على هامش المشهد التلفزيوني التونسي..!
سؤال يقض مضجعي :
هل نملك مشروعا ثقافيا يجعل من الذات الثقافية..موضوعا إبداعيا جماليا؟!
عاد الجدل مرة أخرى كما السنوات القليلة الماضية حول جودة الإنتاجات التلفزية،أمام تضارب الأرقام بين القنوات حول نسب المشاهدة.
"وفرة الإنتاج،الاحتكار،والقيمة الفنية"..هي جملة من الانتقادات الموجهة إلى القائمين على القطاع،أدت إلى تعميق الأزمة بين المشاهدين والتلفزيون التونسي..
والسؤال الذي ينبت على حواشي الواقع:
هل نحن فعلا أمام أعمال لها قيمة إبداعية تسهم في تطوير ذوق المتفرج،وتجعله يستمتع بما يشاهد بل وينمي رؤيته لذاته وللعالم ككل،أم أننا أمام أعمال قد يبدو أنها فيها جهد محدود ما هنا أو هناك،لكنها مجوفة،لا روح فيها ولا تُمارس "سلطتها" الذوقية والفنية والجمالية والإنسانية ككل على المتفرج..؟
هنا أقول : إن الإبداع عموما هو رحلة بحث وتكوين وتاريخ مشاهدة وإطلاع على الذاكرة الفكاهية والتاريخية والثقافية وكذا السياسية المتعلقة بذات المتلقي والآخر في أفق الإمساك عن فرجة تخلق التلذذ للمتفرج وتسمو بحواسه وتكونه بالتالي قيميا وجماليا وإنسانيا..
وهنا أتساءل أيضا: هل نملك،فعلا،مشروعا ثقافيا وبصريا وسمعيا إلخ،يجعل من الذات الثقافية موضوعا إبداعيا جماليا مولدا للعديد من الدلالات؟.
إن هيمنة البرامج التي توصف ب"الرديئة" مرتبط بتحولات التلفزيون التونسي الذي أصبح خاضعًا برمته لمنطق السوق وإكراهاته الخفية.وهو ما يعني بكل بساطة أن التلفزيون أصبح خدمة تقدم منتجات (في شكل برامج) لإستقطاب أكبر قدر ممكن من المشاهدين (مستهلكين) الذي يتحولون فيما بعد إلى سلعة تباع إلى المستشهرين،ما يعني أن التلفزيون قد فقد روحه أو الغاية التي وجد من أجلها.
إن التلفزيون مؤسسة سياسية واجتماعية وثقافية ذات أدوار أساسية في المجتمع: مصدرًا للأخبار عن الشؤون العامة وفضاء للنقاش السياسي،ومحملًا من محامل الثقافة الوطنية وجسرًا بين الناس وتراثهم وذاكرتهم ومرآة تعبر عن تنوع المجتمع.
ولكن..
إن الأسئلة التي يجب أن نطرحها على أنفسنا هي الآتية : من يجب أن يحدد مضامين التلفزيون وهويته وما يجب أن يكون عليه وما يجب أن نشاهد؟
هل يجب أن نترك مصير التلفزيون في أيدي قوى المستثمرين يصممون التلفزيون وفق أهوائهم ومصالحهم ثم مراقبة التجاوزات الحاصلة في مستوى المضامين؟ أم أن المجتمع يمكن له بواسطة التعديل أن يحدد بنفسه التلفزيون الذي يريد؟
لقد أجاب المرسوم 116 الذي ينظم قطاع الإذاعة والتلفزيون في تونس على هذا السؤال بشكل صريح لا لبس فيه لأنه تضمن هذا التصور المعياري للتلفزيون (أي بمعنى أخر ملامحه الكبرى وهويته وما يجب أن يكون عليه) بما أنه مرفق عمومي (بما في ذلك التلفزيون الخاص) حتى ولو كان لا يستخدم التمويلات العمومية أو شبكات البث الهرتزية.
ينص الفصل 15 من المرسوم المذكور على العديد المبادئ التي يستند إليها تعديل المشهد السمعي البصري ومنها دعم حقوق العموم في الإعلام والمعرفة من خلال ضمان التعددية والتنوع في البرامج المتعلقة بالشأن العام،والسهر على برمجة إعلامية دقيقة ومتوازنة، وتشجيع برمجة تربوية ذات جودة عالية،وأيضًا من الأهداف التي وضعها المرسوم للهيئة تنمية برمجة وبث يعبران عن الثقافة الوطنية ودعمهما.
وهنا أضيف : إن الناظر إلى المحتوى الذي يقدمه التلفزيون التونسي لفاتِحٌ فاهُ بسبب التفاهة التي تشعبت وتغلغلت في جذع أكثر البرامج التلفزيونية الهادفة،والتي لطالما امتزجت في مخيلة المشاهد التونسي بمصطلحي "الإفادة" و"الإمتاع".ولا يختلف اثنان حول كون التلفاز قادر على فعل الأمور العِجاب،لاسيما وأن منازل التونسيين لا تخلو من هذا الجهاز العجيب..
ولسائل أن يسأل،لماذا يسكت التونسيون عن هذه المهازل ويخيرون الصمت في ظل ازدياد عدد مشجعي فريق هذه البرامج؟ وما الذي يجعل أولي الرأي السديد والكلمة المسموعة في البلاد يغضون الطرف عن معضلة تساهم في تآكل المجتمع التونسي المترهل؟ كما أن ما يثير الدهشة حقا هو عدم وجود رادع لتنامي قدرة هذه البرامج على تحريك أساطيل الشباب على مواقع التواصل الاجتماعي وتحديد التوجهات السائدة.
وفي حين يثار الجدل حول أحقية المرأة التونسية في الميراث وفق معيار معدل حديثا، ويهاجر البلاد عشرات آلاف الأطباء والمهندسين والطلبة الأكفاء،فضلا عن تنامي معدلات القتل العمد بسبب أو بدون سبب،يبدو أنه من المنطقي التساؤل حول دور علماء الشريعة في البلاد وخفوت درجة تأنيب الوازع الديني لهم إزاء ما يحدث من هرج ومرج في الشاشة الصغيرة.
ومع ذلك،يعتقد خبراء الإعلام أن الترويج للمحتوى الرديء،أو التركيز على برامج الإثارة لا تتحمل مسؤوليته فقط أجندة وسائل الإعلام،إذ أن المتلقي بدوره أسهم في ذلك، بإقباله على هذه النوعية من البرامج،في الوقت الذي أبدى فيه عدم اكتراث لبرامج النقاش الجدية.وقادت هذه الأوضاع في النهاية إلى إنتاج محتوى إعلامي مرتبك بعيد عن مشاغل الشارع،ما جعل المواطن يهجر وسائله الإعلامية إلى وسائل التواصل الاجتماعي،وهي أكبر المستفيدين من استشراء ثقافة الإثارة التي وجدت مواقعها ملاذا لها،وتحول-موقع فيسبوك-بصفة خاصة إلى مصدر للمعلومة ومنافسا شرسا للصحافيين،كما تحوّل إلى مساحة حاضنة للرأي العام بكل اختلافاته وانقساماته..!
ويظل الحديث عن المحتوى الإعلامي مرتبطا-في تثديري-بانتظارات المتلقي،ويحتاج القائمون على الاتصال في وسائل الإعلام دائما إلى طرح سؤال “ماذا عن أجندة الجمهور؟”.
وخلاصة القول : لا غرابة أن المنظومة الإعلامية لا تتناسق مع المنظومة الذهنية للجمهور، لذلك تلجأ أصناف عدة من الجمهور إلى وسائل الإعلام الأجنبية ومواقع التواصل الاجتماعي بمختلف أشكالها..
و أختم بما يلي : إن الرداءة التلفزيونية هي تعبير عن أزمة التلفزيون برمته كمؤسسة اجتماعية وثقافية،وهي مؤشر على أن هذه المؤسسة لا تقوم بأدوارها لأن قوى السوق اختطفتها لتحويلها إلى مؤسسة تجارية مما يستدعي تحويل هذه الأزمة إلى مشغل عام سياسي والعمل على تحويل التلفزيون الجيّد إلى مطلب مجتمعي (أي مطلب كل التونسيين) يقتضي بدوره سياسة عمومية.
وأرجو..أن تستساغ -رسالتي المقتضَبة-جيدا.
محمد المحسن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق