأَكْتُبَ أُغْنِيَةً لِمَلَائِكَةٍ صِغارٍ
مُعَلَّقِينَ كَهَالَاتِ الكَوَاكِبِ فِي السَّمَاءِ
سَأَضَعُ فِيهَا فَاكِهَةً وَحُبَيْبَاتِ أَنْجُمٍ
وَحِكَايَاتِ العَاشِقِينَ الَّذِينَ اغْتَالَهُمْ الْحُبُّ
وتتابع السراري في هذا المساء (والسكون الذي يحيط بالمكان والهدوء الصامت)، تتابع البوح بما تشعر به وتعيشه من لحظات خاصة تصفو بها النفس، فتخبر المساء عن أجمل ما يُقالُ بين العُشاق من تخيلات وآمال واحلام، وما تحمله هذه التخيلات من قيم ومعانٍ ، فالأحلام أحيانا تكون نوعاً من أنواع التمني والرجاء، كما ستخبره عن عرافات الكف " قاراءات خطوط اليد للتنبؤ بالمستقبل " في الحي القديم، اللواتي طرأ عليهن التحول السريع، من الفقر إلى الغنى ويعشن في خير عميم، وثراء فاحش محرم.
وَمِنَ الْأَلْوَانِ سَأَرْسُمُ سِلَالًا مُعَبَّأَةً، بِطَائِرَاتٍ وَرَقِيَّةٍ
لِأَطْفَالٍ مَاتُوا قَبْلَ الْوِلَادَةِ بِقَلِيلٍ . . .
وَسَأُخْبِرَهُ عَنْ أَحْلَامِ الصَّبَايَا اليَافِعَاتِ
وَعَنْ عَرَّافَاتِ الحَيِّ الْقَدِيمِ . . .
اللَّوَاتِي تَرْكَنَ أَسْمَالَهُنَّ الْبَالِيَةَ،
وَرَكَبْنَ الثَّرَاءَ المُحَرَّمَ
تواصل الشاعرة وقفتها مع المساء، وقفة للتعرف على الآتي وتَقيم واسترجاع الماضي، وكأني بالشاعرة تتساءل كيف سأرتب خريطة حياتي الجديدة؟ المقرونة باسترجاع الذكريات، سأخبرهاالمساء، عن احلامي (الضائعة) التي لم تنبت بعد، المعطلة والمتوقفة تماماً، والتي طال انتظارها. انتظار طاقة الفرج، ولكن الحظ لم يحالفها للآن، والتي ظهرت ملامحها في وجه الشاعرة.
ولكن السرايري. رغم الصعاب تؤكد لا زلنا وأن ذبلنا على عهدنا عهد الأمل ،ولا زالت قلوبنا تشتاق لأحلامها الضائعة ولأيام كانت تجمع قلوبنا بروح هائمة، (روح والدي). فلا زالت لدى سليمى القدرة على الاحتفاظ بالتجارب السابقة واستعادتها ....
سَأُخْبِرُ هَذَا الْمَسَاءَ الْجَمِيلَ،
عَنْ مَلَامِحِي الضَّائِعَةِ
وَوَجْهَي المُعَلَّقِ فِي سَقِيفَةِ الْعَالَمِ، وَحِيدًا . . .
عَنْ جَسَدِي الَّذِي صَارَ نَخْلًا يَلْثُمُ سَمَاءَ الْبِلَادِ
وَعَنْ أَصَابِعِي الْمَمْلُوءَةِ بِرَائِحَةِ أَبِي
وَبالْيَمَامِ الَّذِي عَشَّشَ فِي سَطْحِ الذَّاكِرَةِ . . .
كما تشير الشاعرة إلى انها ستُعلِمَ أي (تخبر)المساء، عن ليالي السمر التي يقضيها الناس فيما بينهم وهم يتحدثون ويتناجون بكلام زائد لا فائدة منه، كما ستخبره عن السرقات الشعرية المستمرة وشعراء الغفلة، ومرد ذلك تعدد منابر النشر، وكثرة الشعراء وأدعياء الشعر والدخلاء من كلا الجنسين.
سَأُخْبِرُهُ، أَيْضًا عَنْ الأَمَاسِي المَحْشُوَّةِ بِالْأَحَادِيثِ
وَالْقَصَائِدِ الْمَسْرُوقَةِ مِنْ دَفَاتِرِ الرَّاحِلِينَ
وَعَنْ الشُّعَرَاءِ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ إلَى لُغَةٍ عَلَى حِيطَانِ التَّمَنِّي
تخبر الشاعرة " السرايري " المساء، عن نفسها وعن عطائها الشعري ومشاعرها واحاسيسها الذاتية التي تجول في خاطرها، فهي لا تستطيع فصل نفسها شعريا عن هموم ومآسي وأفراح بني جلدتها (الأمازيغ).فشعرها أثقلته الهموم والأحزان كما انفرط عقد قومها بسبب تشتتهم وضياع أمانيهم واحلامهم.
سَأُخْبِرُ هَذَا الْمَسَاءَ،
عَنْ جَمِيعِ قَصَائِدِي المُنْفَرِطَةِ كَعِقْدٍ أَمَازِيغِيٍّ
فِي الْمَسَافَاتِ الْفَاصِلَةِ
وَفِي أَزِقَّةِ الِانْتِظَارِ الْمُثْقَلِ بِالْأَمَانِي
وَفِي وَجَعِ الْأَصَابِعِ الآثِمَةِ
السرايري تقول للمساء أنا برفقتك هذه الليلة، فأنت رمز للهدوء ورمز للراحة، فأنا انتظرتك بعد يوم من العناء والتعب، لأخبرك أني ابحث عن هويتي وعن صفاء ذهني وعن ذاتي لأكتشفها، فأنا امرأة ابحث عن العدالة والحقيقة، وهل يمكن الوصول إليها؟
الحقيقة نجدها لدى شرائح كبيرة من البسطاء، الأقوياء الذين يعافرون ليلاً نهاراً للحصول على لقمة العيش، ومواصلة الحياة دون كلل ولا ملل، كبائعي الياسمين في الشوارع، وماسحي الأحذية وغيرهم من الطبقة العاملة.
هَا أَنَا هُنَا أَيُّهَا الْمَسَاءُ
أَمُوءُ كَقِطَّةٍ جَائِعَةٍ عَلَى أَرْصِفَةِ الْفَرَاغِ
فَدَعْنِي أَدْنُو مِنْ الْحَقَائِقِ الْمَرْسُومَةِ فِي المَرَايَا
وَفِي وُجُوهِ بَائِعِي الْيَاسَمِينِ فِي الشَّارِعِ الكَبِيرِ
فِي اِبْتِسَامَةِ مَاسِحِ الْأَحْذِيَةِ الَّذِي أَضَاعَ عُمْرَهُ
وَظَلَّ يَبْحَثُ عَنْهُ بَيْنَ الْكَرَاسِي وَالطَّاوِلَاتِ
أيها المساء إني أبحث في عمري الذي مضى، عن عذاباتي وقهري ونزف جراحي، واحلام الصبا، وعن الهدوء والبساطة في قريتنا في الجنوب التونسي، وعن مكابدة الحرمان والتهميش في طفولتي الضائعة، التي أخرستها آلامها وأمالها للأبد، وما زالت اثارها تلازمني على المستوى النفسي والجسدي.
دَعْنِي أبْحَثُ عَنِّي
فِي تَجَاعِيدِ الْعُمْرِ،
فِي أَبْجَدِيَّةِ النَّعْنَاعِ الْحَزِينِ
فِي أُصُصِ الطِّينِ
وَخَوَابِي الزَّيْتُونِ فِي بَيْتِنَا بالجَنُوبِ.
فِي طُفُولَتِي الضَّائِعَةِ هُنَاكَ
وتواصل الشاعرة البحث عن ذاتها، من خلال أيام عاشتها في قريتها تمزرط، الغارقة في التاريخ(الأمازيغي) المتجذرة في التقاليد والعادات القديمة، واساليب الحياة المتنوعة، فهل تجد الشاعرة ذاتها في الثقافة الشعبية، من عادات وتقاليد أمازيغية ؟ نعم فهي تبحث أيام طفولتها من خلال معتقدات وكائنات خرافية وأسطورية، اختلقها الخيال الشعبيّ فيما مضى من أزمنة،
وهذه الخرافات ترتبط على الأغلب بقصص الجدّات، وحكايا الأطفال التي كانت تُروى لهم ليناموا، كأسطورة( عمرالغول) واسطورة (زيتونة الجحفة) أو في شبح (الجِنِيَّهْ الفاتنة) أو في حكاية (تكروث الأطفال) تلك الحكايات الشعبية، القابعة على ...
أَبْوَابِ "أَحْوَاشِ" القَرْيَة.
وَفِي اكْتِمَالِ أَسَاطِيرِ "عمُرْ الغُولْ"
و"زَيْتُونَة الجَّحْفَة"
وشبح "الجِنِيَّهْ الفاتنة " الَّتِي تَقِفُ لَيْلًا فِي مُفَتَرَقِ الطُّرُقِ
و " تَكْرُوثْ الأَطْفَالِ"
القَابِعَةِ عَلَى أَبْوَابِ "أَحْوَاشِ" القَرْيَة
تواصل الشاعرة البحث عن ذاتها، وذات مساء تفتح نوافذ ذاكرتها، وتستذكر أيام خلت في قريتها، المشيّدة بدفء قد انبعث من أيدي ساكنيها، فجعلها أجمل البيوت رغم بساطتها، المحفوفة بالكرم والعطاء، قرية يكمن فيها الدفء وأصالة الأجداد، رغم صغر مساحتها وقلّة سكّانها، في هذا الجو الحميمي تخاطب السرايري المساء وتطلب منه أن تجد نفسها في مظاهر حياة أهل قريتها المتواضعة، هل تجد نفسها في بيوتها المبنية من الحجارة ؟ أم تجد نفسها في الخدمات والمرافق البسيطة، التي تخلو من الترف والتعقيد.
دَعْنِي أبْحَثُ عَنِّي
فِي الْقَنَادِيلِ الْقَدِيمَةِ المَسْحُورَةِ
فِي شِهَابِ فَتِيلِ زَيْتٍ ظَلَّ يَرْقُصُ زَمَنًا
حَتَّى تَحَوَّلَ إلَى عُصْفُورٍ، طَارَ مِنْ ثُغْرَةٍ فِي الْجِدَارِ.
تخاطب الشاعرة المساء النقي كنقاء ونعومة اللؤلؤ وجماله، بشكل مباشر، َسأُخْبِرُك أَيُّهَا المساء عن الاضطرابات النفسية التي صاحبتني وأنا أحمل حقائبي سفري المعبأة بشقاء الروح، والتوتر والارتباك، في محاولة لنسيان الماضي، وبدء حياة جديدة، حقائبي المعبأة بذكريات واحلام اطفال قريتنا، والمثقلة بحكايات جدي الكبير المتناسقة الجميلة، التي توجهنا للصح كي نفعله وتبعدنا عن الشر كي نتجنبه.
وسأخبرك أيها المساء عن علاقتي المميزة بأمي، سأخبرك برغباتها وأمنياتها الطاهرة، المملؤة بالحب والحنان والإخلاص ،المرأة التي تربطني بها علاقة عظيمة جداً، أمي التي غمرتني بدعائها وتضرعها إلى الله عز وجل، بأن يوفقني، في صحتي ورزقي.
سَأُخْبِرُكَ، أَيُّهَا الْمَسَاءُ اللُّؤْلُؤِيُّ،
عَنْ حَقَائِبِ سَفَرِي الْمُعَبَّأَةِ بِالنِّسْيَانِ
بِرُؤَى الْأَطْفَالِ
بقَطَعِ الطَّبْشُورِ،
بتَرَاتِيلِ جَدِّي الْكَبِيرِ...
وَأُمْنِيَاتِ أُمِّي المُقَدَّسَةِ كَكَمَنْجَةٍ نَاشِجَةٍ
تُرْسِلُ دُعَاءَهَا لِلسَّمَاءِ، فَيَنْزَلِقُ الْكَوْنُ بَيْنَ يَدَيْهَا ...
وَتَمْتَلِأُ عَيْنَاهَا اللَّوزِيَتَانِ بِأَشْجَارِ التُّوتِ
بِسَنَابِلِ الْقَمْحِ وَأَغَانِي عَرُوسِ السَّوَاقِي الْبَعِيدَةِ
هُنَاكَ أَيُّهَا الْمَسَاءُ،
سَمِعْتُ دُعَاءَهَا كَالْكَرَوَانِ
وَهِي تَرَسُمُ وَرْدَتَيْنِ لِشِتَاءٍ قَادِمٍ
وَتَمْلَأُ جِرَارَهَا بِالدِّفْءِ لِسِرْبِ الطُّيُورِ
بعد ان عبرت الشاعرة عن مشاعرها من خلال إدراكها للأحداث التي عاشتها، واستذكارها لكثيرمن العادات الريفية ،وإشارتها لبعض الأساطير الشائعة في قريتها، وللأثر الذي تركته والدتها ووالدها في تنشئتها وتشكيل شخصيتها، لتسير بثقة نحو اهدافها بروية وتدبر.
تنهي الشاعرة حديثها مع المساء بمخاطبته، بشكل مباشر
مؤكدة على ضرورة السرعة في التغلب على التحديات والصعوبات ومواجهتها، وقطع دابرها، وذلك باستنباط أفكار ونصائح بسيطة خفيفة، لتكون المعين الأكبر عند المرور بالصعوبات والتحديات، وطريقا مضيئا تعكس فيه إدراكنا لمظاهر التخلف والتردي، في شتي مناحي حياتنا، لنتعامل معها ونفضحها لتكون طريقا لعودة الوعي، وبارقة أمل لمن عميت أبصارهم عن الحقيقة، ولتكون انطلاقة لحياة أبدية جديدة هانئة وسعيدة.
أَيُّهَا الْمَسَاءُ
سَأَقْتَطِعُ الْآنَ أَذْنَابَ المَجَرَّاتِ،
فَوَانِيسَ ضَوْئِيَّةً
أَرْسُمُهَا تَمَائِمَ شَوْقٍ لِلْمَكْفُوفِينَ
وَأَمْضِي نَحْوَ شَبَابِيكِ الْحَقِيقَةِ
أُغَنِّي لِلْأَبَدِيَّةِ.
يتبين مما تقدم أن القصيدة حافلة بالمحاور المتحركة ، الممتلئة بالحكايات والذكريات ، فالشاعرة التقطت الشيء البسيط المؤثر وتأملته بشعرية وإنسانية حساسة، ليتفجر شعاعا من الحدث الحياتي البسيط جدا، ولينتقل بعدها للأكبر والأعمق ،في محاولة للغوص فيما هو متشابك مع الميتافيزيقي والأسطوري والإنساني العاطفي، لتظهر لنا دلالات هذه الأشياء البسيطة ..لتصبح ضمن البناء النصي المتقن ... بلغة بديعة معبرة  ،تدعو الى التّأمل و الغوص في أغوارا لنص و التفكير في معانيه المتعددة.

بقلم : هاشم خليل عبد الغني



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق