همس القيود ونبض الحنين
قراءة عاشقة في نص "مُقيَّدة" جزء 2
للشاعرة: عائشة ساكري (تونس، 8 أوت 2025)
بقلم الأستاذ الشاعر والناقد:
مراد اللحياني
ينفتح النص على غرفة القلب المسجون بين شحوب الحنين ومرارة الوجع، حيث تقف الذات على عتبة انكسار، لا تحلق في سماء الذكرى البعيدة، ولا تغرق في قاع الألم الحاضر، بل معلقة في فضاء هش كخيط ضوء يتراقص فوق نهر من الظلال. هذا التوازن الدقيق بين الحنين والوجع يجعل النص يفيض بالترقب، وكأن الروح تنتظر تماسكًا قد يأتي أو ينهار في أي لحظة.
حين تنهض الأساطير في دمي، لا تشير الشاعرة إلى قصص قديمة تُروى، بل إلى أساطير شخصية تتفجر في عروقها، تملك من الحضور قوة لا تهدأ، تُنسج نسيج الوجدان بعناية كخيوط العنكبوت، لكن هشاشة. فالأسطورة هنا ليست بعيدة عن الدم، بل جزء منه، كأن التاريخ كله مسجل في نبضات القلب. في كل مرة يئن فيها الجرح تنهض أسطورة جديدة من تحت الرماد.
تُكبّل الأيّام في صدري، وزن ثقيل كأن الوقت نفسه مقيد بالألم، ليس مجرد تذكر أو مرور، بل قيد حقيقي يُثقل الصدر ويثني الأفق. تُسقطني كأني زهرة في قبضة المجهول أختنق، الزهرة رمز الرقة والعطاء، والمجهول قفص قاتل، هنا تتجلى هشاشة الذات التي تتهاوى أمام قسوة الحياة التي لا تبقي على جمالها. الاختناق هنا ليس فقط جسديًا بل نفسيًا وجوديًا.
كل السكون وكأن مهدي خانني، المهد رمز الأمان والدفء، يصبح خائنًا، مما يطرح سؤالًا عميقًا عن جدوى الملجأ الأول الذي قد يتحول إلى سجن نفسي. غاب الصوت، وأضناه الغياب الحرف، ألم الصمت الطويل الذي يخنق اللغة ويكسر جسور التواصل، ويترك الذات في عزلة داخلية خانقة.
يا شمسي التي عبر التلال تلألأت، لا تختفي، أمدّي شعاعك في وريدي، لا تَنَامي، كوني يدي، كوني دمي، كوني اشتعالي. تكرار الأمر "كوني" يعكس إلحاحًا في الاستعانة بالذات المضيئة التي تمثل الشفاء والقوة، الضوء هنا حضور متجسد ومتداخل مع الذات، وليس شيئًا خارجيًا بعيدًا.
ويا نجومي، إن شئت عودي أو لا تعودي بخيط الليل، واسكنّي قليلاً في مدارك، عودي، فإنّي من صقيع الصمت أرتجف ارتجاف الطفل في غفوات دارك. النجوم تمثل حرية الاختيار، الحضور المؤقت، حتى ولو كان في مدار محدود، وطلب السكن المؤقت يحمل اشتياقًا عميقًا للتواصل، تشبيه الارتجاف بارتجاف الطفل يدخلنا إلى مساحة براءة وحاجة شديدة للأمان وسط برودة الغياب.
لي كوني المذبوح من قيد قديم، لي فلكي المنفي في الأعماق، ينساني. قيد ليس حدثًا عابرًا، بل زمن ممتد ينشب في الأعماق كعلامة أصيلة في الذات. نفي الذات عن نفسها، انفصال جوهري يؤدي إلى نسيانها، انفصال أشبه بشتات الروح في فلك بلا نجوم.
أنا ظل المرافئ في الرحيل، وغدًا سأنطفئ كنجم خاب في نسيان أغنية قديمة. الظل رمز غنائي لحالة الانتظار التي صارت بلا مقصد، المرافئ فارغة من السفن، النجوم تفقد رنين وجودها في الذاكرة، فيفقد النور ذاته، الوحدة والخذلان تتكثف في هذه الصورة.
نور الفجر يوقظني، وضوء القمر يطري على حلمي، وتخدعني طيوف الليل تسكنني وتسحبني لألف بداية أخرى لألف نهاية. هذه الدورة المتكررة تخلق إيقاعًا داخليًا يشبه ما بين اليأس والأمل، الفقد والبقاء.
وأنا التي من وهج عطري كنت أزهر لا أزول، العطر ليس مجرد رائحة بل حياة مكتملة، زمنها الخاص الذي لا يموت. افتح لي القلب الثقيل، واسكن كأنك نبض حلمي المستحيل، تماهي مع الآخر رغم صعوبة اللقاء واستحالة تحقيق الحلم.
بين الحنين وبين عيني جئتني، لكنك الآن تُقيدني، فدعني نسغ حلمًا ناحلًا ينساب في جذع انتظارك، ولا تجعل من الحب الجميل سجناً يموت به النهار. طلب لا لبس فيه بأن يبقى الحب حرًا، متحررًا من القيود التي تقتل الحياة.
هنا تتشكل وحدة متماسكة ذات طبقات متعددة من الحضور والغياب، الضوء والظل، الحرية والقيد، حيث كل صورة تفتح أفقًا جديدًا للتأمل والوجدان، والبنية الدائرية للنص تمنح القارئ إحساسًا بالتماهي مع الحالة الشعورية التي تحاول الشاعرة أن تجد نفسها وسط شبكة معقدة من الصراعات النفسية والوجودية.
هذه القراءة لا تنتهي عند حدود المعنى الحرفي، بل تسير في مسار الموسيقى الداخلية للنص حيث يتناغم الإيقاع مع الصور، والصورة مع العاطفة، فينسج للنص جسدًا ينبض بالحياة رغم القيود التي تحاول أن تخنقه.
في النهاية، مُقيَّدة ليست مجرد قصيدة عن الألم والحنين، بل صرخة روح تبحث عن نور يلتف حولها ويحررها، عن حب لا يقيد بل يحرر، عن ذات تتقاذفها الرياح بين صقيع الغياب ودفء الأمل.
مع تحيات الأستاد الشاعر والناقد مراد اللحياني.
النص :مقيدة جزء 2
بينَ الحنينِ، وبينَ وجعي،
تنهضُ الأساطيرُ في دمي...
تُكبّلُ الأيّامَ في صدري،
وتُسقطني كأنّي زهرةٌ
في قبضةِ المجهولِ أختنقُ.
كلُّ السكونِ وكأنَ مهدي خانَني،
والصوتُ غابَ منّي،
والحرفُ...أضناهُ الغيابُ.
أيا شمسي التي عبرَ التلالِ تلألأتْ،
لا تختفي، وأمدّي شعاعَكِ في وريدي،
لا تَنامي،
كوني يدي...
كوني دمي...
كوني اشتعالي.
ويا نجومي، أن شئتِ
عودي أو لا تعودي بخيطِ اللّيلِ،
واسكنِّي قليلاً في مداركِ،
عودي،
فإنّي من صقيعِ الصمتِ
أرتجفُ ارتجافَ الطفلِ
في غفواتِ داركِ.
لي كونيَ المذبوحَ من قيدٍ قديمٍ،
لي فلكي المنفيُّ في الأعماقِ...
ينساني.
أنا ظلُّ المرافئِ في الرحيلِ،
وغدًا، سأنطفئُ كنجمٍ
خابَ في نسيانِ أغنيةٍ قديمةٍ.
نورُ الفجرِ يوقظني،
وضوءَ القمرُ يطري على حلمي،
وتخدعني طيوفُ الليلِ
تسكنُني وتَسحبُني
لألفِ بدايةٍ أخرى…
لألفِ نهايةٍ،
وأنا التي
من وهجِ عطري كنتُ أزهرُ،
لا أزولُ،
افتحْ لي القلبَ الثقيل،
واسكنْ
كأنّك نبضُ حلمي المستحيل.
بينَ الحنينِ، وبينَ عينيْ،
جئتني...
لكنَّك الآنَ تُقيدني...
فدعني نسغَ حلمٍ ناحلٍ
ينسابُ
في جذعِ انتظاركَ،
ولا تجعلْ من الحبِّ الجميلِ
سجناً يموتُ به النهار.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق