*(( قِصَّة قَصيرَة )):*
*((دَهالِيزُ كُشْكِ الأُدَباء))*
(مصطفى الحاج حسين).
*الدَّهْلِيزُ الأَوَّلُ.*
أَنا تَعرَّضتُ لِلسَّرِقَةِ، لِلأسَفِ الشَّدِيدِ، وَلا أستَطِيعُ أَنْ أَتَّهِمَ أَحَدًا مِنكُمْ.. لأنَّكُمْ أَحِبَّتِي، وَأَنَا أَثِقُ بِكُمْ جِدًّا.. لا أَحَدَ مِنكُمْ غَرِيبٌ عَنِّي، فَأَنتُمْ إِخوَتِي وَأَصدِقَائِي،
وَأَعرِفُ أَنَّكُمْ تُحِبُّونَنِي، وَلا يُمكِنُ لِأَحَدٍ مِنكُمْ أَنْ يَغْدِرَ بِي، وَيُطاوِعَهُ قَلبُهُ عَلَى تَحطِيمِي، وَالتَّسَبُّبِ بِدُخُولِي السِّجنَ بِتُهمَةِ النَّصبِ وَالاحتيَالِ، وَيُسِيءَ لِسُمعَتِي أَمَامَ النَّاسِ، وَخُصُوصًا أَمَامَ رِفَاقِي فِي الوَسَطِ الأَدَبِيِّ الَّذِي أَنتَمِي إِلَيهِ.. وَأَنتُم تَعرِفُونَ أَنَّ رَأسَ المَالِ الَّذِي أَعمَلُ بِهِ، لَيسَ لِي.. فَهُوَ أَمَانَةٌ عِندِي، أَعطَانِي الدُّكتُورُ نُقُودَهُ بِهَدَفِ التَّشغِيلِ، فَهُوَ يَستَفِيدُ، وَأَنَا أَستَفِيدُ، وَأَنَا بِدَورِي أَمَّنتُ لَكُم فُرصَةَ عَمَلٍ مُرِيحَةٍ، بِأُجُورٍ جَيِّدَةٍ.. الآنَ، مَاذَا يُمكِنُنِي أَنْ أَفعَلَ؟!.. كَيفَ سَأُوَاجِهُ الدُّكتُورَ؟!.. كَيفَ أُقابِلُهُ؟!.. وَماذا أقولُ لَهُ؟!.. هَلْ أُخبِرُهُ أَنِّي سُرِقْتُ؟!.. وَهَلْ سَيُصَدِّقُنِي؟!.. وَطَبعاً سَيَسألُنِي:*
*- مَنِ الَّذِي سَرَقَكَ؟!*
ماذا سَأُجيبُهُ؟!.. وَأَنتُم كُلُّكُم مَحسوبُونَ عَلَيَّ، أَي أَنتُم جَميعُكُم مِن طَرَفِي.. هُوَ لَمْ يَخْتَرْ أَيَّ واحِدٍ مِنكُم.. بَلْ هُوَ لا يَعرِفُكُم، وَلا يَتَعرَّفُ عَلى أَيِّ واحِدٍ مِنكُم.. هُوَ يَعرِفُنِي أَنا فَقَط.. أَعطى نُقودَهُ لِي.. لِأَنَّهُ كانَ يَثِقُ بِي، وَيُرِيدُ لِي الخَيرَ.. فَقَدْ سَحَبَ مِنَ البَنكِ ما كانَ قَدْ أَودَعَهُ، وَهِيَ حَصِيلَةُ شَقَاءِ عُمرِهِ، فِي التَّدريسِ بِالجّامِعَةِ، وَتَأليفِهِ الكُتُبَ، وَنَشاطِهِ الثَّقافِيِّ الكَبيرِ.
كُنتُ مُمَيَّزاً عِندَهُ، كانَ بِمَثابَةِ الأَبِ لِي.. شَجَّعَنِي عَلى الكِتابَةِ، مَدَّ يَدَ العَونِ لِي.. سَلَّطَ عَلى مَوهِبَتِي الأَضواءَ.. مَنَحَنِي الجَوائِزَ القَيِّمَةَ.. قَرَّبَنِي مِنهُ، وَأَنا الَّذِي لا يَحمِلُ الوَثِيقَةَ الإِبتِدائِيَّةَ.
بَلِ الْمِئَاتُ مِمَّنْ يَحْمِلُونَ الشَّهَادَاتِ الْجَامِعِيَّةَ،
وَالْمَاجِسْتِيرَ، وَالدُّكْتُورَاه.
كُنْتُ مَحْسُودًا مِنْ قِبَلِ أَغْلَبِيَّتِهِمْ، بِسَبَبِ اهْتِمَامِهِ وَرِعَايَتِهِ وَحُبِّهِ لِي.
فَمَاذَا أَقُولُ لَهُ الآنَ؟!..
وَأَنَا عَلَيَّ، فِي كُلِّ مَطْلَعِ شَهْرٍ، أَنْ أَذْهَبَ إِلَى بَيْتِهِ،
وَأَدْفَعَ لَهُ أَرْبَاحَهُ.. فَإِنْ أَخْبَرْتُهُ، سَيَقُولُ:
- أَنْتَ وَحْدَكَ الْمَسْؤُولُ عَنْ عُمَّالِكَ، فَهُمْ جَاءُوا مِنْ قِبَلِكَ، وَهُمْ إِخْوَانُكَ، وَأَقْرِبَاؤُكَ، وَأَصْدِقَاؤُكَ..
وَلَا دَخْلَ لِي بِهِمْ.. أَنَا أَعْرِفُكَ أَنْتَ، وَسَنَدُ الْأَمَانَةِ
، أَنْتَ مَنْ وَقَّعَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمُحَامِي.
وَرُبَّمَا يَسْأَلُنِي:
- بِمَنْ تَشُكُّ؟!
فَبِمَاذَا أُجِيبُهُ؟!
أَنَا لَا أَشُكُّ بِأَحَدٍ مِنْكُمْ..
مُسْتَحِيلٌ أَنْ أُفَكِّرَ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ.. فَأَنْتُمْ أَعِزَّاءُ، وَجَدِيرُونَ بِثِقَتِي.. وَلَكِنْ، كَيْفَ أَرُدُّ عَلَيْهِ؟!
سَتَكُونُ فُرْصَةً عَظِيمَةً لِمَنْ يَحْسُدُونَنِي
لِيَتَحَدَّثُوا عَنِّي، خَاصَّةً لِمَنْ لَمْ يُحَالِفْهُ الْحَظُّ،
وَلَمْ يَفُزْ بِالْجَائِزَةِ الْعَرَبِيَّةِ
الَّتِي نِلْتُهَا أَنَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ.. فَقَدْ جَعَلَتْ كَرَاهِيَتَهُمْ لِي تَزْدَادُ وَتَتَفَاقَمُ.. وَالآنَ، صَارَ لَهُمْ مُمْسِكٌ عَلَيَّ، سَوْفَ يُلَطِّخُونَ اسْمِي الَّذِي تَعِبْتُ عَلَيْهِ كَثِيرًا،
وَيَنْسِبُونَ لِي أَقْذَرَ الصِّفَاتِ وَأَبْشَعَهَا.. خاصة (الشعرور أبو طاهر)،
ومِنْهُمْ مَنْ سَيَجْعَلُ مِنِّي (زِيرَ نِسَاءٍ)، وَبَعْضُهُمْ سَيُؤَكِّدُ بِأَنَّنِي أَلْعَبُ الْقِمَارَ،
وَأَتَعَاطَى الْخَمْرَ، أَوْ رُبَّمَا الْمُخَدِّرَاتِ.. أَوْ أَنَّنِي قُمْتُ بِإِخْفَاءِ النُّقُودِ، ثُمَّ ادَّعَيْتُ خَسَارَتَهَا.
وَأَنَا لَيْسَ بِمَقْدُورِي الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِي.. وَلَا يُمْكِنُنِي أَنْ أُوَجِّهَ تُهْمَةَ السَّرِقَةِ لِأَحَدٍ مِنْكُمْ، لِأَنَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى سَرِقَتِي، كَانَ حَتْمًا شَدِيدَ الذَّكَاءِ، وَلَئِيمًا، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِهِ،
وَقَادِرٌ عَلَى دَفْعِ التُّهْمَةِ
عَنْه.
*(دَهْلِيزٌ خَفِيّ).*
زَوْجَةُ صَدِيقِي (صَلَاحِ) تَكْرَهُنِي، وَلَا تُطِيقُ ذِكْرَ اسْمِي أَمَامَهَا، وَقَدْ فَعَلَتِ الْمُسْتَحِيلَ لِإِبْعَادِي عَنْ زَوْجِهَا.. وَأَنَا أُحِبُّهُ.. وَأَعْتَبِرُهُ مِنْ أَفْضَلِ أَصْدِقَائِي.. لِهَذَا بَذَلْتُ جُهُودًا كَبِيرَةً، وَكَثِيرَةً،
حَتَّى أَسْتَطِيعَ إِرْجَاعَ صَدَاقَتِنَا، عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ سَابِقًا، وَلَكِنَّنِي عَجَزْتُ.. لَقَدْ خَسِرْتُهُ..
وَأَنَا، مُنْذُ سَنَوَاتٍ، فِي حَالَةِ أَلَمٍ، وَحُزْنٍ شَدِيدَيْنِ.
هِيَ تَعْرِفُ مَدَى مَتَانَةِ، وَقُوَّةِ صَدَاقَتِنَا، فَنَحْنُ الاثْنَانِ، أَكْثَرُ مِنَ الإِخْوَةِ،
نَكَادُ لَا نَفْتَرِقُ، رَغْمَ بُعْدِ الْمَسَافَةِ، بَيْنَ بَيْتِي وَبَيْتِهِ
.. تَفْصِلُنَا مَسَافَةٌ، تَحْتَاجُ إِلَى (حَافِلَتَيْنِ)، لِنَجْتَازَهَا..
هُوَ فِي شَرْقِيِّ الْمَدِينَةِ، وَأَنَا فِي غَرْبِهَا.. وَكُنَّا، لِكَيْ نَلْتَقِيَ، نَسْتَقِلُّ بَاصَيْنِ،
أَوْ نَرْكَبُ تَكْسِي أُجْرَةٍ،
يَوْمَ نَتَأَخَّرُ فِي سَهَرَاتِنَا، وَيَكُونُ مَعَنَا نُقُودٌ تَكْفِي..
وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الأَحْيَانِ، يَوْمَ نَكُونُ مُفْلِسِينَ،
كُنَّا نَمْشِي سَيْرًا عَلَى الأَقْدَامِ، بِمِقْدَارِ سَاعَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ.. كَانَ الْمُهِمُّ أَنْ نَلْتَقِي.
أَهْلِي يُحِبُّونَهُ جِدًّا،
وَأَنَا، بِدَوْرِي، كُنْتُ أَلْقَى مِنْ أَهْلِهِ، الْمَحَبَّةَ وَالتَّقْدِيرَ.
صَدَاقَتِي مَعَهُ، بَدَأَتْ قَبْلَ تَعَرُّفِهِ عَلَى زَوْجَتِهِ،
بِسَنَوَاتٍ عَدِيدَةٍ،
حَدَّثَنِي عَنْهَا كَثِيرًا، حِينَ تَعَارَفَا، وَصَارَحَنِي بِإِعْجَابِهِ الشَّدِيدِ بِهَا،
قَبْلَ أَنْ يُصَارِحَهَا،
وَكُنْتُ، أَنَا بِدَوْرِي، أُشَجِّعُهُ عَلَى حُبِّهَا، وَالِارْتِبَاطِ بِهَا،
لِأَنَّهَا بَدَتْ لِي، أَنَّهَا تَحْمِلُ صِفَاتٍ جَيِّدَةً، وَهِيَ ابْنَةُ نَاسٍ طَيِّبُونَ.
وَبَعْدَ زَوَاجِهِ مِنْهَا، عَرَّفْتُ زَوْجَتِي عَلَيْهَا، وَنَشَبَتْ بَيْنَهُمَا صَدَاقَةٌ مَتِينَةٌ..
فَأَخَذْنَا نَتَبَادَلُ الزِّيَارَاتِ الْعَائِلِيَّةِ، فِي الْمُنَاسَبَاتِ، وَالْأَعْيَادِ، وَأَوْقَاتِ الْفَرَاغِ، وَغَيْرِهَا.
وَكَثِيرًا مَا كُنَّا نَحْضُرُ الأَمَاسِيَ الأَدَبِيَّةَ مَعًا،
سَوَاءٌ كُنَّا، أَنَا وَ(صَلَاحِ)، مُشَارِكَيْنِ فِي الأُمْسِيَةِ،
أَوْ كُنَّا مُجَرَّدَ حُضُورٍ، لِأُدَبَاءِ غَيْرِنَا.. وَكَذَلِكَ كُنَّا نَحْضُرُ، بَعْضَ أَفْلَامِ السِّينَمَا مَعًا.
أَقْصِدُ.. كَانَتِ الْعَلَاقَةُ بَيْنَنَا، رَائِعَةً، وَمَتِينَةً، وَعَلَى خَيْرِ مَا يُرَامُ.
وَعِنْدَمَا الْتَحَقَ (صَلَاحِ) بِخِدْمَةِ الْعَلَمِ الإلْزَامِيَّةِ، وَكَانَ بِحَاجَةٍ لِلنُّقُودِ..
لِتَغْطِيَ مَصْرُوفَهُ.. عَرَضَ عَلَيَّ أَنْ أَشْتَرِيَ مِنْهُ، مَكْتَبَتَهُ الأَدَبِيَّةَ.. فَقَدْ كَانَ يَمْلِكُ مَكْتَبَةً غَنِيَّةً، تَحْتَوِي عَلَى رَوَائِعِ الْكُتُبِ وَالْمَجَلَّاتِ الأَدَبِيَّةِ..
وَأَنَا كُنْتُ مُسْتَأْجِرًا، (كُشْكَ الأُدَبَاءِ)، الْوَاقِعَ فِي سَاحَةِ (سَعْدِ اللَّهِ الْجَابِرِيِّ)، أَمَامَ (نَادِي الضُّبَّاطِ).. وَكُنْتُ أَشْتَرِي الْكُتُبَ وَالْمَجَلَّاتِ الْمُسْتَعْمَلَةَ بِالْجُمْلَةِ، وَأَقُومُ بِبَيْعِهَا بِالْمُفَرَّقِ.
ذَهَبْتُ إِلَى بَيْتِهِ.. تَأَمَّلْتُ الْكُتُبَ الَّتِي أَعْرِفُهَا جَيِّدًا..
وَالَّتِي كُنْتُ أَسْتَعِيرُ بَعْضَهَا
.. وَسَأَلْتُهُ:
ــ كَمْ تُرِيدُ ثَمَنَهَا؟.
قَالَ:
ــ لا أَعْرِفُ.. أَنْتَ قَيِّمْ لِي ثَمَنَهَا؟.
قُلْتُ:
ــ بِثَمَانِيَةِ آلَافِ لِيرَةٍ..
وَلَوْ عَرَضَهَا عَلَيَّ غَيْرُكَ..
لَدَفَعْتُ لَهُ بِهَا (سِتَّةَ آلَافِ لِيرَةٍ).
قَالَ، وَهُوَ خَجُولٌ فِي الأُمُورِ الْمَادِّيَّةِ:
ــ أَنْتَ تَعْرِفُ كَمْ هِيَ غَالِيَةٌ عَلَيَّ.. وَلَكِنَّهَا الْحَاجَةُ يَا صَدِيقِي.. لِذَلِكَ أَطْلُبُ مِنْكَ أَنْ تُعْطِيَنِي ثَمَنَهَا عَشَرَةَ آلَافِ لِيرَةٍ.
وَلَمَّا كَانَ صَدِيقِي (صَلَاحِ)
، غَالِيًا عَلَى قَلْبِي، وَأَنَا أَتَمَنَّى مُسَاعَدَتَهُ وَخِدْمَتَهُ..
بَرَقَتْ فِي ذِهْنِي فِكْرَةٌ جَمِيلَةٌ.. فَقُلْتُ:
ــ اِسْمَعْ يَا (صَلَاحِ).. أَنَا سَأَخْدِمُكَ، فِي بَيْعِ مَكْتَبَتِكَ.
سَأَلَنِي بِلَهْفَةٍ:
ــ كَيْفَ؟!.. اِشْرَحْ لِي.
ــ سَأَبِيعُ لَكَ الْمَكْتَبَةَ بِالْمُفَرَّقِ، وَلَنْ أَشْتَرِيَهَا مِنْكَ بِالْجُمْلَةِ.
ثُمَّ أَخَذْتُ أُوَضِّحُ لَهُ، وَأَشْرَحُ فِكْرَتِي، الَّتِي لَمْ يَكُنْ، قَدِ اسْتَوْعَبَهَا بَعْدُ.
قُلْتُ:
ــ اُكْتُبْ لِي قَائِمَةً، بِجَمِيعِ الْكُتُبِ وَالْمَجَلَّاتِ، الَّتِي عِنْدَكَ.. وَاكْتُبْ عَلَى كُلِّ غِلَافٍ خَارِجِيٍّ مِنْهَا، ثَمَنَ النُّسْخَةِ، بِطَرِيقَةٍ لا يَفْهَمُهَا الْمُشْتَرِي.
قَالَ مُبْتَسِمًا:
ــ لَمْ أَفْهَمْ.. كَيْفَ؟!.. وَضِّحْ لِي أَكْثَرَ.
أَجَبْتُهُ:
ــ أَنْتَ قَدِّرْ ثَمَنَ الْكِتَابِ..
وَاكْتُبْ عَلَيْهِ السِّعْرَ الَّذِي تُرِيدُهُ، بَعْدَ أَنْ تُضِيفَ عَلَى الرَّقْمِ الْمَطْلُوبِ.. (مِئَةٌ وَخَمْسَةٌ).. يَعْنِي:
إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بَيْعَ النُّسْخَةِ بِعِشْرِينَ لِيرَةً،
فَاكْتُبْ عَلَى غِلَافِ النُّسْخَةِ، الرَّقْمَ: (مِئَةٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ).
وَعِنْدَ الْبَيْعِ، نَطْرَحُ مِنَ الرَّقْمِ (الْمِئَة)، وَالْخَمْسَةُ، تَكُونُ قَابِلَةً لِلْمُسَاوَمَةِ، وَلِلْمُرَاعَاةِ، إِنْ قَامَ الْمُشْتَرِي بِالْمُسَاوَمَةِ، فَنَبِيعُهُ النُّسْخَةَ بِـ (عِشْرِينَ).
دَائِمًا نَزِيدُ عَلَى الثَّمَنِ: (مِئَةٌ وَخَمْسَةٌ)،
وَعِنْدَ إِسْقَاطِهَا، تَبْقَى التَّسْعِيرَةُ الْحَقِيقِيَّةُ لِلنُّسْخَةِ، مِنْ دُونِ أَنْ يَعْرِفَ السِّرَّ أَحَدٌ.
وَأَنَا بِدَوْرِي، سَوْفَ آخُذُ مِنْكَ (بِالْمِئَةِ عَشَرَةً)،
مِنْ سِعْرِ الْمَبِيعِ، وَهَكَذَا يَصِلُ إِلَيْكَ مَبْلَغٌ جَيِّدٌ،
بَدَلَ أَنْ تَبِيعَهَا بِالْجُمْلَةِ، دُفْعَةً وَاحِدَةً.
كَانَ بِإِمْكَانِي أَنْ أَرْبَحَ أَكْثَرَ، فِي بَيْعِ الْمَكْتَبَةِ،
لَكِنَّهُ (صَلَاحِ)، الَّذِي أُحِبُّهُ..
صَدِيقُ عُمْرِي.. فَأَنَا لَا أَطْمَعُ بِرِبْحٍ، مِنْ خِلَالِهِ،
بَلْ كُلُّ مَا أَرَدْتُ أَنْ أَحْصُلَ عَلَيْهِ، هُوَ تَعْوِيضُ بَعْضِ نَفَقَاتِي.. فَأَنَا أَدْفَعُ أُجْرَةَ (الْبَرَّاكَةِ) الشَّهْرِيَّةَ، إِلَى جَانِبِ أُجُورِ الْعَامِلِينَ.. مَعِي فِيهَا.. وَثَمَنُ فَوَاتِيرِ الْكَهْرَبَاءِ، وَالْمُوَاصَلَاتِ،
وَالْغَرَامَاتِ الْكَثِيرَةِ،لِشُرْطَةِ (الْبَلَدِيَّةِ)، وَإِلَى شُرْطَةِ (الْمُكَافَحَةِ)، وَإِلَى عَنَاصِرِ أَمْنِ (الْجِنَائِيِّ)،
وَعَنَاصِرِ أَمْنِ (الدَّوْلَةِ)، وَعَنَاصِرِ أَمْنِ (السِّيَاسِيِّ)،
وَعَنَاصِرِ أَمْنِ (الْعَسْكَرِيِّ)، وَعَنَاصِرِ أَمْنِ (الْجَوِّيِّ)،
وَغَيْرِهَا مِنَ الْمُصَادَرَاتِ، وَالضِّيَافَاتِ، وَالسَّرِقَاتِ،
وَالنَّصْبِ وَالِاحْتِيَالِ، وَالدُّيُونِ الْمَيِّتَةِ، الَّتِي لَنْ تُدْفَعَ لِي.
كَانَ (صَلَاحٌ) سَعِيدًا، بِمُسَاعَدَتِي لَهُ، وَلَقَدْ قَدَّمَ لِي الشُّكْرَ، وَأَعْرَبَ عَنْ امْتِنَانِهِ مِنِّي، وَأَمْسَكَ بِيَدِي، وَضَغَطَ عَلَى أَصَابِعِي.
وَأَخَذْنَا أَنَا وَهُوَ، بِتَسْعِيرِ بَعْضِ الْكُتُبِ، عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي اقْتَرَحْتُهَا..
ثُمَّ حَمَلْنَا قِسْمًا مِنْهَا فِي حَقَائِبَ، وَأَتَيْنَا بِهَا إِلَى (الْبَرَّاكَةِ).. وَبَدَأْنَا عَرْضَهَا، عَلَى بَسْطَةٍ، جَانِبَ
(الْبَرَّاكَةِ)، مِنْ طَرَفِ بَابِهَا.
وَسُرْعَانَ مَا لَفَتَتْ انْتِبَاهَ الْكُتَّابِ وَالْأُدَبَاءِ، وَالْفَنَّانِينَ وَالْمُثَقَّفِينَ.. الّذينَ يتردَّدون، وبشكلٍ دائم، على (بَرّاكَتي) الصّغيرة، الّتي أطلقوا عليها اسم (كُشك الأدباء).. فقد كانوا هُنا، وعلى الرّصيف العريض، مكانَ تَجمّعِهِم، ولقائِهم، ومواعيدِهم، قبل أن ينطلقوا إلى مبنى (البريد)، أو إلى إحدى المقاهي المُنتشِرة، أو إلى فرع (اتّحاد الكُتّاب العرب).
وعلى مدارِ أيّامٍ عديدة، كان (صَلاح)، وبِمساعدةِ أخويْه، يأتون إلى
(البَرّاكَة)، حاملين رُبَطاتِ الكُتب والمجلّات، مع قائمةٍ بعددِها، وعناوينِها، وأسعارِها.
وكانت الأيدي تَخطَفُها، وتنتظرُ وُصولَها، فهي غنيّةٌ، وذاتُ قيمةٍ هامّة، ونادرةُ التَّواجُد، وبأسعارٍ رَخيصة.
كان هناك من يشتريها دَيْنًا، وهناك من يأخذُ أعدادًا منها، ثمَّ يُساوِمُني على الشّراء بالجُملة، لا بالمُفرّق، وبالتالي عليَّ أن أُراعيَهُ في السّعر.
وكان هناك من يقول لي:
- لا أَملِكُ إِلّا هذا المَبلَغَ.
ويكونُ مَبلَغُه ناقصًا عن السِّعرِ... أيضًا، كان هناك مَن يُخفي بعضَ الكُتبِ بينَ الجرائدِ والمجلّاتِ التي يَحمِلُها، ويقومُ تحتَ سِتارِها بالسّرقةِ، ولا يَدفَعُ لي ثمنَها.
وكان هناك مَن يُشغِلُني، أو يُشاغِلُ أحدَ إخوتي، بعدَ انتهاءِ دَوامي وبِدءِ دَوامِه. لصوصُ الكُتُبِ بارعون، وهذا معروفٌ عنهم في كلِّ بُلدانِ العالَمِ؛ فهم أذكياءُ، ومثقَّفون، ومخادِعون... لا أحدَ يَقدِرُ عليهم.
بِعتُ الكُتُب، وفي تَقديري، بعدَ تَعبي... كنتُ خاسِرًا.
(صلاح) سيُحاسبُني بموجبِ القوائمِ التي كَتبَها، وهو يَحتفظُ بنسخةٍ منها لديه، عن كلِّ كتابٍ ومجلّة.
حاولتُ أن أشرحَ له المشكلةَ، فقامَ بالتّنازلِ عن مبلغِ (ألفِ ليرةٍ)، لكي لا أتحمَّلَ المسؤوليّةَ
وَحدي.
وَلَكِنَّ بِتَقديري، كانت خَسارتي أَكبَرَ مِن هذا الرَّقمِ بِكَثيرٍ.. ولَم أستَطِعْ أن أَتَكَلَّمَ أَكثَر.. صَمَتُّ.
وكانَ عَلَيَّ أن أَدفَعَ لـ(صلاحٍ) مَبلَغًا قِيمتُهُ (سَبعةٌ وأَربعونَ ألفَ ليرةٍ).. المَكتبةُ الّتي قَدَّرتُ ثَمنَها (بِثمانيةِ آلافِ ليرةٍ)، طَلَبَ (صلاحٌ) مِنّي دَفعَ (عَشَرةِ آلافِ ليرةٍ)، بِحُجّةِ أَنَّها غالِيةٌ عليه، ثُمَّ لَمَّحَ لي بِصُعوبةِ وَضعِهِ الماديِّ السَّيِّئ. فدَفَعَني، بِدافعِ المَحبّةِ والمُروءةِ، أن أَعرِضَ عليهِ أن أَبيعَها لهُ بِالمُفَرَّقِ.. وَبِهذِهِ الطَّريقةِ، الّتي لَم أَحسِبْ أَبعادَها.. رَبِحَ (صلاحٌ)، وَتَضَرَّرتُ أنا.
أنا لا أَفهَمُ، وَلا أُصلِحُ، لِلتِّجارةِ.. لَستُ بِالرَّجُلِ الماديِّ.. أَتَحرَّجُ، وَأَخجَلُ، وَلا أُساوِمُ، أَو أُبازِرُ، أَو أُفاصِلُ، أَو أَغُشُّ، أَو أَتلاعَبُ، أَو أَخدَعُ، أَو أَكذِبُ، أَو أَخُونُ، أَو أَغدِرُ، أَو أَستَغِلُّ، أَو أَحتَكِرُ، أَو أَنكُصُ، أَو أَتَقَلَّبُ، أَو أَهرُبُ، أَو أَظلِمُ.
وكلُّ هذا أدواتٌ للتّاجرِ النّاجحِ، والمتفوّقِ، والرّابحِ، والمتوسّعِ، والشّاطرِ، والحاذقِ.
ومع هذا، طلبتُ من (صلاحٍ) أن يُعطيني (ثلاثةَ آلافِ ليرةٍ)، فيُصبحَ له عندي مبلغُ (خمسينَ ألفِ ليرةٍ)، أُشغِّلُها له عندي، ريثما يُسرَّحُ من الجيش، مقابلَ أن أدفعَ له، (ألفًا وخمسمائةَ ليرةٍ) شهريًّا، على سبيلِ الأرباح.
فوافق، وجلبَ لي المبلغَ من راتبِ زوجتِه، ووقّعتُ له على سندِ أمانةٍ، ليطمئنَّ هو وزوجتُه، حيث كنتُ في ضائقةٍ ماليّة، بعد أن صادرت لي شرطةُ (المكافحة) كمّيّةً كبيرةً من الدّخانِ المُهرَّب.
وصار في مطلعِ كلّ شهرٍ، يأتي إلى (البرّاكة)، ويأخذ منّي المبلغَ المُتَّفقَ عليه.
سنتانِ وأكثرُ، ونحن على هذا الحالِ، وبعد أن سُرِّحَ من خدمةِ (العَلَمِ)، طلب منّي نقودَه، فاتّفقتُ معه أن أُرَدِّها له بعد شهرين.
لم تكن ظروفي الماليّةُ بالجيّدةِ، كنتُ أتراجعُ، وأخسرُ، في (البرّاكة)..
فأستدينُ، وألجأُ إلى تشغيلِ الأموالِ، من أصدقائي ومعارفي، على أملِ تعويضِ الخسائرِ، رافضًا أن أعترفَ بالهزيمةِ
، والفشلِ.
دائمًا كنتُ أبحثُ عن المُبرّراتِ، والحُججِ، والأعذارِ، ومُتخيّلًا نفسي بأنّني سأعوّضُ خسائري، وأربحُ الكثيرَ، وأُصبحُ غنيًّا، تفتخرُ بي زوجتي، وتتباهى أمام الجميع.
أنا: كتابةُ الشِّعرِ، والقصّةِ، والقراءةِ، ومتابعةُ الأمسياتِ والمهرجاناتِ الأدبيّةِ، وانخراطي في الوسطِ الأدبي، ومشاركاتي في المسابقاتِ الأدبيّةِ، التي يُعلَنُ عنها في سوريّةَ وسائرِ الأقطارِ العربيّة، وتردّدي على المقاهي، والحاناتِ، ومُعاشرتي للأدباءِ، ومُنافستهم، وتحدّيهم، وتعرّفي على فتياتٍ عوانسَ، يَدّعينَ الكتابة... وحُبُّهُنَّ للقراءةِ والمطالعةِ، وإعجابُهُنَّ بكتاباتي، ومصاريفي الكبيرةُ، كانتِ السَّببَ في تردّي وضعي المادّيِّ هذا.
حُصولي على عدَّةِ جوائزَ أدبيّةٍ، في حلب، وسوريّة، وبعضِ الدّول العربيّة، في زمنٍ قصير، شغَلَني، وجعلَ منّي حالِمًا بالمجدِ، والشُّهرةِ، والثّراء.. وهذا ما جعلني أُهملُ مُتابعتي للبَرّاكَةِ، التي كانت مُربِحةً لمن يَهتمُّ بها.
مرّةً أُخرى، وبعدَ انقضاءِ شَهرين، وكُنّا نجلسُ في مقهى (الموعد)، أنا و(صلاح)، وصديقٌ عزيزٌ آخر، اسمُه (طلال)، وكان صديقُنا هذا، يعملُ في التّرجمة، وهو من أعظمِ مُتذوّقي الأدب، في الشِّعرِ، والقصّةِ القصيرةِ، والرّوايةِ، والنّقد.. فهو واسعُ الثّقافةِ، يُجيدُ لُغاتٍ عديدة، ومُطّلعٌ على رَوائعِ الأدبِ العالمي.
حينها، طالَبَني (صلاح) بنقودِه، ونحنُ في الجلسةِ هذه، وذكّرني بالمَوعدِ الذي كُنتُ أنا مَن حدَّدتُهُ، منذ شَهرين، لتسديدِ المبلغ.
اِنْتابني بعضُ الصَّمْتِ.. وفكَّرتُ أن أعرضَ فكرتي على (صلاحِ)، بوجودِ صديقِنا (طلال)، فهو محبٌّ لنا، أنا و(صلاحِ).. ومؤكَّدٌ أنّه سيساعدُنا على إيجادِ حلٍّ، ولن يترُكنا نختلف.
قلتُ:
- (صلاحِ).. أنا أُعاني من وضعٍ مادّيٍّ صعب، ولا أُريدُ أن أقولَ لك:
- لا نُقودَ عندي.
تغيَّرتْ قسماتُ وجهِ (صلاحِ).. وجهُهُ الأبيضُ الجميلُ، تحوَّلَ إلى الاِحمرار، وأُصيبَ بالوجوم.. وأخذتْ عيناُهُ العَسَلِيّتانِ تَرْمِشانِ بسرعةٍ أكثر، إلى جانبِ ارتباكِ حدقتَيْهِ.
وانكمشتِ ابتسامةُ (طلال)، فوقَ شَفَتَيْهِ الرَّقيقتَيْن، والحادّتَيْن.. نظرَ إلينا، وسأل:
- ما بكُما؟!.. عن ماذا تتحدّثان؟!
أرادَ (صلاحِ) أن يتكلّمَ، وكان صوتُهُ مشحونًا بالضِّيقِ والانفعال، لكنّي سبَقْتُه، وقطعتُ عليهِ الطّريق:
- ولكن... لديّ فكرةٌ، وفيها فائدةٌ لك ولي، إنْ أنتَ وافقتَ عليها.
قال (طلال):
- يا جماعة، أنا لم أفهم، عن ماذا تتحدّثان؟
أخذ (صلاحِ) يشرح لـ(طلال) الأمر، بينما كنتُ أُراجعُ فكرتي، وأدرسُها بشكلٍ جيّد.
وسألني (طلال)، وكان الاستغرابُ بادياً عليه:
- (مصطفى)، أنا عملتُ معك في (كشك الأدباء) لأكثر من سنة، وكانت مبيعاتك ممتازة...
صار في جوارك مركزُ انطلاقِ سفريّات (النّحاستور)، وإنّ إقامةَ الأعراسِ في نادي (الضّباط)، الواقعِ أمام (برّاكَتك)... كذلك النّاسُ دائمًا منتشرونَ في ساحة (سعد الله الجابري)، القريبةِ منك... فلماذا أنتَ في ضائقة؟! وأحوالُك في تراجع؟!، لا بدَّ أنّ هناكَ من يقومُ بسرقتك!!
وتدخّل (صلاحِ) في الحديث:
- يا رجل... بيعُ الدّخانِ المهرَّبِ عندك، كافٍ لأن يُغنيكَ، وكذلك المشروبات
(كازوز)، و(مندرين)، و(كولا)، ومياهٌ (معدنيّة)، إلى جانبِ بيعك لـ (الموالح)، وأنواعٍ لا تُحصى من (الشّوكولا)، و(البسكويت)، و(البوظة)
... ويبقى الأهمُّ عندك، وهو بيعُك للكتب، والجرائد، والمجلّات.
قال (طلال):
- أنتَ تشتغلُ في أهمِّ منطقةٍ في حلب... هنا مركزُ المدينة، وساحةُ (سعد الله الجابري)، و(نادي الضّباط)، ومركزُ (البريد)، و(المقاهي) العديدة، و(المطاعم) المتنوّعة، و(الاستراحات) الجميلة، و(الحديقة العامّة)، والمركز (الثّقافي)، والمكتبة (الوطنيّة)، و(اتّحاد الكتّاب العرب)، و(نادي التّمثيل العربي)، و(النّادي العربي الفلسطيني)، و(جمعيّة العاديات)، ونقابة (الفنّانين)...
وَالْمَسْرَحُ (الْقَوْمِيُّ)، وَمَعْهَدُ (الْفُنُونِ التَّشْكِيلِيَّةِ)، وَ(الْمُتْحَفُ الْوَطَنِيُّ)، وَجَرِيدَةُ (الْجَمَاهِيرِ)، وَالْفُنْدُقُ (السِّيَاحِيُّ)، وَ(الْمَكْتَبَاتُ الْعَامَّةُ)، وَمَرَاكِزُ (السَّرْفِيسِ)، وَمَوْقِفُ (بَاصِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ)، وَ(مَحَطَّةُ بَغْدَادَ لِلْقِطَارَاتِ)، وَشَلَّالَاتُ (نَهْرِ قُوَيْقٍ)، وَمَصَارِفُ (التَّسْلِيفِ الشَّعْبِيِّ)، وَ(وَالْبُنُوكُ الْمَرْكَزِيَّةُ)، وَمَرْكَزُ (حَجْزِ الطَّيَرَانِ)، وَمِنْطَقَةُ (الْجُمَيْلِيَّةِ)، وَمِنْطَقَةُ (بَابِ جَنِينَ)، وَمِنْطَقَةُ (السَّبْعِ بُحَيْرَاتٍ)، وَمِنْطَقَةُ (التِّلِّلِ)، مَرْكَزُ بَيْعِ الْأَلْبِسَةِ الْجَاهِزَةِ، وَمَحَلَّاتُ بَيْعِ الْأَحْذِيَةِ، وَ(مُنْشِيَّةُ الْبَاصَاتِ)، وَمَرَاكِزُ فُرُوعِ (الْأَمْنِ) الْمُتَعَدِّدَةِ، الْأَمْنُ (الْجِنَائِيُّ)، وَأَمْنُ (الدَّوْلَةِ) وَالْأَمْنُ (السِّيَاسِيُّ)، وَالْأَمْنُ (الْعَسْكَرِيُّ) وَفَرْعُ (حِزْبِ الْبَعْثِ الْعَرَبِيِّ الْاِشْتِرَاكِيِّ)، وَ(الشَّعْبِ الْحِزْبِيَّةِ) وَ(مُدِيرِيَّةِ التَّرْبِيَةِ)، وَفَرْعُ (الشَّبِيبَةِ)، وَ(نِقَابَاتِ الْعُمَّالِ) وَ(حَنَاتِ الْخَمْرِ)، وَمُشْفَى (الْقَسِيسِ) لِلْوِلَادَةِ.
وهنا التفتَ إليّ صديقي (صلاح)، وأخذَ يُقسمُ لي:
- أقسمُ بالله يا (مصطفى)
، إنْ لم تستغلَّ وجودَك في هذه (البرّاكة)، وتجمعْ ثروةً تُؤمِّنُ بها مستقبلك، فسأقولُ عنك: غبيّ، وفاشل، وأحمق.
وأكّد الصديقُ (طلال) على كلامه، بقوله:
- نعم، أنا أتّفقُ مع (صلاح) في قوله هذا.
تابعه (صلاح)، موجّهًا اتّهامَه لي:
- يا أخي، أنتَ مصروفُك كبير، لقد شكا لي منك أخوك (سامي).
ثم راح يشرح لـ (طلال):
- إنّه يصرفُ بلا حساب، على صاحباتِه.. كلُّ ساعةٍ تأتي لعنده واحدة، فيأخذُها ويذهب.. ثمّ إنّه لا يزالُ محافظًا على عاداتِه الرّيفيّة.. عندما نكون في المقهى، يدفعُ الحسابَ عن جميعِ من يجلسُ معنا على الطّاولة!
وكذلكَ يطلبُ الشّايَ والقهوةَ، في الجلسةِ الواحدة، أكثرَ من مرّة.. وكأنّه جالسٌ في بيتِه!
وتراهُ في اليومِ الواحد، ينتقلُ من مكانٍ إلى آخر.. ساعةً تجدهُ في مقهى (الموعد)، وساعةً في مقهى (رمسيس)، وأخرى في منتدى (الشّام)، وبعدها في صالة فندق (السّياحي)، ويذهبُ أيضاً إلى (بوفيه) الحديقة العامّة، وإلى استراحة (النّخيل)، ثمّ ينتقلُ إلى حانة (حنّا كعدة)، أو مطعم ومقصف (المنشيّة)
، وفي المساءِ، يُصاحبُ الشّاعر (محمود علي السّعيد) إلى مقصف (نادي الضّباط).
ومطلوبٌ منه أن يصرفَ، ويدفعَ، ويركبَ(التّكاسي)
، ويدورَ من مكانٍ إلى مكان، ومن شلّةٍ أدبيّة، إلى شلّةٍ أخرى!
سألني (طلال)، وهو يضحك:
- ومتى تذهبُ إلى بيتك؟!.. وكيف تحتملُكَ زوجتُكَ؟!
قلتُ بتحرُّجٍ:
- آهٍ يا أصدقائي... أنتم تُغالون، ولا تعرفون صعوبةَ ظروفي.
صاح (طلال):
- اصمتْ يا (مَنيك)! لقد شكا لي منك، أخوك (سامي) أيضاً... قال:
-إنك لا تأتي إلى (البرّاكة)، إلّا لتأخذَ ما جمعوه من (غلّة)... تضعُ النّقودَ في جيبك، وتغيبُ. والله... لوْلا وجودُ أخيك (سامي)، لتدمّرتَ أنتَ، وتحطّمتْ تجارتُك.
قلتُ بنزقٍ:
- (سامي) أخي... أكثر من يعرفُ ما أنا أُعانيه من مشاكلَ في (البرّاكة)... أنا لا أنكرُ كلامكم... نعم، أنا (مُبذِّر)... ولا أنكر هذا، لكنْ على مُوجبِ حساباتي وتقديري... أنا أربحُ في كلِّ يومٍ ما يُقارب أو يتجاوز (الألفي ليرة)، وإن كنتُ أُنفِقُ في اليومِ الواحد (ألفَ ليرة)، فهذا يعني أنني أُوفّر (الألف) الثانية، في كلّ يوم! فأين تذهبُ هذه النّقود إذًا؟! أنا مُفلِسٌ يا جماعة... تراكمتْ عليّ الدّيون، وإلى جهاتٍ عدّة... أكاد أَجُنّ... أنا لا أنام!
تابعتُ كلامي، مخاطبًا (صلاح):
- أنتَ يا (صلاح)، ستأخذُ منِّي نقودكَ، لتُضيفها على ثمنِ الذّهبِ الذي بعتهُ لزوجتكَ، وأودعتَه عند (الرّواس)، بقصدِ تشغيلِ النّقود، وهو يدفعُ لكَ، على (المئةِ ألفٍ)، (ثلاثةَ آلافِ) ليرةٍ في الشّهر... وأنا كنتُ أفعلُ معكَ هذا، أدفعُ لك (ألفًا وخمسمائة) ليرة، على مبلغكَ (الخمسين ألفًا)... والآن، ما الفرقُ عندكَ، بين أنْ تودِعهم عند (الرّواس)؟ أو أن تأخذهم منّي على أقساطٍ؟ بعد أن أضيفَ لكَ عليهم (عشرةَ آلافٍ) ليرة؟!..
وهكذا، أنتَ تربحُ (العشرةَ آلافٍ)، وأنا بدوري أوفّر (عشرةَ آلافٍ).
ردَّ (صلاح)، وعلاماتُ الحيرةِ باديةٌ عليه:
- لا أنكر... إنّها فكرةٌ جميلة... ولكن، أليس هذا حرامًا؟
(صلاح)... أكثرُ واحدٍ في شلّتنا تديُّنًا، ولكنّه يريدُ مالًا، فهو فقير، ويسكنُ في غرفةٍ ضيّقةٍ عند أهله.
لذلك يعملُ هو وزوجتُه، طمعًا أنْ ينالا الاستقلالَ عن العائلة، ويكونَ لهما بيتُهما الخاصّ.
قلتُ له:
- هل عند (الرّواس) حلالٌ، وعندي حرامٌ؟!
أراد أن يتابعَ نقاشَه، فنظرَ إلينا حائرًا، وقال:
- ولكن...
وهنا قاطعه (طلال)، وقال له بنزق:
- حبيبي (المْنيك) (صلاح)... هذه الطّريقةُ تُزعجني فيك... إنْ كان حرامًا، إذًا خذْ نقودك دون أرباح!.. أصلًا (مصطفى) له الفضلُ أن يصبحَ عندكَ هذا المبلغ!.. كان بإمكانه أن يشتريَ منك مكتبتك بسعرٍ ضئيل، لكنّه أراد أن يخدمك!.. لم يتشاطرْ عليك، ويربحْ منك!.. وأنتَ عليك أن تُحدّد... إنْ كان هذا حلالًا، أو حرامًا.
وهكذا، وبمساعدة (طلال)... تمّ الاتّفاق، وأنا التزمتُ معه بجميعِ الأقساط... وكان (صلاح)، في مطلعِ كلّ شهرٍ، يأخذُ منّي (خمسةَ آلافٍ)،
قسطُهُ المُستحقُّ، ويضعُ فوقَ هذا المبلغ، ما تيسّرَ له ولزوجته، من نقودٍ ومدّخراتِهما، من راتبَيْهِما، فيذهبُ (صلاح) إلى مكتبِ (الرّوّاس)، ليُضيفَ على وديعتِهِ، لتكبرَ... وتزدادَ أرباحُه، وتَنمو.
كان اسمُ (الرّوّاس)، يدورُ على كلِّ فمٍ، ولسانٍ، وطامعٍ، وحالِمٍ، ومرتشٍ، وسارِقٍ، وحراميٍّ، وبخيلٍ، ومُتقاعدٍ، وعامِلٍ،وموظّفٍ
، ورجلِ دينٍ، وضابِطٍ، ومسؤولٍ، وأرامِلَ، ومُطلّقاتٍ، وعوانِسَ، وراقصاتٍ، وبائعاتِ هوى، وفنّانين.
ويحدثُ هذا... على كاملِ الأراضي السّوريّة... المسألةُ لا تخصُّ (حلب) وحدَها، بل صار، كلُّ مَن عندَه نقودٌ أو مدّخراتٌ، أو ذهبٌ، أو عقاراتٌ، أو أراضٍ، أو محلّاتٌ، أو دكاكينُ، أو عماراتٌ، أو منازلُ، أو سيّاراتٌ، أو مزارعُ، أو مطاعمُ... صار أكثرُهُم يبيعُ ما يَملك، ويهرعُ إلى مكتبِ (الرّوّاس)، لتشغيلِ أموالِه... طامعًا بما يُعطيهِ من أرباحٍ كثيرةٍ.
فجأةً... دَوّى خبرٌ فظيعٌ، في سائرِ أنحاءِ (سوريّة)
... نعم... لقد أَشهرَ (الرّوّاسُ) إفلاسَهُ، وهربَ من البلاد.
صُعِقَ الناسُ... ضَجّوا... تجمّعوا عندَ مكتبِهِ، كَسَّروا، زَعَقوا، حطَّموا... هدّدوا، وتوعّدوا... وطالبوا الحكومةَ بالتدخّل، للقبضِ على النّصّاب، الذي سرقَ لهم "تَحويشةَ" العُمر.
رِجالُ الدّينِ، خجلوا أن يَكشفوا عن أنفُسِهم... فلاذوا بالصّمتِ... فهم يَتعامَلون (بالرِّبا)، في السِّر، دونَ أن يُخبِروا حتّى أقربَ الناسِ إليهم، خَشيةً على مكانتِهِم... فماتَ منهم، عن طريقِ الانتحار، أو شدّةِ القهرِ، والغيظِ، أعدادٌ غفيرة... وهناكَ من أُصيبَ (بالشَّلل)، أو (بالجَلطة).
أمّا السُّرّاقُ، والمُرتَشون، من طبقةِ المسؤولينَ في الدّوائرِ الحكوميّة، فحالُهم كان كحالِ رجالِ الدّين... لقد أُجبِروا على أن يَصمتوا... خَوفًا من أن يُوجَّهَ إليهم، من (الرّقابةِ والتّفتيش)، سؤالٌ:
- (مِنْ أَيْنَ لَكَ هذَا)؟!
وَهُنَاكَ بَعْضُ النِّسَاءِ.. مِنْ أَرَامِلٍ، وَعَجَائِزَ، وَمُطَلَّقَاتٍ، وَعَوَانِسَ.. وَبَائِعَاتِ هَوَى فِي السِّرِّ.. وَكُنَّ وَضَعْنَ أَمْوَالَهُنَّ عِنْدَ (الرَّوَّاسِ)، فِي السِّرِّ، دُونَ عِلْمِ عَائِلَاتِهِنَّ، أَوْ رِجَالِهِنَّ، أَوْ أَوْلَادِهِنَّ.. ظَلَلْنَ صَامِتَاتٍ، يَبْكِينَ فِي الْخَفَاءِ.. وَلَكِنَّ كَانَ لَا يَخْلُو الْأَمْرُ مِنْ نِسَاءِ، صَرَخْنَ، وَمَزَّقْنَ ثِيَابَهُنَّ، وَأُغْمِيَ عَلَيْهِنَّ، وَارْتَكَمْنَ عَلَى الْأَرْضِ، فَوْقَ الرَّصِيفِ الضَّيِّقِ، قُرْبَ الْمَكْتَبِ الْمَشْؤُومِ.
وَانْتَشَرَتِ الشَّائِعَاتُ.. عَنْ مَسْؤُولِينَ، أَصْحَابِ مَنَاصِبَ كَبِيرَةٍ، عِنْدَ الْحُكُومَةِ، بِأَنَّهُمْ سَاعَدُوا الْمَدْعُوَّ (الرَّوَّاسَ)، عَلَى الْهَرَبِ، وَتَهْرِيبِ الْأَمْوَالِ، الَّتِي لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى، مُقَابِلَ أَنْ أَخَذُوا، حُصَصَهُمْ مِنَ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ.
كَوارِثُ كَثِيرَةٌ حَصَلَتْ، مَعَ بَعْضِ النَّاسِ، بِسَبَبِ هُرُوبِ (الرَّوَّاسِ)،بِأَمْوَالِهِمْ.
وتقريبًا، شُلَّت الحياةُ الاقتصاديّةُ والتّجاريّةُ، وتفاقمتِ البطالةُ، وعَشَّشَ الهَمُّ، والحُزنُ، والكَربُ، في قلوبِ أهلِ البلد.
وكانَ صديقي (صلاحٌ)، واحدًا من هؤلاءِ الذين أُفْلِسوا... فقد ذهبت نقودُه، وكلُّ أرباحِهِ، معَ الرِّيح، مثلُهُ مثلَ البقيّةِ تمامًا.
كانتِ الصّدمةُ عنيفةً، وقاسيةً، ومؤلمةً، عليهِ، وعلى زوجتِهِ؛ فقد ضاعَ منهما حلمُهما، بالاستقلالِ في بيتٍ لوحدِهِما، حينَ فَقَدَا كلَّ ما جمعاه، من مُدَّخراتٍ، من راتبَيْهِما، وأُجورِ ساعاتِ الدّروسِ الخصوصيّة، التي يُعطيانِها للطّلبة... وثمنِ المصاغِ الذّهبيّ، وأيضًا ثمنِ المكتبةِ العظيمةِ، التي لا تُعوَّض، مع كافّةِ الأرباح.
ذهبنا إليه، في بيتِ أهلِه... أنا، وصديقُنا المشترك (فائز عبدان)، الذي كنتُ أَعتمدُ عليهِ، في تأمينِ البضاعةِ، التي أبيعُها، عندي في (كشكِ الأدباء).. فقد كان يذهبُ إلى (تركيا)، في كلِّ أُسبوعٍ، مرَّةً أو مرَّتين، لإحضارِ ما يلزمُ، ويُطلَبُ، ويُباع.
قال له (فائزٌ)، بعد أن جلَسْنا على الأرائكِ، ولاحظْنا مدى الحُزنِ والكآبةِ الباديتينِ بوضوحٍ على وجهِ (صلاح):
- كم مرَّةً نصحتُكَ، يا صديقي، بسحبِ نقودِكَ من عندِ هذا (النّصّاب)؟!
ردَّ (صلاح)، بعد أن هزَّ رأسَه، بصوتٍ خفيضٍ ومُتكسِّر:
- وجدتُ الجميعَ يَثقُ به، ففعلتُ مِثلَهم.
قلتُ له:
- كان عليكَ أن تُودِعَ نقودَكَ في البنك، ثمَّ تشتري بيتًا بالتّقسيط.. لكنّك طمِعتَ بالأرباح.
وهنا جاءنا، من خلفِ البابِ المُغلق، صوتُ زوجته، حادًّا وعاتبًا:
- أَلَسْتَ أنتَ السّببَ، يا سيّد (مصطفى)؟!.. سامحكَ الله.. لو كنتَ دفعتَ لنا المبلغَ دُفعةً واحدة، ما كُنَّا أعطيناه نقودَنا، وتركناهُ ينصبُ علينا!
صاحَ بها (صلاح)، بنزقٍ وحدّة:
- اِسْكُتي أنتِ.. ولا تتدخّلي بيننا!
صُعِقْتُ من قولِها هذا!.. دُهِشْتُ من تحميلي السّبب!.. أنا الّذي كنتُ أظنُّ أنّني قدَّمتُ خدمةً لصديقي!!
صِحتُ بألمٍ، واستنكارٍ، ودهشة، وأنا أنظرُ إلى (صلاح)، الّذي بدا عليهِ الخجلُ والارتباك:
- أنا؟!.. أنا السّببُ بما حصل معكم؟!
قالَ (صلاح)، مع حركةٍ من يدِه:
- اتركها.. لا تردّ عليها.. هي تقولُ هذا من شدّةِ ألمِها.
ومنذُ ذلك اليوم، تغيّرتْ علاقتي بـ (صلاح).. ولم أعدْ ألتقيهِ كما كنّا سابقًا.. وجدتُه يبتعدُ عنّي.. انقطعَ عن زيارتي.. سواءٌ في البيت، أو مرورِه على (برّاكتي).. حتّى إنّه صار نادرًا ما يأتي إلى مقهى (الموعد)، وكلّما سألته:
- أين أنتَ يا رجل؟!
يتذرّعُ بالظّروف، ودُروسِه الخصوصيّة، الّتي يُعطيها لطلّابِه.
صِرْتُ أذهبُ لِعِندِهِ، في بيتِهِ، فلا أجدُه، أو لا يخرجُ إليَّ.. وأنا كنتُ أقرأُ عليهِ ما أكتُبُه، سواءٌ أكانت قصَّةً، أو قصيدةً، وأسمعُ رأيَه، أوَّلَ الناسِ.
وكان، حينَ نحضرُ أمسيةً أدبيّةً، يجلسُ بعيدًا عن مقعدي، في حينِ كنَّا سابقًا، لا نحضرُ أو نجلسُ، إلّا صحبةً مع بعض.
وعندَ حضورِه إلى المقهى، بدأَ يجلسُ في الطّابقِ الأرضي، في حين كنّا لا نجلسُ إلّا في الطّابقِ الأوَّل، مع شلّتنا المعتادةِ من الأدباء.
قامَ بتغييرِ جلسائه، صادقَ مَن كنتُ أنفِرُ من مجالستِهم، أو مَن كنتُ أُعاديهم، أو لا أتحدَّثُ معهم، خاصَّةً الشّاعرَ المزعوم (أبو طاهر).
أنا لا أتصوَّرُ أنَّ في الدُّنيا شاعرًا اسمه (أبو طاهر)!!
هو مُصمِّمٌ على مناداتِه بهذا الاسم!!.. يُقدِّمونَه في الأماسي التي يُشارِكُ بها، هكذا.
وكذلكَ ينشرُ قصائدَه، باسمِه الخلّابِ هذا: (أبو طاهر)، وكأنَّهُ وُلِدَ بلا اسم، أو ربّما هو يريدُ أنْ يُنادَوْه، على غرارِ: *(أبو الطيّب المتنبّي)، أو (أبو فراس الحمداني)، أو (أبو العلاء المعري).. لكنّه لا يملكُ موهبةً، مثلَ موهبةِ هؤلاءِ الشُّعراءِ العظماءِ.
فهو يكتبُ بطريقةٍ ميّتةٍ، عديمةِ النّبضِ، والرّوحِ، والطّعم.. كلماتٌ ذهنيّةٌ، بلا حَراكٍ، أو حرارةٍ، أو رائحةٍ. يكتبُها على أطرافِ الجرائدِ، في كلِّ يومٍ، سطرينِ أو ثلاثة..
وعلى مدارِ أسبوعينِ، أو شهرٍ، يجمعُ جملَهُ هذه، ويُسمّيها قصيدة!
ثمّ يُعجبُ بها، مَن يدفعُ عنهم ثمنَ ما شربوهُ في المقهى، أو من كانوا قدِ استدانوا منهُ بعضَ النّقود
، أو من قدّمَ لهم هدايا.
فيُحدِّقُ بعينيهِ الجاحظتين، منتصبًا بصدرِه البارز، بكتلةٍ حمراءَ مُخيفةٍ، أسفلَ عنقِه، وفوقَ ثديَيه.. وَيَأْخُذُ بِإِلْقَاءِ مُعَلَّقَتِهِ القَاتِلَةِ.. بِصَوْتٍ مُتَهَدِّجٍ، بِالرَّعْشَةِ، وَالتَّأَتْأَةِ، وَالاِصْفِرَارِ.
صَارَ يُفَضِّلُ مُجَالَسَةَ، هَذَا (الشِّعْرُورِ)، عَن مُجَالَسَتِي
.. وَكُنَّا سَابِقًا، نَتَقَزَّزُ مِنْ كَلِمَاتِهِ الثَّقِيلَةِ الَّتِي يُنَمِّقُهَا.
وَلَمَّا سَأَلْتُهُ..عِنْدَمَا صَادَفْتُهُ
، عِنْدَ مَدْخَلِ الْمَقْهَى:
- أَرَاكَ صِرْتَ مُعْجَبًا، (بِالشِّعْرُورِ) الْكَبِيرِ، (أَبُو طَاهِر)؟!. قَالَ:
- السَّيِّدُ (أَبُو طَاهِر)، شِعْرُهُ مُمتَلِئٌ بِالْفِكْرِ، وَالْفَلْسَفَةِ، وَالْحِكْمَةِ، وَالتَّأَمُّلِ، وَالْبَصِيرَةِ.*
مُصْطَفَى الْحَاجِّ حُسَيْن.