أليست فلسطين..قضية وعي..وقبلة الإنسانيَّة..و”إكْسير” حياةِ الضَّمير العالمي..؟!
(شعراء تونسيون كبار يكتبون بمداد الروح..نصرة لفلسطين : د- طاهر مشي-د-فائزة بنمسعود-الأستاذة نعيمة المديوني )
"ليس بين الرصاص مسافة..هذه -غزة- التي تتحدى..وهذا الوعي نقيض الخرافة " (مظفر النواب-بتصرف طفيف )
(الشعر يستطيع كل شيء..حتى عندما لا يستطيع شيئاً..)
-أعوذُ باللهِ مِن عشْرٍ تُراقُ بِهِم
أزكى الدِّماءِ بِأرضِ الحَقِّ ….في (غزّهْ)
كلٌّ تَراهُ بِشيْطانٍ عليْهِ بَدتْ
آثارُ جُرْمِهِ كالغيلانِ….……….في بَزّهْ
فالعيْنُ تقطُرُ مِن قتْلِ الرّضيعِ، دَماً
والفمُّ كهْفٌ لِلَحْمِ الطّفلِ ،…. في جَزَّهْ
شيْطانُ ، جزّارُ كلٌّ يستبيحُ بهِ
قتْلَ العِبادِ، شَرابَ الدّمِّ،…….مِنْ غَزّهْ !
(الشاعرة الفلسطينية السامقة الأستاذة عزيزة بشير)
تصدير : ومن الشعراء رجال صدقوا،قالوا وفعلوا،ما كان شعرهم حديثًا يُفترى،لكنه تصديق عملهم وجهادهم،بايعوا على الموت،لينالوا جنة الآخرة،ويمنحوا غيرهم جنة الدنيا،حرصوا على الموت فَكُتِبَ لهم الخلود والبقاء،فمنهم من قال الشعر على عتبات الموت،قاله والسيف فوق رأسه،حين يصير الشعر شهادة،والكلمات ألغامًا،والقصائد ساحات قتال،لا يجرؤ على اقتحامها إلا الأبطال،عند ذلك تنكشف معادن الرجال،فلا صوت إلا صوت طالبي الشهادة.
الفعل الثوري العربي الذي تحقق في السنوات الأخيرة إبان إشراقات ما يسمى ب”الربيع العربي” لم يكن معزولا عن خطاب الشعر،مثلما لم يكن معزولا عن الخطاب الذي تنتجه وسائل الإعلام.لقد كانت القصيدة كامنة في وجدانات هؤلاء الشباب.فعلى سبيل المثال كان الشباب يرددون أثناء الثورة قصائد محمود درويش وأحمد فؤاد نجم وغيرهم،كما استعادت الثورة التونسية وبعدها الثورات العربية الأخرى قصائد شاعر عظيم بقيمة أبي القاسم الشابي،حيث صدحت الحناجر في ساحات وشوارع وميادين مدن عربية عدة “إذا الشعب يوما أراد الحياة..فلابد أن يستجيب للقدر”.
فما هو دور الشعر اليوم بالتحديد،وفلسطين مسيجة بالأكفان ؟
رافق الأدب العربي القضيّةَ الفلسطينية منذ بدايتها في عام النكبة 1948،وظل مرافقا لها شعريا وقصصيا وروائيا..ويندُر أن نجد أديبا عربيا لم يكتب عن فلسطين لا سيما في حقْل الشِّعر.ذلك أنَّ فلسطين هي بوصلةُ روح الإنسان العربي الأصيل،بكل ما فيها من دلالات دينية وتاريخيَّة وحضارية،فـ “القدس” كانتْ ملتقى الأنبياء والرِّسالات السماوية..وستبقى قبلة الإنسانيَّة و”مركز” ضمِيرها الذي -يتناوم-أو -يتماوت-أحْيانًا،فتوقظه“القُدسُ” على “تراتيل” الأحزان والآلام التي تَصَّاعدُ من قلْب الفلسطيني كلَّما أعلنت القوى الشيطانيَّة،التي يتصدُّرها الكيانُ الجهنمي،-الموت على فلسطين-..غير أن فلسطين لا تموت،لأنَّ موتها يعني موت الإنسانية جمعاء والضمير العالمي بكلِّ ألوانه أجْناسه..
نحن على ثقة من أن الشعر ديوان العرب وسيبقى،فقد وثّق انتصاراتهم الدائمة،والمتتالية.ووثق كرمهم ورجولتهم،وعزتهم وإباءهم،وأنفتهم وكبرياءهم،وكأنهم فعلا خير أمة أخرجت للناس! وأصبحت معلقة عمرو بن كلثوم مرجعا للمتغنين بالأمجاد السالفة،وشاهدا أبعد من النسيان في العقل الجمعي العربي.
منذ «لا تصالح/ أمل دنقل»دخل الشعر في صراع بين الجرح وصورته الكلامية. وحين تلاحقت الجروح،وتكاثرت وتنوعت،عقدت الدهشة حاجبي الشعر العربي،ووقف كالأبله أمام مشفى المعمداني في حي الزيتون جنوب مدينة غزة.هناك حيث أغلق الشهداء أبواب جراحهم، قبل أن تمسح الجرافات الغبش عن زجاج غيابهم،وسقطت لوحة كتب عليها بالخط الكوفي : وإذا مرضت فهو يشفين،وتحول المشفى إلى مقبرة،فهل يستطيع الشعر حين تبرد حروف اللغة،أن يصف حرارة الدم؟
لقد تأكدت مقولة البير كامو: أسوأ الأوبئة ليست بيولوجية،لكنها أخلاقية.
الدم..يشحذ شهية الدم:
تُواصِلُ آلةُ الموت،مدعومة من دوائر الإستكبار العالمية الحربَ-القروسطية-على فلسطين ومُركزة على “غزة-أرض العزة”..تواصل آلةُ الموتِ ممارسة كلّ “فنون” الإجرام والتوحّش والطغيان والتّجبُّر،بهدف اجتثاث الإنسان الفلسطيني من أرضه،وهو أمر يؤكّد على رهبة وخشية الكيان الإجرامي من “حقيقة” مُستقبل وجوده الذي دخل مرحلة أخرى في “بداية النهاية” للزّوال الحتمي لهذا الكيان،وانتصار فلسطين الذي لا ريب فيه..
واليوم..
تقف الشعوب العربية على قارعة الآلام والأوجاع مُشرِعةً سيوفَ الدعاء والتَّضرُّع بقلوب خاشعة من أجل نُصرة فلسطين،ويقفُ الأدباء والشعراء العرب على جبهات الكلمة مُشهرِين خيالاتهم وأفكارهم ومعانيهم من أجل أن تبقى الوحدة الوجدانيَّة العربية على قيد اليقظةِ..فلم يعد هناك مِنْ قضايا توحّد الأمَّة العربية سوى فلسطين.
في هذا السياق،توجهت إلى شعراء تونسيين كي نتعرّف على ابداعاتهم الشعرية حول نُصرة فلسطين ومجابهة الكيان الإجرامي الغاشم،فكانت هذه-اللوحات الإبداعية الموشحة بدرر الشعر-:
الشاعر التونسي الكبير د-طاهر مشي يقول:"إنّنا نبتغي من هذه القصائد المطرزة بعشق فلسطين،أن نصرف القولَ،ونترقَّى في البيان قليلا،من أنّ “طوفان الأقصى”، يُعبّر عن فعل نوعي أصيل،يعكس رغبة الإنسان الفلسطيني في كسر حلقة الاحتلال والظُّلم والاستعباد،والتخلص من عقال الوَهم والخنوع..والتأسيس بالتالي لغد مشرق تتهودج فيه فلسطين في ثوب النصر والتحرير..
لنحْمِي الأقصَى والإسلامَ جَمْعا!
فِلسطيني أنا قد ضِقتُ ذَرْعا
فصُهيونٌ طغى والأهلُ صرْعى
نموتُ اليومَ في حرْبٍ ضروسٍ
وصدرُنَا في الوَغى قد بات دِرْعا..
طاهر مشي
الشاعرة التونسية القديرة د-فائزة بنمسعود توكّد على أن فعل الكتابة قادر على دفع الحياة المتعثرة أصلا إلى الأمام،فالشعر بالنسبة لها أداة من أدوات المواجهة مع الظلم الكافر والموت السافر،ويؤسس لتحقيق الكرامة الإنسانية التي يستبيحها الطغاة والمستعمرون.
في هذا السياق تقول :
قاوم
وعلى القدس لا تساوم
احمل سلاحك وامض
لا تثق بأصحاب العمائم
فهؤلاء طبّعوا مع الهزائم
يرون النصر في الخنوع
الغدر شيمتهم له يُـولمونا الولائم
رؤساء ملوك أمراء
ظلال رجال أجبن من النعائم..
الأديبة والشاعرة التونسية أ-نعيمة المديوني توكّد على أن فلسطين..مهد الديانات ومنبت الكرامة والإرادة والشموخ..فلسطين..الوطن الموجود والحي والباقي..ولأن فلسطين وطنها الذي يسكنها ولا تسكنه..لأن القضية الفلسطينية أقدم القضايا وأعدلها..ولأنها بوصلة القضايا دائماً،اختارت أن تنتصر لها-شعرا-فتقول مخاطبة فلسطين :
"يا زهرة مزّقتها الأشباح
أأبكيك أم أبكي النّواح
أأمزّق شريانا فاض بهواك
أم أغمد سيفا أثقلته الآلام
في الأوجاع
أباعوك وزفوّك للأتراح
قبضوا ثمنك قبلة مسمومة
رُسمت على صفحات التّاريخ السّوداء
أما أنا،فلست خجلا من الإعتراف بأنّ-غزة-هذه المرّة،قد وضعتنا جميعا أمام المرآة وأربكت بصمودها العدوّ بعد أن تراءى له بأنّ المصالحة التاريخية التي نسعى إليها،ليست سوى شعار نرفعه ليحتفل هو بقيدنا،ولنباركه نحن على تناغمه معنا-بنعيق المدافع ونباح الرشاشات- ولنشكره على ميزات فصله العنصري لنا..
وإلى أن يتحقق النصر المبين لهذه-المدينة الأسطورية-التي ظلت صامدة في وجه الغزاة،نتطلّع -جميعا-إلى قوافل الشهداء تسير خببا في اتجاه المدافن..إلى شعب يحاصره الليل بعد أن غدر به الزمان،وإلى أبطال المقاومة الفلسطينية،وهم في مواجهة الطائرات والدروع،يدافعون بالأصالة عن نفسهم،وبالنيابة عن الأمة العربية كلّها..ونسأل:إلى متى؟
..ويظلّ السؤال عاريا،حافيا ينخر شفيف الرّوح.
وأختم بهذه الكلمات الشعرية المنبجسة من ضلوعي..وهي جرح بأصل الروح..روحي المتشظية أصلا بين أشلاء الشهداء..
فلسطين:
كانت كما في الرؤى..
تمتشق غيمة للهدى
وترتّب من صهيل الرّوح
شتيت المرايا
ترنو إلى الشهداء في معراجهم..
وتؤجّج من شهقات الرّيح
جمرَ العشايا
تسكب ضوءها في خليج السديم
وتؤثّث من الوجد أغنية..
فينهمر اللّحن
من ثقوب المدى..
هل بقي ما أضيف؟
ربما لن أضيف جديدا إذا قلت أنّ أثناء الثورة العربية في فلسطين بين عامي 1936و1939 اعترف-غاندي-نفسه بأن الفلسطينيين “تبعا للقواعد المقررة حول الخير والشر،يملكون الحق في استعمال القوّة العنيفة لمقاومة الإحتلال الأجنبي”،كما أنّ قرارات الأمم المتحدة تكرّس هذا المبدأ نفسه.
فهل بإمكان النضال السلمي الفلسطيني المتجسّد بقانون اللاعنف أن يحقّق أهدافه مع عدو لئيم،شرس وإلغائي يتميّز بالطبيعة الإنكارية لحقوق الضحايا..؟!
بإمكانك أيها القارئ الكريم أن تصوغ الجواب المناسب.
محمد المحسن