الخميس، 26 يناير 2023

سراب ١٣ /رشدي الخميري/ جندوبة/ تونس/مؤسسة الوجدان الثقافية


 سراب ١٣

في تلك اللّيلة بات سمير ليلة لا يحسد عليها أبدا ، فبمجرّد أن يتخيّل صورته الّتي ستهتزّ لو أنّ جاره أفشى سرّه في المعهد وما سيترتّب عن ذلك من سخريّة وتنمّر من طرف أولئك الّذين قد يتربّصون به لإفساد صورته لدى بقيّة التّلاميذ يفزع من فراشه ويبقى ساهرا إلى أن يغلبه النّعاس مرّة ثانية. ثمّ يعاوده الحلم وقد رأى أنّ الأساتذة هم أيضا باتوا يحتقرونه ويعاملونه على أنّه متشرّد و"ابن شارع " وجب التّحفّظ في التّعامل معه فيستيقظ مرّة أخرى خائفا مرتعشا والدّموع بلّلت وسادته وقد يستيقظ على صراخه وهو يحاول إقناع النّاس بشخصه لا بنسبه. وتواصل توتّره إلى أن استيقظ على صوت متبنّيته تحثّه ليستعدّ للذّهاب إلى معهده. أمّا أستاذه فقد وضع استراتيجيّة تبدأ بالاتّصال بمدير المعهد وتوضيح ما اسفر عليه اجتماع الأساتذة بالأمس ثمّ وفي نفس اليوم يذهب للقاء والد سمير ويتّفق معه على طريقة لتسفير سمير ولكن في البداية يقع استخراج الوثائق دون علم سمير. وفعلا منذ وصوله إلى المعهد، اصطحب الأستاذ معه زميلين يتقنان المحاورة والمحاججة وذهبوا للقاء المدير وهناك تحصل مفاجأة لم يتوقّعها أحد. بمجرّد طرح الموضوع على المدير ثارت ثائرته قائلا " أرجو منكم جميعا أن تهتمّوا بواجبكم كمدرّسين وتتركوا هذه المبادرات لأناس غيركم، نحن هنا لنهتمّ بالتّلاميذ داخل المعهد ونجتهد معهم في تحصيل العلم وتصويب سلوكهم بقدر مستطاعنا ولكن أن نتدخّل في شؤونهم فهذا دور مسؤولي الشّؤون الإجتماعيّة" صعق الأساتذة لسماع خطاب المدير وكادوا ينفجرون في وجهه واتّهامه بالمتوحش والباحث عن كسب المال فقط من خلال فتحه هذا المعهد الحرّ. صديقنا الأستاذ صاحب فكرة حلحلة وضعيّة سمير تفطّن إلى موقف زملائه وكي لا يتركهم في مواجهة المدير وربّما يخسرون مساندته لهم في فكرتهم سارع بالقول " سيّدي المدير، نحن نقدّر موقفك ونصرّ على احترام القانون من جهة وإعلاء شأن المعهد من جهة ثانية فإشعاعه ونيله مراتب جيّدة بين بقيّة المعاهد بهمّنا جدّا لأنّنا معنيّن أيضا كما هو الحال بالنّسبة لك. ولهذا السّبب خاصّة و من جهة إنسانيّة كسبب ثان نحن نطرح عليك هذه الفكرة وننتظر من سيادتكم تفهّم الأمر كما فهمناه ففكرتنا تصبّ أساسا في إعلاء شأن المعهد وسيحسب لكم ولنا أنّنا أنقضنا تلميذا من الضّياع" بهذا الكلام ، هدّأ الأستاذ من روع زملائه وكسب رضا المدير وإقناعه، فيعقّب المدير بقوله" لن أعطيكم موقفا واضحا إلاّ بعد أن تتّصلوا بالوليّ عندها سأرى ما يمكن فعله" يتدخّل أحد الأساتذة " وماذا سيفيد رأي الوليّ ما دمت لن تدعمنا فحسب علمنا هو رجل على عتبة الفقر من جهة وأيضا هو متواضع من حيث المستوى الفكري وقد نجد صعوبة في إقناعه" يردّ المدير " اتّصلوا به ثمّ راجعوني فقد تتغيّر فكرتكم أنتم وتتخلّون عن موقفكم إذا استمعتم له". هنا فكّر الأساتذة أنّ المدير يخفي عنهم شيئا وزاد من حرصهم على الاتصال بالوليّ. انفضّ المجلس والتحق الأساتذة بقاعاتهم ، وصديقنا طلب من سمير عندما رجع أن يعلم أباه أنّه يستدعيه لبعض الحديث. خاف سمير وأخذ يسأل الأستاذ" أرجوك يا أستاذ هل بدر منّي ما يجعلك تغضب؟ قد التزمت منذ الحصّة الفارطة ولم أتغيّب وها أنا انجز ما هو مطلوب منّي. وها أنا أشارك واهتمّ بدروسي. فلماذا تستدعي أبي؟ أرجوك يا أستاذ ، أبي مشغول جدّا وهو يعود إلى البيت منهك القوى ولا أريد أن أتعبه أكثر ولا أريد أن أسغله عنّي فقد التزمت أمامه هو أيضا على الاهتمام بدروسي" ابتسم الأستاذ وقال له بعد أن مسح على رأسه" لا تخف يا بنيّ فأنا احتاج إليه في أمر بيني وبينه ولا دخل لك في هذا أبدا فانت عدت كما كنت وانا سعيد جدّا بعودتك لمستواك ولشخصيّتك المعهودة " هدأ سمير قليلا وقال " سأخبره عندما أعود إلى المنزل " فيعقّب الأستاذ " لا..لا.. أرجو ان تتّصل به الآن أعطني رقم هاتفه وسأستدعيه بنفسي إن كنت لا تملك هاتفا" عند ذلك طلب سمير الإذن بالخروج ليستدعي أباه إلى المعهد فهو يملك هاتفا بعثته له رفيقته. أذن له الأستاذ ، فخرج واستدعى أباه. أغلق الأب دكّانه وأتى يسابق الرّيح ولا يلوي على ما وعلى من أمامه فابنه حبيبه قد يكون في ورطة. عندما وصل وهو يلهث ويبتلع ريقه بصعوبة، طلب من عون الخدمات مقابلة الأستاذ "فلان". دخل وقابله بعد أن أتى مؤطّر ليحرس القسم إلى حين عودة الأستاذ. كان الأب يرتعد خوفا وينتظر بلهفة ما سيخبره به الأستاذ .يأخذه الأستاذ إلى قاعة الأساتذة ويطلب له مشروبا كي يهدّئه ثمّ طرح عليه الفكرة الّتي من أجلها استدعاه، فما كان من الوليّ إلاّ أن سالت دموعه وتلجّم لسانه ووضع يديه على رأسه، فتفاجأ الأستاذ وأخذ يحاول تهدئته وفهم سبب بكائه.. وتحت إلحاح الأستاذ ، نطق الأب بما كتمه لعدّة سنوات ولم يبح به حتّى لسمير. قال " أخي العزيز أنا أشكر لك ولزملائك سعيكم لمساعدة سمير ولكنّ ما تفكّرون به قد يفتح بابا آليت على نفسي أن أخفيه حتّى يكبر سمير. الحكاية يا أستاذ أنّ سميرا هو في الحقيقة ابن أخي الّذي كان ينتظر هذا المولود بفارغ الصّبر بعد زواج دام لسنوات دون أن يرزق مع زوجته بمولود. وقد أكرمهما الله بعد تقريبا عشر سنوات بسمير " وعاودته الدّموع وبحرقة كبيرة واصل ليقول" في ليلة مولد سمير، خرج أخي فرحا كأنّما رزق الجنّة، خرج ليحضر بعض الأدوية ولوازم العناية بمولودة فهي لم تكن متوفّرة في المستشفى.. كان مسرعا لأنّه يريد أن يسهر مع زوجته وابنه ويريد أن يفرح بهما. وهو في الطّريق صدمته سيّارة وأردته قتيلا" وانفجر بالبكاء مرّة أخرى، فإذا بالأستاذ هو أيضا يبكي ويحاول أن يواسي الأب ويهدّئ من روعه.ثمّ يعود للأب بعض الهدوء فيقول" كان الخبر مثل قنبلة انفجرت في العائلة. أمّا زوجته فأصيبت بانهيار عصبيّا شديدا نسيت بعده ابنها ونفسها وزوجها وانطلقت في الشّوارع تجوبها كأنّها تبحث عن شيء ضائع. في ذلك الوقت لم أستطع أن أكفل ابن أخي لأنّي من جهة كنت فقيرا ولم أكن متزوّجا..فكفلته عائلة أيسر حال منّّي ثمّ تشرّد سمير لنتيجة مشاكل تعرّض في تلك العائلة وكنت أتابعه دائما وأغدق عليه دون أن أعلمه بشيء وعندما تزوّجت صرت أستدعيه ليأكل ويشرب وأعطيه ما أستطيع له ولرفيقته " ثمّ سكت الأب قليلا والآن سأخبرك بما سيدهشك فتماسك نفسك" رفيقته هي أمّه" كان الأستاذ أثناء كلام الأب يدخّن السّيجارة تلو الأخرى حتّى سمع الخبر الأخير فكاد أن يفقد وعيه من شدّة السّعال الّذي حلّ به وقتها فهو أخذ نفسا طويلا وكميّة الدّخان الّذي شهقه كانت كبيرة فكادت تخنقه حتّى أنّ الأب نسي حكايته وراح يعطيه ماء عسى ذلك يخفّف عنه...
رشدي الخميري/ جندوبة/ تونس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق