عشق مُعتّق، قصة قصيرة
ليلى المرّاني، من العراق
لمحتُه يطيل النظر إلى إحدى اللوحات في معرضي، أطفال يحلّقون بأجنحةٍ ملائكية، يلعبون مع الغيوم، وتحتهم على الأرض نيران تشتعل، خفق قلبي. عرفته رغم السنين التي ألقت بثقلها على قسمات وجهه، وأكسبته هالةً من الشعر الفضّي تضيء وجهه. اقتربت منه: هل أعجبتك هذه اللوحة، أستاذ؟
ودون أن ينظر إليّ أجاب: إنها رائعة، سأشتريها وأكتب قصيدةً عنها.
ورغم أنني أُحبطت إذ لم يثره صوتي الذي كان يقول عنه: صوتك عزف نايات لرعاة، تجتمع في غيمة. لم أكن أفهم ما يقول.
ترى هل تغيّر صوتي كما تغيّر شكلي وجسمي؟
- هي هديّة منّي لك.
حينها التفت نحوي، التقت أعيننا، أصابه الذهول،
- هل تعرفينني؟ أو حضرت أحد مهرجاناتي الشعرية.
- أعرفك أستاذ سلام، الشاعر الكبير.
وتصنّعت ابتسامةً واهية. بعد أكثر من ثلاثة عقود نلتقي من جديد في بلدٍ وراء البحار، لا يزال وسيمًا رغم غدر السنين، رشيقًا كما عهدته. نظراتي تتغلغل بعمق في قسمات وجهه؛ فتفضح ما يعتمل في صدري، هو، الشاعر الذي ملأ الكون شدوًا، واقتحم قلوب طالبات الجامعة، وأنا واحدة منهن، أحببته بكلّ جوارحي، بل وعشقته، صرت أرسم وجهه وقامته الفارعة على أوراق محاضراتي، وعلى جدران غرفتي. أصبت بالجنون حين أخبرتني صديقتي بأنه صارحها بحبّه، وأنها تبادله الشعور، يااااه.. تنهال عليّ الذكريات مثل زخّات مطر ثقيلة، هو الآخر يبدو أنه انتقل إلى عالمه الخاص، ثمّ فاجأني مبتسمًا: هل تقبلين دعوتي للغداء بعد انتهائك من العمل؟
حلّق قلبي فرحًا في سماء وردية: بالتأكيد، لكن هل هو ثمن للوحتي التي أهديتها لك؟ قلت ضاحكة، ضحك هو الآخر.
استعجلت الوقت كي يخرج آخر زائر، يا إلهي، أجدني متلهّفةً لحدّ الغليان للجلوس معه، وسماع صوته الرخيم. ابتدرني بالسؤال ما إن أخذنا أماكننا في ذلك المطعم الذي تصدح فيه موسيقا رومانسية هادئة، ويغصّ بعشّاق شباب،
- مع عائلتك هنا؟
- وحدي، وأنت؟
- أصبحت وحيدًا بعد أن توفّيت زوجتي واستقلّ الأولاد عنّي، كلّ له حياته الخاصة.
كاد خفقان قلبي يفضحني، هو وحيد مثلي، هل... وخنقت السؤال. يتلاحق شريط الأحداث أمامي كأنها حدثت بالأمس. رسمته مرّة وهو يلقي إحدى قصائد الغزل في مهرجان الجامعة الشعري، كنت أحلّق معه، لكنه يرسل نظرات هائمة نحو صديقتي كأنه يخاطبها، تسمعه وهي منتشية؛ فيزداد غيظي، بعد ثلاثة أيام رأيت الصورة معها: أهداها لي سلام .
طفح الكيل، تساقطت دموعي رغم محاولتي كبحها، أهديتها له، فماذا فعل؟ لم أنتظر طويلًا، انتقامًا منها، أعطيته رسائل حبيبها السابق، التي تغلي عشقًا، أودعتْها عندي خشية أن تقع بين يدَي أخيها الذي يفتّش في أغراضها، من يومها لم نعد نلتقي به. انهارت صديقتي وظلّت تتساءل باكيةً عمّا حدث وجعله يتهرّب منها، ورغم ذلك لم أصل إلى هدفي، قاطعني أنا الأخرى، بل أحسست أنه ازداد نفورًا منّي، وبقي جرحي ينزف.
أيقظني من كوابيسي صوته ينساب بدفء نحو مسامعي: ألم تتزوّجي؟
أجبت باقتضاب: هرب منّي فارس أحلامي.
- غبي، خسركِ، يكفي أن لك صوتًا يزقزق مع العصافير في يوم ممطر.
وساد صمت ثقيل. نظرت إليه طويلًا وبعمق، لاحظت أن عينيه تزوغان منّي بارتباك.
-سأعطيك رقم هاتفي، نستطيع أن نتواصل لو شئتِ، فنحن وحيدان في بلد الضباب هذا.
طأطأتُ رأسي بإيجاب، وفرحة تزغرد في صدري، ترى هل استيقظ الحلم القديم بعد هذه السنين الطويلة، وبعد أن جفّت عروقي وأصابني الصدأ؟ هل أحظى بلحظات حبّ واهتمام ممّن نذرت نفسي له؛ فباعني برخص؟ هل.. وصفعني سؤاله المباغت:
أتعرفين شيئًا عن صديقتك سوسن؟ ارتعشت ابتسامة على شفتيه حين ذكر اسمها، انتفضتُ ملسوعةً كأن سكينًا اخترقت أحلامي البائسة: لا أعرف عنها شيئًا مذ تخرّجنا من الجامعة، سوى أنها تزوّجت وسافرت مع زوجها إلى أمريكا.
- أرجوك، لو عرفتِ أي شيء عن سوسن، أخبريني.
في تلك اللحظة كرهتُه، وددتُ لو أصفعه، أنتقم من الماضي والحاضر، هو ما يزال يفكّر فيها، استأذنتُ في الانصراف.
- أسعدني اللقاء بك يا… لكن ألا تريدين رقم هاتفي؟
- في المرّة القادمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق