العنوان بؤرة العمل الأدبي..ومفتاح الولوج إلى بنية تشكل المعنى الجمالي في النص الأدبي
يكتسي العنوان أهمية بالغة مع انتشار الطباعة ودخول المجتمعات مرحلة الحداثة الثقافية، وازدادت هذه الأهمية مع انتشار مجموعة من الأبحاث والدراسات التي حاولت أن تقارب إشكالية العنوان،وما تثيره على المستوى النظري والإجرائي،باعتبار أن لحظة قراءة العنوان مرحلة مهمة في العبور إلى قراءة النص وفهمه واستيعابه.
ومما لا شك فيه أن احتقار اللحظة العنوانية وعدم تجشم قراءة العنوان بما تقتضيه من الاهتمام الكافي،والتركيز الشديد،قد يقود إلى فهم خاطئ لكلية النص،لذلك اتجهت هذه الدراسات والبحوث إلى دراسة العنوان كنص مستقل بذاته،ومن هذه البحوث دراستا ليو هوك Leo hoek: (نوعية العنوان La marque du titre،وسيميولوجيا العنوان La sémiotique du titre،بالإضافة إلى ما جاء به الناقد الفرنسي جيرار جنيث في الموضوع في كتابه معمار النص.
يتحدث جيرار جنيث في كتابه معمار النص عن العنوان باعتباره نصا صغيرا يختزل ويختصر النص الكبير،هذه الاستقلالية تقود إلى اعتبار العنوان وخاصة العنوان الشعري بنية لغوية يتركب من مفردات ينبغي دراستها تركيبيا ودلاليا للوصول إلى المرامي التي يتغيا الشاعر إبلاغها..
هذا العنوان يتمظهر من خلال خطوط يمكن قراءتها سيميائيا على المستوى الخطي الكاليغرافي،وكذلك حيزه على مستوى الصفحة،بالإضافة إلى المرجعيات الثقافية والاجتماعية والإديولوجية التي يحيل عليها،بما يجعله بؤرة تختزل النص بكامله..
إن احتقار اللحظة العنوانية،والقفز عليها،وعدم الاحتفال بها،يخفي العديد من القضايا المتصلة بمجال الأدب نظريا وتطبيقيا، فالعنوان-حسب ليو هوك Leo hoek- ليس فقط هو أول ما نلاحظ من الكتاب/ النص في (شكله المادي)،ولكنه عنصر سلطوي منظم للقراءة، ولهذا التفوق تأثيره الواضح على كل تأويل ممكن للنص..
وهنا تكمن إغرائية العنوان كوظيفة من الوظائف التي حدّدها له جيرار جينيت.فالشاعر أو المبدع عامّة باختياره للعناوين الإغرائية يسعى إلى استفزاز القارئ و إرغامه على ولوج عالم النصّ لاستكناه خباياه و من ثمّ تتولّد لديه لذّة القراءة،و مردّ ذلك انزياح العنوان الذي يطرح تساؤلات عديدة حوله تعكس مدى قدرة المؤلّف على التّلميح من خلال تركيبه اللّغوي البسيط.
وإذن..؟
يشكل العنوان إذا،بؤرة أي عمل أدبي،ومفتاح الولوج إلى بنية تشكل المعنى الجمالي في النص الأدبي عن طريق آليات القراءة التي يمارسها القاريء في حالة من التفاعل بينه وبين معطيات متعالقات خاصة بذاته المبدعة،فهو لا يختار اعتباطاً أو بصورة عشوائية العنوان الذي يحمل هوية مجموعته،ذلك أنه لا توجد اعتباطية في هذه المسألة المهمة التي ربما تأخذ من فكره وذهنه الكثير حتى يستقر على العنوان الذي يرتئيه لمجموعته أو لنصه..
ومما تجدر الإشارة إليه ان اختيار المبدع عنوان مجموعته ينبني على أساس أكثر الأعمال قرباً إلى نفسه،أو أكثرها تعبيراً عن معطياته النفسية والشخصية والثقافية وأكثرها شمولية لأنساق القصص المشاركة ضمن المجموعة الواحدة..
ما أيد أن أقول؟
أردت القول أن العنوان يعد ركناً أساساً في العمل الأدبي،ذلك أنه يشكل المفتاح الإجرائي الذي تتجمع فيه الإنساق المكونة للعمل الإبداعي التي تصب في البؤرة ذات الحالة التكثيفية لمجريات الحدث داخل البنية النصية،ومن خلال هذه البؤرة تتشظى رؤى القاريء التي يكشف من خلالها عن جمالية الترابط بين عنوان العمل الأدبي وبين تلاحق الإنساق في الأحداث المتبلورة في بؤرة ذلك العمل.
وقد أخذ العنوان أهمية بالغة الأثر في النتاج الأدبي من خلال عناية النقاد بهذا الجزء من العمل الأدبي كونه يمثل الصورة المكثفة التي تخبر القاريء عما تريد ان تقوله الأحداث عبر إشارات وقرائن تتشابك مثل نسيج العنكبوت لتضع القاريء أمام تجربة تفاعلية مع النص الأدبي،ونعني بالتجربة التفاعلية تلك التجربة التي يخوض غمارها القاريء من أجل الوقوف على جماليات النص عبر سلسلة من الإجراءات القرائية التي تبدأ من العنوان وتنتهي بخاتمة العمل الأدبي، وبذلك يكون القاريء قد وقف على رؤية إبداعية جديدة من خلال قراءته النص الأدبي منطلقاً من العنوان،ويمكن ان نطلق على هذه الرؤية الجديدة الهجينة بين معطيات النص الأدبي،وبين معطيات القاريء الثقافية القراءة الإنتاجية.
وإذن؟
يعد العنوان إذا،من أهم عناصر النص الموازي وملحقاته الداخلية؛ نظرا لكونه مدخلا أساسيا في قراءة الإبداع الأدبي والتخييلي بصفة عامة،والروائي بصفة خاصة.
ومن المعلوم كذلك أن العنوان هو عتبة النص وبدايته،وإشارته الأولى.وهو العلامة التي تطبع الكتاب أو النص وتسميه وتميزه عن غيره.وهو كذلك من العناصر المجاورة والمحيطة بالنص الرئيس إلى جانب الحواشي والهوامش والمقدمات والمقتبسات والأدلة الأيقونية.
على سبيل الخاتمة:
إن العنوان-كما أشرت-.عبارة عن علامة لسانية وسيميولوجية غالبا ماتكون في بداية النص،لها وظيفة تعيينية ومدلولية،ووظيفة تأشيرية أثناء تلقي النص والتلذذ به تقبلا وتفاعلا، يقول الباحث المغربي إدريس الناقوري مؤكدا الوظيفة الإشهارية والقانونية للعنوان : "تتجاوز دلالة العنوان دلالاته الفنية والجمالية لتندرج في إطار العلاقة التبادلية الاقتصادية والتجارية تحديدا؛وذلك لأن الكتاب لايعدو كونه من الناحية الاقتصادية منتوجا تجاريا يفترض فيه أن تكون له علاقة مميزة وبهذه العلامة بالضبط يحول العنوان المنتوج الأدبي أو الفني إلى سلعة قابلة للتداول، هذا بالإضافة إلى كونه وثيقة قانونية وسندا شرعيا يثبت ملكية الكتاب أو النص وانتماءه لصاحبه ولجنس معين من أجناس الأدب أو الفن"(1).
كما أن للعنوان وظائف أخرى تتمثل في الوظائف التالية: الوظيفة الإيديولوجية،ووظيفة التسمية،ووظيفة التعيين،و الوظيفة الأيقونية/ البصرية،والوظيفة الموضوعاتية،والوظيفة التأثيرية،والوظيفة الإيحائية،ووظيفة الاتساق والانسجام،والوظيفة التأويلية،والوظيفة الدلالية أو المدلولية،والوظيفة اللسانية والسيميائية..
ختاما:
فاجأ الشاعر الراحل محمود درويش الكثير من قراءه حين صرح في إحدى المرات بأنه لم يختر «لماذا تركت الحصان وحيدا» كعنوان لديوانه الشهير،بل أن الناشر هو من اختاره بعد التشاور معه..
ربما لم تكن تلك هي الحادثة الوحيدة في التاريخ الإبداعي للكثير من الكتاب العرب، فالكثير منهم يقع في حيرة كبيرة بالنسبة لعنوان مؤلفهم الجديد سواء كان ديواناً شعرياً أو رواية أو مجموعة قصصية وغيرها من المؤلفات الإبداعية.
ولنا عودة إلى هذا الموضوع عبر مقاربة مستفيضة.
محمد المحسن
1-إدريس الناقوري : لعبة النسيان-دراسة تحليلية نقدية-الدار العالمية للكتاب، الدار البيضاء،ط 1،1995،ص:24.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق