الـودق
( الجزء الأخير)
.........................
لم يكن النهار كما كان بالامس ولا قبله ، لم يكن الصباح كما كنا نراه ، لم تكن الساعات كما عهدنا ، كل شيء ما عاد كما كان ومضى ، هكذا كان اليوم كما مر في أوله على ( جواد ولهيب) بعد أن نظر كلا للآخر بنظرة أخفت كل الوجع والحسرة وآهات الشرود والخوف ، نعم لم يكن هذا اليوم ليشهد فرقة القلوب وضياع الأرواح وتياه الفكر وحرقة النفس التي غارت بلهيب ظل يسعر بلا انين ويأكل في الاحشاء كما تفعل النار في الهشيم .
تلك كانت سويعات الصباح الأولى حين جهزت ( لهيب) حقائب العودة بعد أن تركت في خاطرها كل احلام اللقاء وحنين دقائق اول نظرة علقت في مخيلتها ساعة ان رأت فيها (جواد) لأول مرة في أعتاب باحة أبواب المسافرين الواصلين في مطار المدينة ، عجبا لتلك الدقائق من الوقت التي مرت به كأنه شريط حلم سجلته مخيلة ( جواد) في طرف آخر وهو ينظر إلى ( لهيب) التي كانت بجانبه في الباص بعد أن شردت منه كل حروف الهجاء وسافرت كما رحلت مخيلته إلى حيث امل ورجاء في قابل الايام لموعد لقاء عسى أن يكون قريبا .
مر الوقت مسرعا باتجاه مطار المدينة والباص الذي حملهما بالامس هو نفسه الذي سيلفظ بهما ثانية إلى حيث يفارق كل منهما الاخر بطريق لا يعرف اتجاهاته الا أنفاس صارت تلفظها ( لهيب) بأسىَ وحرقة وهي تضع برأسها على كتف ( جواد) داخل الباص الذي طار بهما من أجمل احلام اللقاء ليسابق الريح ويمتطي امواج السراب إلى حيث لا رجعة فيه ، وكأن ( لهيب) أرادت ان تخفي وجهها وتغمض عينيها حالمة بتلك الايام التي مرت كطيف في منام ولربما أرادت ان تخطف من ( جواد) بقايا عطر الخلود الذي ظل عالقا بين شهيق وزفير أنفاسها مواسيا لها جرح الفراق .
كان الترقب والخوف والارتباك واضحا في معالمه على ( جواد ) الذي استفزه خبر حاجته إلى باص ثان ينقلهما من جديد إلى المطار الذي يقع خارج المدينة والذي يتحرك بنظام الوقت الذي صار يحرج حركتهما ولربما لن يصل بهما حسب ما برمج أوقاته ( جواد ) ونظرات ( لهيب) لا تكاد تفارق تقاسيم وجهه الذي صار يلوح به عنها وكل هذا التخبط والارتباك حتى لايزيد في الكيل وزنا وتظهر في قسمات وجهه الذي علته سحنة من الغضب والتعصب ما يثير قلق ( لهيب) وتوترها .
في المطار كان الناس في زحمة وحركة وكانت وجوه المغادرين مثلها مثل رسوم الشجر على الماء ، فمرة تركد وتستقر ومرة تهيج وتضج وكان هذا ما ألفه ( جواد ) وامتص شيئا من ارتباكه ، وما أجمل وجه ذاك القمر الذي ظل شاخصا أمامه كلما دعته فرصة للنظر إلى ( لهيب) ليبتسم لها قائلا :
الحمد لله.. الحمد لله فلدينا وقتا نستطيع فيه ان نجلس قليلا في اي مكان نجده بين مقاعد الانتظار ، ابتسمت اليه ( لهيب) وهي تمسك بكيس كانت قد جمعت فيه زادا لمثل هذا الحال وقالت :
تعال حبيبي.. تعال ولا تضيع علينا هذه اللحظات ودعنا نتزود بما حملته من البيت فكلانا لم يأخذ فطاره كما كنا قد تعودنا ولتكن هذه مائدة الرحمة التي نتقرب بها إلى الله عسى أن يجعل لقائنا التالي افضل حالا واقرب موعدا .
كم كانت جميلة هذه الكلمات وقد احسنت ( لهيب ) التصرف في حينها حتى أخفت كل ملامح التوتر والقلق والارتباك وعاد إلى ( جواد) في لحظة، كل قسمات الأمان والراحة والسلام واستسلما معا لدقائق من الارتياح بعد طول الطريق وعناء النقل والانتظار.
لكن ما يكتب على الجبين لابد أن تراه العين كما يقول المثل، واشارة المغادرة بدأت علاماتها تظهر على شاشات القاعة الداخلية للمسافرين وصار لابد التحرك للبدء باجراءات المغادرة ودفع الحقائب وباقي الخطوات التي تنتهي بانفصال ( لهيب) التي تسبق في مغادرتها وقتا قصيرا عن مغادرة ( جواد ) الذي لم تعد قدميه قادرتين على الحركة ، كانت هذه اللحظات ربما هي الأشد عليهما ولكن لا محالة من المحاولة ثانية وقد ازفت لحظات الوداع ، لم يكن ( جواد) قادرا على معالجة مثل هكذا موقف وعمد إلى حركة أراد بها ان يختبر صبر ( لهيب) ويطمئن على مغادرتها بسلام قائلا :
ساتركك قليلا هنا ولازال لديك متسعا من الوقت ريثما اذهب لانهاء إجراءات سفري ودفع حقيبتي وسأعود إليك سريعا فلا تقلقي واطمئني ، كان هذا الحوار بينهما وهي تمسك بيديه وندى الدموع التي صارت تنهمر على خديها بصمت وانين يفجر في ( جواد) كل محاولاته للصمود والتظاهر برباطة الجأش والرجولة التي تحتم عليه مثل هذا التصرف في مثل هذه المواقف ، احس بارتعاش يديها التي ظلت ممسكة به وهو يردد لها بأني عائد إليك من جديد .
في تيهٍ ظلت ( لهيب) وتجمدت كل أطرافها ، واقفة شاخصة بعينيها إلى حيث كان مرور ( جواد) من أمامها ، هي تنظر إلى ما لا ترى منه غير شخوص متحركة وضجيج حركة المسافرين الذين كانت رحلتها معهم وأصوات لا تفقه من معانيها الا تلك الكلمات التي غفت ساكنة في خيالها وخطوات ( جواد ) الذي تركها قبل قليل في عالم لا تعرف فيه ولا عنه معنىً ولا دليل لها إلا ما تبقى من عطر يديه التي ظلت ممسكة بها لا تريد لها الأفلات ، لكنها بشرودها هذا احسّت بيدي ( جواد) يحتضن ذراعيها يعاود التعلق بها يشد عليها وكأنه يريد اعتصارها شوقا ولهفة ممزوجة بمعاني الألم والوجع والحسرة، كانت لحظات بل ربما دقائق غاب كلا منهما في دوامة تحاكي خاطره وتبدد الضباب الذي اسدل بحرقته على أرواح ما عرفت من اللقاء هذا إلا معاني الوداع ، انها فعلا دهرا من التيه والضياع وعمرا راح يغادر بلا استأذان إلى حيث لا يعرف وجهته ، أراد ( جواد) برجعته هذه ان يترك قبلة توهجت بنيران الشوق واللهفة وان يهمس في اذن ( لهيب) ان لنا لقاء يتجدد عن قريب..
....................................................
عبد الكريم احمد الزيدي
العراق /بغداد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق