كلّ يوم تهديني الحياة صداقات جديدة. وفي الغد تلاقت نظراتنا. كنت ملازمة ظلّي إذ قرّرت صديقتاي البقاء في قابس لحضور عرس إحدى المقرّبات منهما.
أحببت إشراقة لفتاة وضيئة دافئة ممتلئة الجسم والقلب. جمعنا انتظار طويل لسيّارة الأجرة وانتظار أطول لمعنى أعمق. زقزقة الصّوت الطّفوليّ شدّتني. وأعرف كم أنا ضعيفة إزاء الأطفال وإن كانوا في عمر العشرين. كلّ قوّة فيّ تتهاوى، تتلاشى. فأبقى مجرّدة من كلّ حياد. متورّطة في الحبّ بالضّرورة.. أنا عون لهم ضدّ كلّ ما يعكّر بهجتهم.. استسلمتْ لعنادي حين رفضتُ ركوب سيّارة لم أرتح لسائقها وتحمّلت برصانة نزقي الّذي كلّفنا إهدار وقت ثمين. بنفس الابتسامة الصّادقة تجيبني وبعفويّة تثرثر بحكايات السّهر مع أصدقائها وحريّة جميلة لاقت في النّفس هوى.. ما أحلى صورها المختلسة من عمر الزّمن.. بثياب السّهرة السّوداء أو الملابس الرّياضيّة البسيطة.. تمرّ أمام ناظريّ فأشاركها الافتنان.. بين الفينة والأخرى تهديني من حقيبتها قطعة بقلاوة أو تقاسمني ما تشرب.. كريمة هي مثلي قبل أن أراجع مسلكي بسبب أشباه البشر الّذين لا ينبغي أن أنظر في وجوههم فضلا عن تقديم أيّ شيء ولو كان ماء أجاجا. قالت إنّها عرفت لهجتي المحبّبة إليها لأن أمّها من جزيرة قرقنة السّاحرة وإنّها تطبّعت ببعض مفرداتها.. انطلقت السّيارة ومعها مهرة جموح كبرت قبل الأوان. كبرت بكلّ معنى عطشى إلى حنان زلال، إلى نوم لأنّها مجهدة جدّا.. وسّدتها كتفي. نامت ذات الرّبيع الذي أضاع الزّهور وأنا أربّت على رأسها كما كنت أداعب صغيرتي سمر في لحظات الصّفاء وكبرت المخاوف. ماذا لو كانت ابنتي وحدث كلّ هذا دفعة واحدة؟ جرعة من وجع كفيلة بتدمير أقوى البشر فما بالك بكائن أرقّ من النّسيم. أحسست بقعر الهاوية وهي تحدّثني عن موت والديها في ذات النّكبة لمّا تهاوت العمارة العجوز. وأخذت المنيّة عمرهما وإن أبقت عليها كي تتجرّع الغصّة كلّ لحظة.. أواسيك صغيرتي وقلبي يبكي دما.. وألعن خرق حياة نذرت للسّوء.. كان الله في عونك يا فراشة بلا أجنحة وراقصة أضاعت قدميها. وكان الله في عونك يا حبيبتي أضعت أمومتي في منتصف الطّريق. لا فرق بين غياب وغياب ولا بين موت وحياة إهمال. ضرب من العبث ووجود بمذاق الغربة.
ناح الصّوت الصّغير:
- لم أستطع يوما أن أعرف مقدار الحبّ الذي أكنّه لوالدي المغترب. حين يعود من سفره الذي يستغرق شهورا في الدّوحة حيث يعمل، أشرب نخب عودته، قطرا مباركا من عذب حديثه قبل هداياه السخيّة الّتي يؤثرني بها. كنت أسرقه بكلّ مكائد الأطفال لأستبقه إلى جانبي وانام ملء الشّوق في حضنه. لم أكن أكره أمّي، ولكنّ العشق الأكبر لم يترك لها سوى مدد ما أطلبه زمن الغياب. لم أعد أذكر ما الّذي حدابي إلى زيارة بيت خالتي بتونس العاصمة صبيحة الحادث المشؤوم وكيف انصعت إلى رغبتها في المبيت عندها. قيّض لي أن أنجو.. ليتني قضيت نحبي تحت الأنقاض.. فاتني أن أتوسّد ذراعه للمرّة الأخيرة، فاتني أن أملأ روحي بملامح الوجه الحبيب وألثم الجبهة النّوريّة لآخر مرّة. دكّت الشّقة كما العمارة العجوز قبل أن يكتمل بيتنا الجديد بشطّ مريم.. عجن اللّحم بالحجارة التي مازلت ترجمني، دفنت مطامحي كلّها. أنشبت المنيّة أظافرها في حياتي وخرّبت الجسدين معا.. جعلت حياتي معبرا إلى حضنه من خلال أحضان كثيرين. أستمرئ ما أتوسّده من الأيادي وأبحث عن وجهه بين وجوههم.
كانت الفتاة وجودا كاحتمال في مملكتي الزّرقاء.
هدى كريد