-(مُجرّد هوامش، في ذكرى رحيل د. مصطفى محمود):
…بين شقوق الطّوب المحروق بأسوار مدينة القيروان العتيقة ورائحة المؤونة وخبز الشعير وطعم (البسيسة بالحلبة) وندف قشور حيطان المساجد الصّغيرة المُتآكلة والزوايا المليئة برائحة القطط، حديثة الولادة و قشور الرّمّان والثوم والبصل والفلفل المجفّف والموت و الطلاء الحديث والزوّار، الذين يرتادون الأماكن المُلهمة مرّة واحدة, تعلّمت أن أجلس كلّ مساء جمعة صامتا وخاشعا لمدّة ساعة بين المغرب والعشاء متوسّطا جديّ وأبي رحمهما الله ومشدودا مثلهما إلى ذلك الرّجل الوقور صاحب الإبتسامة الممغنطة و النظّارة البنيّة العريضة والقميص الأزرق وربطة العنق البنفسجيّة والنظرة النافذة بين الأرنبتين والحاجب. كنت صبيّا نحيلا لجوجا لا يسكت, ولا يمكن لإنس من الإنس ولا لجان من الجنّ إجباره على الجلوس ساعة صامتا. ولكنّني كنت في ذلك الوقت أجلس فعلا صامتا وكأنّ على رأسي عصا المؤدّب وشبشب أميّ الحازمة. فضلا عن كلّ طيور الأرض، في أرخبيلات مُخيّلتي، العامرة منها والغامرة.
كان الرّجل إسمه (د. مصطفى محمود), وكان البرنامج الذي تعوّدنا أن يشغلنا عن العَشَاءِ والعِشَاءِ (بالنّصب على العينِ و كسْرها) إسمه (العلم والإيمان). وكان الوقت بين نزق ومزاجيّة الخريف وطفولة الشتاء المنشغل عناّ آنذاك بما سيعدّه لنا لاحقا من المرّ والعلقم في قراطيس صغيرة.
كنت أتابع رقصة نحلته أو شطحة خنفسه أو رفرفة فراشاته مسحورا ومنبهرا. وفي واقع الأمر, لم يكن يسكرني نحل ولا جعلان ولا جناحي فراشة حمقاء تترنّح في منقوع السكرّ أو الكروليوم داخل إطار جهاز خشبيّ قديم. ما كان يسكرني تحديدا هوّ انزلاق المعنى على الحركة والصورة. صوت وكلام الرّجل هوّ ما كان يشدّني من مُضّاغة حشسشة الرّوح في مغطس قلبي الطريّ وقتها.
يقول: ( شووووووف….شووووف إزاي بيرفع رااااسو, زيّ ما يكون بيتوسّل ليها تفكو وتسيبو يطيييييييير ) فأرفع رأسي مخربطا بين دور المتابع المشدود والدبوّر اللازق في لعاب زهرة أمّ قرعون. وأشعر بضيق من وضعي فأثني ساقي قبل أن أعود سريعا وأطلقها تحت المائدة المائلة كما كانت.
يقول: ( عمّال المسكين بيتشعبط…بيقاوم…عاوز يخرج من الحكاية بأخفّ الاضرار…بصّ إزاي حيعضّ رجله اليمين ويتركها لها…) وبدون شعور أتحسّس متوجّسا وبدون شعور دمّلة متورّمة في قعر ركبتي اجاهد من يومين ان اخفيها عن أميّ وأواريها كونها كانت ستدرك بغريزة الأمّ المؤمنة بفضيلة العقاب الصارم أنّني ثقبت بالتأكيد أحد البنطلونات الثلاث، البالية، التي إشترتها لي، منذ سنتين، حين سقطّت وجرحت.
يقول: ( بسّ الدنيا كده, وربّنا حيغفر…أكيد الصرصار حيحزن ع الخنفسه يومين وبعيدن حيدوّرلو على خنفسة شابّة جديدة…) وأسرح أنا بعيدا عن متناول كفّ أبي وخيزرانة جديّ وأحلم بقبلة بريئة يغفرها الله القريب جداّ من سطح بيت رباب بنت الجيران. فبنايتهم من طابقين ووالدها إمام ومعلّم. وبالتالي، فهم أقرب منّا لله.
يقول: ( دا صوته كله توسّل وأشجان وجمال وحنين…والبت العصفورة, ولا معبّراه خالص, مطنّشاه…)
واسرح أنا في تحليل سبب مقنع لضيق أخي الأكبر ووالدي وأنتهي بالحكم عليهما معا بأنّهما ظالمان, لأنّهما لا يتركانني أسهر معهما ليلة الثلاثاء لما بعد الساعة العاشرة ليلا لأشاهد معهما فتنني ونور قلبي وحبّي الكبير الفنانة هيام يونس وهيّ تخرج من خشب الجهاز وترقص على أغطيّة الصوف المعدّة لجهاز أختي المكوّمة دائما منذ العصر معصوبة الرأس فوق الفراش الواطئ.
يشغلني سعال اختي الأجشّ لثانية, قبل أن أمرق منها كما الدبّور إلى عالم هيام يونس اللولبي…ماسكا العصا من النصف, والتوابيت مغلقة إلى أكثر من الشطر المعلوم, هذا د. مصطفى محمود يرفعني بصولجانه ميل من الضوء صوب الصوت البعيد: و صوت هيام يونس يعيدني الى الأرض ملطّخا في عوارض فتنة الجسد المبكّرة وهي ترشّ رضاب صوتها بعذوبة وتسيل وهي تغني القصيدة الأعجوبة للشاعر الملك امرؤ القيس....ذو القروح:
تعلق قلبي فيه….فتى عربّية…
تنْعِم فِي الْدِّيْبَاج وَالْحِل وَالْحُلَل ..
لَهَا مُقْلَة لَو انَّهَا نَظَرَت بِهَا
إِلَى رَاهِب قَد صَام لِلّه وَابْتَهِل
لَأَصْبَح مَفْتُوْنا مُعَنَّى بِحُبِّهَا
كَأَن لَم يَصُم لِلّه يَوْمَا وَلَم يُصَل
وَلِي وَلَهَا فِي الْنَّاس قَوْل وَسُمْعَة
وَلِي وَلَهَا فِي كُل نَاحِيَة مَثَل ..
وَلَا لَاء لَاء إِلَا لالِىء لَابِث
وَلَا لَاء لَاء إِلَا لالِىء مِن رَحَل
وَكَاف وكِفَكَاف وَكَفِّي بِكَفِّهَا
وَكَاف كَفُوْف الْوَدَق مِن كَفِّهَا انْهَمَل ..
حِجَازِيّة الْعَيْنَيْن نَجْدِيَّة الْحَشَى
عِرَاقِيَّة الاطْرَاف رُوْمِيَّة الْكِفْل
تِهَامِيَّة الْابْدَان عَبْسِيَّة الْلَّمَى
خُزَاعِيَّة الْاسْنَان دُرِّيَّة الْقَبَل ..
وَلَاعِبْهَا الْشِّطْرَنْج خَيْلِي تَرَادَفَت
وَرَخِي عَلَيْهَا دَار بِالْشَّاه بِالْعَجَل
وَقَد كَان لَعِبِي كُل دَسْت بِقُبْلَة
أَقْبَل وَجْهَا كَالْهِلَال إِذَا اطَل
فَقَبِلَتْهَا تِسْع وَتِسْعِيْن قُبْلَة
ووأَحِدّة أُخْرَى وَكُنْت عَلَى عَجَل ..
تعلق قلبي فيه….فتى عربّية…
وأتساءل عن ضرورة تأنيث الفتى في عبارة عربيّة, ولكنني اطرد الفكرة سريعا عن ذهني…يلعن أبو صندوق اللغة لو كان سيحرمني من تبويزة شفتي هيام يونس وطرطقة انفصال اللثّة عن اللسان تحت غنج غمّازتيها وهي تفتح مزلاج العبارة بملعقة سكّر الصوت المنصوب على فخّ عربّيييييييية…..أوَّاااااااااااهْ.
في مثل هذا الشهر، أكتوبر، سنة 2009 وفي آخر يوم فيه، وصلني خبر وفاة الدكتور مصطفى محمود، وأنا بمطار ميونيخ، في انتظار الطّائرة صوب القاهرة...وقد كنت أمنى النفس بلقائه وتوديعه، ولكنني وصلت القاهرة متأخرا، كعادتي حين أريد أن أسبق القضاء عبر بوّابة القدر المتاح، أو ما نظنّه متاحا، وإلى حد اليوم، وبعد مرور أربعة عشر سنة على موته، مازلت أشعر بخجل شديد وبتأنيب الضمير أنني لم أسع للقائه قبل رحيله بهمّة أكبر، ولمْ أزوّر في عدّاد عمري لفّتين، تجاهه، للوراء....
الآن وأنا أشدّ الخطى شدّا قويّا صوب جبلي الأخضر، بالقيروان، التي لا جبل فيها، غير تاريخها ومجدها، وحدودها الرّحبة التي تمتد على مدى سبعمائة خطوة، بين سور باب تونس وباب الجلاّدين. أقف مرتبكا وخائفا أن يكون، سبقني إلى جبل آخر مقابل لبرزخ القيروان وأكثر نقاء، ورحابة، بالتأكيد، أنه ربما كان قد رفع لوح الجسر، قبل أن أصل إليه في مملكته الثانية و قبل أن أتهالك على كفّيه أخيرا، متعبا مما عانيت، ومعتذرا ببلل عيني عن كلّ ذلك التأخير المؤسف في الوصول إليه وهو بيننا، وأن أقبّل جبينه إمتنانا كما أفعل دائما مع كبار الملهمين الذين تعلمت منهم وأنقذوني من وحشة حبس الطين الآسن...أو الطمع في أي شكل من أشكال التكاثر خارج نصوصي المفتوحة على كلّ الإحتمالات الممكنة، والتي تحتملها فرضيّات الممكن والمُستحيل، بين تخوم مدَى أفق القاموسِ الألثغ وطلاسم الإشارات و الرّسم المبهم. وأهازيج الغجر، في خربشاتي المُشفّرة. ونشيج العناصر فيها ومواساة الندى والضّياء و المطر، لِجِروِ البَشرْ. يا لهذا الجّرْوَ الذي أحاول عبثا، أن أعلّمه الطيران معي، فيُعلّمني نباح العصافير… لمن تشكو يا أيّها الجِرْوَ البشريّ المُجنّح ؟؟!!… ليس هذا زمن برزخ النّور… هذا برزخ من غبار براز الطير المُدجّن و لحاء الجذوع اليابسة، حيث لا شيء أنقى وأنبل من الصّمت. ولا شيء يستحقّ أن تطلب من أجله تأجيل الحجز لرحلة أجمل…ليكن إذن… سأطير مثله وربّما أعلى قليلا. وربّما أفرد جناحي وأعود من جديد، فكلّ الكون ورقة نصف يابسة. وعرق… وزهرة حُبْلَى …وَ…. عرف عُودْ…
(كمال العيادي الكينغ)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق