الاثنين، 20 سبتمبر 2021

بين الجنون و الحكمة. بقلم الكاتبة سهام الشبعان بن حميدة

 بين الجنون و الحكمة.

كان في قديم الزمان، في قرية من القرى نهر يدعى نهر الحكمة نهى الحاكم أهل القرية عن شرب مائه. و آثر الجميع الجنون استجابة لرغبة الحاكم .و كان في جنونهم فنون ....و من أكثرهم غيرة على جنونه رجل يدعى حمدون أشعث الشعر أغبره يرتدي أسمالا بالية، غير عابئ بهندامه. ولم يحسن من فنون الحركة إلاّ الجري و الركض في الأحياء . تسمع لركضه صهيلا غريبا و قعقعة طبيل كان يطوق عنقه، ينادي في النّاس:
"أيّها الناّس، اسمعوا، و عوا، إنّ بين الحكمة و الجنون خيط رفيع. و لربّمايكون في الجنون حكمة ، لا يفقهها إلاّ العقلاء . فمهر الحكمة باهظ الثّمن."
كان يردّد ذلك بصوت، يرتفع حينا، و و ينخفض أحيانا....و لكن لا أحد استمع لندائه. الكلّ في غيبوبة، كأنّ آذانهم صمّاءو عيونهم عمياء....
والغريب في الأمر أنّ سكّان القرية في كلّ ليلة مقمرةيتسمّرون في مكان ينظرون إلى قمير مشعّ تحيط به نجوم سيّارة في السّماءتهدي الضّائعين في الطريق. وذات مرّةبينما كان الجميع رافعا رأسه إلى القمير يرون فيه آمالهم و يستلهمون منه أحلامهم الضّائعة التّائهة مع أشواقهم وهم منتصبون كأعمدة فعل فيها السّحر فعله فجأة انبعث من حمدون صوت مدوّ فيهم :
"يا أهل الحكمة الضٍائعة و المنزلة الباهتة و الهدف المقبور، هبّوا إلى أنفسكم و اخرجوا من جنونكم المعدم العقيم إلى جنون الحكمة. تعالوا لاستنشاق هواء مختلف... ارفضوا ان تكونوا مجرّد بيادق في يد الحاكم و الذّي من أهدافه قتل الحكمة حتّى في جنونكم.... ألا هبّوا إلى النّهر لنشرب جميعنا منه و لا نخشى غير الله إذ لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا"
لكنّ المجانين كانوا يسمعون الصّدى و لا يستجيبون له عيونهم متسمّرة في اتجاه ذاك القمير.....اغتمّ حمدون للأمر . و اكتفى بمراقبتهم كلّ ليلة ، و الحسرة تعتصر فؤاده .
اقترب منه احد الحاضرين الذّي تبدو عليه علامات الاتزان و الرّصانة و اتّقاد الذّهن ، ممّا جعل حمدونا يشكّ في امره، كان يدعى سعدون ، في وجهه نور غريب ، أنيق الهندام ،عيناه تتقدان ذكاء ووقارا ، ثم قطع اندهاش حمدون و قال:
"يا حمدون لا تبتئس و انا سادلّك على طريق النّجاة، ثمّ سيمتثل المجانين لرأيك ، اهرع الى ماء النهر، و ارتو منه، فالحاكم ما منع امرا إلا كان فيه خير للرعيّة"
و فهم حمدون ان سعدون قد سبقه لشرب ماء النّهر . فقد رفض الامتثال لأمر رأى فيه عصيانا للعقل البشريّ...
فاسرع حمدون إلى الماء يغترف منه ما لذّ و طاب،فاحسّ بعذوبة لم يسبق له ان تذوقها ، و غشيته قشعريرة لذيذة تسرّبت إلى كامل جسده . و البقية متسمرون امام ضوء القمير لا حراك فيهم.ثمّ صرخ في المجانين بصوت قويّ ينبئ بثقة في النّفس:
"يا اهل القرية من اراد منكم القمير فليتبعني و يشدّ إلى رأيي الرّحال ، فهناك في أعلى التلّة، سنصل معا إليه، وهو الان بانتظارنا جميعا"
نال الأمر هوى في نفس المجانين ، و تبعوا حمدون كمن يتشمّم رائحة الشّواء ليطرد سغبه.
ثمّ واصل:
"إنّ القمير يدعوكم إلى الارتواء من نهر الحكمة، حتّى تتمكنوا من الصّعود إليه."
فأسرع الجميع الى النهر ينهلون من عذوبته ما طاب لهم. وبدا في اعينهم بريق مختلف. و توق مختلف إلى الحياة إنّه الخروج من الجنون العقيم الى الجنون الفاعل. ودبّ التّساؤل إلى اعماقهم،فالحيرة هي بداية المنجاة و همس الجميع:لم منعنا الحاكم من هذه المتعة؟، لم جعلنا نعيش في الاوهام مستكينين للجنون؟؟؟؟؟؟و في لمح البصر توجّه الجميع إلى قصر الحاكم، و الكلّ يهتف لتحيا الحكمة و يسقط مانعها ....هكذا تبدد خوفهم و صدحت حناجرهم بالهتاف للحكمة و التمرّد على مانعها .
بقلم سهام الشبعان بن حميدة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق