الإبداع النثري..وسؤال الإدراك الأسطوري والمعرفي.. لدى الكاتب السعودي المتميز خالد أحمد اليوسف*(الجزء الأول من دراسة مستفيضة حول المنجز الإبداعي للكاتب)
قد لا يحيد القول عن جادة الصواب،إذا قلت أنّ القاص والروائي السعودي خالد أحمد اليوسف بمثّل على خريطة الإبداع السعودي أيقونة مهمة لها خصوصيتها،وحالة خاصة من حالات الشأن الإبداعي الذي يجمع داخله ما بين المتخيل والسيرة ووقائع اجترار تاريخ الذات الاجتماعي والأيديولوجي في تجربة إنسانية وإبداعية مستمدة من واقعه الخاص الذي عاشه فعلا ومازال يعايش فيه مراحل تحولات حادة في الزمن العربي المعاكس..
وتمثّل مرآة الذات التي انعكست عليها مسيرة حياته الحافلة والمفعمة بالإبداع في تجلياته الخلاقة بؤرة كبيرة انعكست بدورها على إبداعه السردي في المقام الأول وشكّلت عالمه الإبداعي الخاص ،كما تمثّل صورة الآخر في منجزه الإبداعي جانبا مهما استعاده- الأستاذ خالد-في نسيج أعماله النثرية جميعها،وجسّد من خلاله تجربة لها أبعاد متعددة كان لها تأثيرها الخاص على إبداعه القصصي والروائي على وجه التحديد،بل وعلى ملامح أخرى من منجز الإبداع العربي المعاصر.
وذات خالد أحمد اليوسف- في حد ذاتها وهو الباحث عن نفسه،والمتفتح على الآخر وعلى العالم من حوله،تريد أن تدرك المعنى وتمتلكه.فكل علاقة للذات بذاتها هي علاقة بالعالم والآخر،كما أن كل علاقة بالآخر هي علاقة بالذات.وهذا (الازدواج) تعبير عن وحدة صميمية مفقودة بين (الأنا) و(الآخر) في عالم تشترك فيه أكثر الدلالات النثرية لدى القاص والروائي السعودي خالد أحمد اليوسف برموز متماثلة،وهو شعور يتجاوزهذه الدلالات ،والإيحاءات بإستمرار نحو تأكيد خصوصية الوضع البشرى،حيث يكون الإنسان غائبا عن ذاته.
يعيش الكاتب السعودي الكبير -الأستاذ خالد-نصه الإبداعي كما يجب أن يعاش،و”يسرد” وّيروي” ،وكانت ذاته في خضم هذا-الطوفان الإبداعي-مرآة للواقع الذي اختاره هو والذي كانت سطوة الآخر بصورها المختلفة دائما ما تشكّل تجاهه عقبة كؤود لواقع ما كان ينشده.فنراه يعيش شتات الذات ويرتطم بالآخر في شتى صوره،ويحاول هذا الآخر في ذات الآن بشتى الطرق أن يسقطه ويكسّر حدة تمرده،ومن ثم نجح المبدع-خالد-في تجاوز العقبات متمترسا خلف قلمة ببراعة وإقتدار،كما جسّد خطوطه برؤيته وفلسفته الخاصة،وقد انعكس ذلك كله على منجزه -السردي- الذى أبدعه عبر مسيرة حياتية لا تزال مفعمة-كما أسلفت-بعطر الإبداع.
وإذن؟
عالم الكتابة عند “خالد”إذا،هو عالم قائم بذاته،يكاد أن يكون معادلاً للمجتمع الخارجي ترتبط عناصره ارتباطاً سببياً ويستمد كل عنصر قيمته النسبية من علاقته بالأجزاء الأخرى،وتلتقي ممراته الجانبية وأزقته الخلفية بشارعه الرئيسي،فكل وقائعه منتظمة في إطار ثابت يحدد لكل واقعة وزنها الخاص،وقد تتساوى فيه إحدى النزوات الشخصية،فكل الأشياء المحيطة بنا قد اندمجت في شبكة من الدلالات الفكرية والإنفعالات الجاهزة؛ويتحدد شكل النص الإبداعي عند -خالد-بالفعل المتبادل بين الشخصية ووضعها،فنصوصه تتميز من زاوية رئيسية بالطابع الانتقالي،بالصراع بين عدة متناقضات،بذلك التيار المتدفق المتغير دائماً في مواجهة تداعيات الزمن وتقلبات الحياة،إن ملحمة الحياة الخاصة عند -خالد تتنفس بالدلالة العامة.
وليست -الحبكة النصية-عند -خالد أحمد اليوسف- إلا حركة المقدمات لتجنب نتائج وفقاً لمقاييس مضمرة،فإن ما يحدث في النهاية هو التعقيب الأخلاقي والفكري على سلوك الشخصيات،وهو لا يختلف في ذلك عن سائر كتاب الرواية البلزاكية،فالخاتمة يحددها السياق الموضوعي العام لكل لحظات الفعل المتعاقبة،تدفع أخلاقاً كريمة وتلتزم بقواعد اللعبة وتأخذ نجاحاً أو العكس..وهنا يتجانس الشعر بالرواية في علاقة حميمية من الصعب فصل عراها.
ومن هنا أبضا،فإن الحبكة القصصية وكذا الروائية-كما أسلفت- لدى -المبع السعودي الفذ-تنسج في صبر شبكة من “العلاقات”اللاواقعية خلف الإسهاب في سرد التفصيلات الواقعية،فالعلاقات السببية المحركة للواقع والمحددة للشخصيات تحتوي على تصورات مثالية عن الإنسان ومكانه في العالم،وهو يطبع بطابعه ما يسود تلك المرحلة من بحث عن قيم حقيقية في عالم يبدو زائفاً،بتحقيق الوفاق السعيد بين الإنسانية والأرض والسماء.
على سبيل الخاتمة:
ليس مشكلة في أن تستحيل-كاتبا مبدعا-،فالمفردات والألفاظ مطروحة على-رصيف-اللغة،لكن الأصعب أن تكون ذاك المبدع القارئ،وهذا الدور المزدوج يجعل -الكاتب-كرها ملتزما أمام قارئيه في أن يقدّم لهم قدرا معرفيا ومعلوماتيا مهما يشارف اكتمال ثقافة الآخر الذي يجد ملاذه المعرفي عند كاتبه،هذا الدور قام به -الأستاذ خالد- عبر مشروعه القصصي وكذا الروائي،ومن خلال -إبداعاته-المدهشة(وهذا الرأي يخصني) وكبار الكتاب والشعراء من أمثال توفيق الحكيم ويوسف إدريس وأدونيس ويوسف الخال ومحمد الماغوط مرورا بالاستثنائي محمود درويش وجمال الغيطاني وواسيني الأعرج وأحلام مستغانمي وغيرهم.. كانوا يمررون قدرا معرفيا مذهلا عبر سياقاتهم النصية الإبداعية أو السردية مستهدفين خلق حالة من الوعي المعلوماتي لدى القارئ الذي اختلف دوره عن السابق بعد أن استحال شريكا فاعلا في النص،غير هذه الشراكة الباهتة التي أشار إليها رولان بارت بإعلان موت المؤلف/الشاعر.
فالمؤلف أو الشاعر،لم يعد ميتا كما استحال في سبعينيات القرن الماضي،ولم يعد إلى أدراجه القديمة منعزلا عن نصه،بل هو الصوت الآخر الذي يدفع القارئ إلى البحث عن مزيد من التفاصيل واقتناص الإحداثيات السردية أو الشعرية بمعاونة الكاتب نفسه.
و-خالد أحمد يوسف-الغارق في تفاصيل الوطن وتراثه الأصيل والمنغمس في ذات الآن في العشق في آبهى صوره، استطاع أن يوفّر هذا الوعي المعلوماتي لدى قارئه،الأمر الذي يدفعنا بأن نجعله في زمرة الكتاب/المبدعين الحجاجيين،أي الذين يمتزون بإقامة الحجة عن طريق تدعيم الطرح الفكري بطروحات فكرية وفلسفية ذات شراكة متماثلة بعض الشيء..
يبدو هذا الطرح المعلوماتي في تفاصيل المشهد الإبداعي للكاتب-خالد- والذي نجح -السرد- بقوالبه أن يفرض سطوته وقوته القمعية في إحداث التأويل والإمتاع، ومن قبلهما الدهشة لدى القارئ من خلال الصورة والتصوير الفني لأحداث تبدو عاطفية محضة،وفيها يدعم -خالد أحمد يوسف- طرحه الفكري بأفكار ومساجلات فكرية تؤدلج الدور الثقافي للمثقف،وأنه ليس بالقطعية تنظيريا أو مكتفيا بالمتابعة بدون المشاركة في صنع العالم الإبداعي،وأنه بمثابة -أيقونة- شرعية للحراك المجتمعي الثقافي.
ختاما أقول أنّ المبد السعودي -خالد أحمد اليوسف-يؤسس-ببراعة واقتدار-لنص إبداعي مختلف،إذ تراه-أحيانا- أشبه بالمسرحيين وهم يدشنون أسسا لفنهم،فهو كذلك في معظم كتاباته،يعتلي مسرحا يكاد يكون أحيانا شعريا يقص التاريخ بعدسات غير متمايزة رغم أنها لا تدخل في قالب المسرح وكنهه،فهو لم يتبع القوالب الفنية الجاهزة لكتابة النص الإبداعي في مختلف تجلياته،بل عمد منذ البداية إلى تأريخ السرد والحكي عبر لغة "شعرية" عذبة تداعب الذائقة الفنية للمتلقي.
وأعتقد أن -الأستاذ خالد- منذ خطه لسطور نصوصه الأولى،وضع رهانات جديدة للنص الإبداعي وهي حضور المتلقي بقوة رغم انفصاله-أحيانا-زمنيا عن سؤال الوجع،وأنين الألم.
سُئل ذات مرة الشاعر محمود درويش، فأجاب بكل تلقائية، “نحن، حتى الآن، نحاول بكل الأشكال الشعرية الجديدة أن نقول سطراً واحداً للمتنبي. كيف؟ كل تجاربي الشعرية من أربع سنوات حتى اليوم (1982-1986)، كتبت حوالي المائة قصيدة، ثم انتبهت إلى أن المتنبي قال: (على قلق كأن الريح تحتي)”… !!؟ والشاعر،هو من يبني مجدا،ويترك خيرا،ويستظل تحت ظل كل الشعراء من جلجاميش حتى آخر يوم من سنوات عمره، فالموت حقيقة تُعلن نهاية سجال الحياة، والحب حُلم وغاية يلهث وراءه الإنسان، لأنّه بُرهان ودليل على البقاء والخلود، سواء علم بذالك أم لم يعلم، ومهما تطلب منه ذالك من تعب ومن صراع، يؤكد دوريش ذلك بقوله “سنكتب من أجل ألّا نموت،سنكتب من أجل أحلامنا” .. والقصصي والروائي السعودي -خالد أحمد اليوسف-يكتب لغد أفضل تشرق فيه شمس الحب والإنسانية على الجميع..
ولنا عودة إلى منجزاته الإبداعية عبر مقاربات مستفيضة..
محمد المحسن
*خالد أحمد اليوسف : كاتب سعودي،يكتب القصة القصيرة ، والرواية ،وحريص على تدوين الذاكرة الإبداعية ، بدأ شاعرا شعبيا ،ثم روائيا مرورا بالقصة القصيرة ،من عناوين مجاميعه القصصية ” مقاطع من حديث البنفسج “ 1984م”– أزمة الحلم الزجاجي 1987م “، و” امرأة لا تنام 1999″م ، كما صدرت له روايتان ، “وديان الإبريزي ” 2009م ، وأخيرا” وحشة النهار ”،أنجز انطولوجيا للقصة السعودية.
يقول في إحدى حواراته:"جاءت قصصي الأولى لتعبر عن حنين الطفولة، وحميمية المكان وجمالية اللغة وتمردها.."
قبعتي..يا خالد أحمد اليوسف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق