عندما يتخطى الرسام حدود الإبداع
هُوَ ذَا الْفَنُّ الْخَالِدُ.. لَيْسَ رَسْمًا يَتَعَلَّقُ بِالْقِمَشَةِ وَالأَلْوَانِ، وَإِنَّمَا هُوَ نَفَسٌ سَاجِدٌ بَيْنَ يَدَيِ الْجَمَالِ الأَعْظَمِ. يَأْخُذُ الرَّسَّامُ الْقَلَمَ، لَكِنَّ الْيَدَ تَرْتَعِشُ فَالرُّوحُ قَدْ سَبَقَتْهَا إِلَى الْعَالَمِ الَّذِي لَا تُدْرِكُهُ الْعُيُونُ.
يَبْدَأُ كُلُّ شَيْءٍ بِخَطٍّ أَوْ بُقْعَةِ ضَوْءٍ. ثُمَّ تَأْتِي اللَّحْظَةُ الْمُقَدَّسَةُ، حِينَ يَسْكُتُ الْعَقْلُ، وَتَتَنَحَّى الْحِكْمَةُ الْبَشَرِيَّةُ جَانِبًا. فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، لَا يَكُونُ الْفَنَّانُ سَيِّدَ الْعَمَلِيَّةِ، بَلْ أَدَاةً طَيِّعَةً بِيَدِ سِرٍّ عَظِيمٍ. تَتَحَوَّلُ الْفُرْشَاةُ إِلَى جَنَاحِ مَلَكٍ، يَنْقُلُهُ بَيْنَ عَوَالِمَ لَا تُرَى. يُصْبِحُ اللَّوْحُ مِرْآةً لِرُوحِ الْكَائِنَاتِ، وَالنَّقْشُ عَلَيْهَا هُوَ تَرْجَمَةٌ لِهَمْسِ الأَنْفُاسِ وَصَمْتِ الأَحْلَامِ.
عِنْدَهَا.. لَا يَرْسُمُ بِالأَلْوَانِ، وَإِنَّمَا يَسْكُبُ عَلَى الْقِمَشَةِ ضِيَاءَ الْفَجْرِ، وَعُصَارَةَ اللَّيْلِ، وَحَنِينَ الْقُلُوبِ الْعَطِشَةِ. يَرْسُمُ صَمْتَ الْوَحْدَةِ وَضَجِيجَ الْوِجْدَانِ. يَرْسُمُ الْوَقْتَ وَهُوَ يَتَجَمَّدُ فِي لَحْظَةِ خُلُودٍ.
فَإِذَا بِاللَّوْحَةِ تَتَحَدَّى الْوُجُودَ نَفْسَهُ، لَيْسَتْ صُورَةً لِشَجَرٍ وَسَمَاءٍ، بَلْ هِيَ ذَلِكَ الشَّجَرُ وَتِلْكَ السَّمَاءُ قَدْ وُلِدَتْ مَرَّةً أُخْرَى، بِنَسِيجٍ مِنَ الْغَيْبِ. الْحَبَّةُ فِيهَا تَنْبُضُ، وَالنَّهْرُ يَجْرِي حَقًّا بَيْنَ أَزْهَارِهَا، وَالْعُيُونُ الْمَرْسُومَةُ تَنْظُرُ إِلَى نَفْسِكَ بِعُمْقٍ يُزْعِجُ الرُّوحَ.
هَذَا هُوَ تَخَطِّي حُدُودِ الإِبْدَاعِ.. أَنْ تَخْرُجَ مِنْ دَائِرَةِ الْإِحَاكَةِ وَالتَّقْلِيدِ، إِلَى فَضَاءِ الْخَلْقِ الْجَدِيدِ. أَنْ تَمَسَحَ الْحُدُودَ بَيْنَ الْحُلْمِ وَالْحَقِيقَةِ، حَتَّى يَصِيرَ الْخَيَالُ هُوَ الْأَصْلَ، وَالْمَرْئِيُّ هُوَ الظِّلُّ. هُوَ أَنْ تَصْنَعَ مِنَ الْجَمَالِ دِينًا، وَمِنَ اللَّوْحَةِ مَعْبَدًا يَسْجُدُ فِيهِ كُلُّ مُشْتَاقٍ إِلَى نُقْطَةِ النُّورِ الَّتِي وُلد مِنْهَا الْكَوْنُ.
فَإِذَا مَا اكْتَمَلَتِ اللَّوْحَةُ، وَوَضَعَ الْفَنَّانُ فُرْشَاتَهُ أَخِيرًا، يَقِفُ خَاشِعًا كَطِفْلٍ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ بِوَقَارٍ وَخُضُوعٍ، أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ سِوَى قِنِّيْنٍ أَمِينٍ، نَقَلَ رِسَالَةً مِنَ الْعَالَمِ الْأَعْلَى، لَمْ تَكُنْ مِنْ صُنْعِ يَدِهِ، وَإِنَّمَا مِنْ هِبَةِ رُوحِهِ.
طه دخل الله عبد الرحمن
البعنه == الجليل
27/09/2025

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق