سراب۳
لم ينتبه أيّ كان أن يتساءل أو يسأل كيف لسمير أن يشترك في أنشطة دار الشّباب وهي مؤسّسة حكوميّة . أي نعم هذه المؤسسة تعنى بالشّباب والارتقاء بمواهبهم وتنميّتها لكنّها في نهاية الأمر مؤسّسة حكوميّة وتعمل تحت طائلة القانون. ولكي يتمكّن سمير من أن يشترك فيها وجب عليه أن يستظهر بهويّة واضحة حتّى تقبل به دار الشّباب كمنخرط فيها وينشط في إطارها وباسمها.. المهمّ ، سمير منخرط فيها وينشط في إطارها وقد يكون استعمل أيّ صفة فهو تعلّم من الشّارع ما يسمح له بالاندماج بسهولة أو ربّما استظهر بهويّة قانونيّة لم يعرفها عنه أحد ، فهو لم يعرف له لا أب ولا أمّ منذ ظهوره في الحديقة العموميّة مع رفيقته العجوز وحتّى بعد تغيّره وظهوره في صورة جديدة.. بدأ النّاس يتعوّدون على المظهر الجديد والمتجدّد دائما لسمير. وتساؤلاتهم بدأت تصمت شيئا فشيئا.. هذا لم يمنع الدّوائر الأمنيّة من الالتفات إلى الأمر لكنّ ذلك كان في الخفاء. سمير كان خالي الذّهن من كلّ ما يدور في المدينة أو ربّما كان يتغافل عن الاهتمام بذلك بحكم سنّه من جهة أو لأنّه لديه الإجابة المقنعة إذا ما استدعاه الأمر لذلك. المهمّ كانت تظهر عليه علامات الارتياح والطمأنينة وهو يتنقّل في المدينة ولم تمنعه تساؤلات النّاس ولا ربّما تحريّات الأمن عنه إن كان قد فطن لذلك من ان يواصل حياته كأيّ كان له الحقّ في العيش الكريم ومن أن يغنم من صغر سنّه قبل أن يتحمّل مسؤوليّات قد تعيقه. ذات مرّة وهو في دار الشّباب ، دخل أعوان الشّرطة يسألون عنه فلهم ما يتحدّثون فيه معه. ولأوّل مرّة بعد تغيّره يرى سمير في حالة خوف وهلع من ملاقاة الشّرطة.. خرج من ناديه وهو يرتجف كأنّ به حمّى أو كأنّه حيال حلم مزعج أربك فرائسه وأسال عرقه حتّى أنّ أعوان الشّرطة استغربوا لذلك. تقدّم أحدهم منه وعرض عليه ورقة مفادها أنّ رئيس المخفر يريده في أمر يخصّه لذلك هو يطلب منه الحضور بمكتبه متى شاء. هذا الخبر هوّن عليه نسبيّا خاصّة وأنّ الشّرطة لم تلزمه بالحضور في ذلك الوقت ولم يلزموه بوقت معيّن. لكنّ هذا لم يذهب عليه الخوف تماما، فالأمر قد يكون خطيرا. أو ربّما سمير متورّط بشكل أو بآخر في مسألة ما لا يعرفها إلاّ هو وقد اكتشفته الشّرطة..هذا الحادث أعاد لذاكرة أصحاب الأساطير مسألة تغيّر سمير من عامل بسيط في السّوق إلى شابّ أنيق وسيم وذي لباس أنيق وتسريحة شعر مميّزة. فهل تصدق حكاياتهم أم سوف يبدّدها لقاء سمير مع رئيس مركز الشّرطة..
مضت ثلاثة أيّام منذ أن استدعت الشرطة سميرا للحديث معه في أمر لا يعرفه حتّى هو..خلال تلك الأيّام لم يظهر سمير في المدينة. فكأنّه خائف من شيء معيّن..أو ربّما هو يستعدّ لهذا اللّقاء مع الشّرطة بشكل أو بآخر..أو قد شغله أمر ما فتخلّف لقضائه ثمّ سيذهب لملاقاة رئيس مركز الشّرطة ليرى الأمر الّذي استدعاه من أجله أو أيضا لعلّه هرب خارج المدينة خوفا من السّجن عقابا له على جرم لا يعرفه إلاّ هو والشّرطة.. لأنّ أغلب معارف سمير لم يسمعوا بأمر الاستدعاء، فهم لم يثيروه في مجالسهم وغاب موضوعه عن أساطيرهم فالأخيرة منها لم تجد نفعا ولم تكشف حقيقة سمير..
بدا سمير أكبر من سنّه بكثير وكان مدى نظره أبعد ممّا قد يكون عليه نظر طفل ما بعد العشرة سنوات بقليل. فتأخير مقابلته للشرطة كان مقصودا ومدبّرا، فهو أراد ان يتحسّس خطورة الأمر من عدمه، فلو كان الأمر خطيرا فسوف تعاود الشرطة استدعاءه أو تأتي لجلبه بالقوّة. وإذا كان الأمر شكليّا فسوف ينتظرون مجيئه من تلقاء نفسه. ولسائل أن يسأل كيف سيعرف سمير إن كانت الشرطة قد عاودت استدعاءه أو أتت لتأخذه بالقوّة وهو غائب؟ سمير وطّد علاقته بخلاّنه بدار الشّباب وسوف يعلمونه بأيّ جديد دون أن يذكروا ذلك لأحد. فسمير إمّا أنّه أخبرهم بشيء ما أو أنّهم تعوّدوا منه التّكتّم وعدم الافصاح عن خصوصيّاته فهم يحترمون فيه ذلك.. تأكّد سمير نسبيّا من عدم أهميّة الموضوع الّذي من أجله استدعي إلى المخفر، فتأنّق كشابّ يعرف كيف يقابل الآخرين ويفهم في بروتوكولات جلب الاحترام لنفسه..قرّر في اليوم الرّابع من غيابه أن يظهر في المدينة ، في طريقه إلى مركز الشرطة، كان يحيّي معارفه بابتسامة عريضة وصوت فيه نبرة الثقة في النّفس .كان يتعمّد ذلك ويصطنعه لغاية في نفسه قد نجهلها ولكن الأمر الواضح هو أنّه كان يلمّع صورته ويجعلها بارزة فهو بدأ يحسّ تغييرا في جسمه وشكله وصورته أصبحت من الأشياء الّتي يوليها اهتماما...وصل سمير الى مركز الشرطة، فقدّم نفسه إلى عون الاستقبال هناك وأخبره بسبب حضوره ثمّ أخذ مقعدا وبقي ينتظر الإذن بالدّخول. لم يدم انتظاره طويلا، طرق الباب ودخل ثمّ حيّى مضيّفه بكلّ احترام وبما يجعل صورته تأخذ مقاما عاليا لدى رئيس مركز الشرطة الّذي طلب منه الجلوس ثمّ قال له " سأحدّثك في أمرين اثنين ، ولكن قبل ذلك أريد أن تعتبرني أخاك الأكبر أو أباك فأنا لم يصلني عنك إلاّ كلّ خير وأنا تهمّني جدّا سلامة ونظافة الشّباب في منطقتي وفي كامل البلد.....أمّا الأمر الأوّل، فيرتبط بإعلام كنت قد تقدّمت به حول غياب العجوز الّتي كانت ترافقك في الحديقة العموميّة . أبشّرك أنّنا وجدناها ، وهي الآن في مكان آمن وتحظى برعاية كبيرة وإحاطة جعلتها في صحّة جيّدة وسوف تتفاجأ عندما تراها" فنهض سمير من مكانه قائلا " أحقّ ما تقول ؟ أين هي ؟ وكيف توصّلتم إليها ؟ " . ضحك رئيس المركز وقال " أراك متعلّقا بها كثيرا ، لا تتعجّل سوف تقابلها وهي أيضا تريد أن تراك بفارغ الصّبر، لكن قبل هذا سأطلب منك شيئا وهذا هو الأمر الثّاني الّذي استدعيتك من أجله والّذي أردت أن أتناوله معك وأذكّرك دائما أنّك بمقام أخي الصّغير أو ابني وسلامتك تهمّني . أريدك أن تخبرني عن سبب تغيّرك المفاجئ وابتعادك عن السّوق، فحسب علمي ، كلّ الباعة يحبّونك ويعطفون عليك ولا أظنّهم قد سبّبوا لك قلقا أو فعلوا ما ينفّرك . ثمّ كيف تعيش وأنت لا تعمل؟" تكلّم سمير بكلّ ثقة ورباطة جأش بالرّغم ممّا كان يحسّه في داخله ولم يظهره من خوف ،فقال " سيّدي المحترم قبل كلّ شيء دعني أعلمك أنّي أكنّ لك كلّ الاحترام وأنّي لن أنس جميلك إذ اهتممتم بالبحث عن رفيقتي حتّى وجدتموها وطمأنتني عليها. ثانيا، وأنا فعلا أعتبرك في مقام أبي ، بالنّسبة لعملة السّوق فإنّي أطمئنك أنّ كلّ العملة هناك كانوا أصدقائي ولازالوا فأنا إلى اليوم أزورهم وأجالسهم كلّما سنحت لي الفرصة ويمكنك أن تتأكّد ممّا أقول. أمّا عن ابتعادي عن السّوق فقد وجدت أنّي أفتقد الكثير من الأشياء ولم أعش يوما سنّي فلو تلقي نظرة على يديّ فستلاحظ أنّها ليستا يدا شابّ كان يمكن أن يكون طالب علم أو ما يناسب سنّي. ووجودي في الحديقة العموميّةأصبح غير ممكن بعد رحيل رفيقتي الّتي كانت تحميني ومصدر طمأنينتي ، لذلك لجأت لعائلة كان أفرادها يشفقون لحالي ويطلبون منّي دائما السّكن معهم فليس لهم أطفال ويمكنكم التاّكد من ذلك" فردّ عليه مضيّفه " لقد تأكّدنا من مقرّ سكناك ومن العائلة الّتي تؤويك ولكنّي أسأل، هل يطالبانك بأعمال معيّنة؟ أو يشغلانك.... او....؟ " فقاطعه سمير مبتسما " أبدا سيّدي المحترم فهما لا يطالباني بشيء حتّى إنّي صرت أخجل من كرمهما..فليتهم يطلبان منّي ايّ عمل فهكذا على الأقلّ أردّ القليل من جميلهم " عندها قال رئيس المركز " طيب يا سمير ، أنا على ذمّتك متى احتجتني. أمّا بالنّسبة للعجوز فسوف أحدّد لك موعدا لملاقاتها وحينها أعاود استدعاءك. إلى اللّقاء ولا تنسى أبدا أن نتعامل كمقرّبين " ابتسم سمير وودّع مضيّفه مطمئنا إيّاه بأنّه يكنّ له شعورا مميّزا.
رشدي الخميري/ جندوبة/ تونس

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق