الجمعة، 12 أبريل 2024

قصة - "فاندام " بقلم الكاتب نصر العماري.

 قصة - "فاندام "  

بقلم نصر العماري.

امسك الطفل البالغ من العمر تقريبا ثمانية أعواما قرون الشاة بكلتا يديه  الناعمتين.وهو ينادي أمه، فينبعث من حنجرته صوتا رخيما عذبا يوحي بأنه الابن المدلل لهذه السيدة الأنيقة، وقد يكون آخر العنقود. فلطّفل الأخير حلاوة غير اخوته الذين سبقوه.

لكن السيّدة تبدو في مقتبل العمر وليس لها غيره .

كان يناديها دون ان يُبعد يديه عن القرنين وكأنه يُمسك بلعبته التي ظفر بها بعد فقد.

"ماما ..ماما.. القرون ..القرون  هذا علوشي.. هذا كبشي".

كان البائع  "صويلح" يحاول أن يُبعد يد الطفل عن القرون وهو يُردّد " غالي عليكم وليدي هذا غالي... خذ هذا سعره مرفق". ويشير الى خروف دون قرون.

 لكن الطفل يتشبّث بقرون كبشه  مستنصرا أمّه "ماما اشري هذا، هذا باهي عندو قرون عندو قرون.."

لم يكن "صويلح" ينصح الطفل ولا أمّه. ولم يكن يرأف بحالهما حين قال أكثر من مرّة "هذا غالي الثمن،  خُذا الآخر  سِعره مناسب  "

لا ، بل هوحريص على ترويج هذه البضاعة بالذات .فهذا آخر مابقي من بضاعة الحاج سعيد. كانت تضم خمسة خرفان اشتراها منذ اسبوع من الحاج،  أحد تجار مدينة القصرين.

بحث "صويلح" يومها  عن الحاج حتى كساه العرق فبعد أن سلّمه المبلغ كاملا، تبيّن له أن يعيد له خرفانه ويأخذ أمواله، وكفى الله المؤمنين  شر القتال.

 لكن دون جدوى لقد كان  كمن يفتش عن ابرة في كومة قش.

الحمدلله "صويلح"  استطاع أن يبيع اربعة منها بعد أن سخّر جميع إمكانياته في البيع والشراء، من اللّباقة والتّغرير والقسم والثّناء والاستعطاف...

وهو حريص اليوم على أن يُتم البيع.

فقد يكون هذا الصبيّ ووالدته انسب حريفين ولم يعد يفصل عن العيد غير يومين،  يوم التّروية ويوم  الوقوف بعرفات المبارك.

لكن "صويلح" كان يرغب في أن يزداد الطفل تعلّقا بكبشه وبقرونه. حتى يُمكنه أن يبتاعه بسعر مناسب يُعوّض عليه خسارته في الخرفان السّابقة  .

 بضاعة تكبّد ثمنها وكان "الحاج سعيد " قد استغفله فيها...


احسّت السيدة "مها" وكأن البائع يستهين بها ويحقّر من شأنها ، فكيف تسوّل له نفسه أن ينهر ابنها ، فلذة كبدها. كيف  لهذا البدوي "الجبري" أن يبعد يد ابنها رسيم عن الخروف؟

كيف يقول له  "غالي عليكم"؟

نزعت النظّارة   من على عينيها ونظرت مليا الى "صويلح" ...

احس "صويلح" بالفارق الكبير بين هاتين العينين وعيني زوجته "مباركة"    

كاد شعاع الغضب الممزوج بجمال زرقة الحدقتين والاهداب الطويلة المكحلة 

  " بالمسكارا   السينيي"   أن يفتكا بصلابة "صويلح".

 لكن تحذير زوجته له كل صباح   " رد بالك تبرج عليك نساوين تونس وتبيعهم بلاش"

فتماسك قائلا " لا يامدام صحّة وفرحة

نبيع للي يدفع ألف دينار"

أعادت السّيدة "مها" النظّارات الى مكانها فازداد وجهها وضاءة  .

ثم فتحت محفظة نقودها  جلد الافعى وقد وشّيّت بحرف ذهبي  M  من أحد الاطراف.

ونقدت "صويلح" ألاف دينارا دون مجادلة  وأمرته أن يأخذه الى سيارتها الجولف سبعة الرابضة قريبا .

كان الصّبي" رسيم"  يكاد يُلامس الشّمس من شدة الفرح بكبشه وسريعا ما أطلق عليه اسم "فاندام" كان يبرمج أن يأخذه الى حلبة  نطيح الكباش ...

دس صويلح النقود دون أن يعدها رغم ان السيدة "مها" طلبت منه أن يعدّها

لكنه قال لها" اوخي يا مدام الناس بعينينها.وتلعثم وأضاف      "نقصد بوجوهها"

واخد الخروف بين يديه والسيدة" مها" تسبقه الى السيارة

فدسّه بعناية في حقيبة السيارة مودّعا مُوصيا :

"أعطو ها   شوية ماء " ثم تدارك "نقصد اعطوه الماء ماتخلوشوا للعطش" وأضاف "عيدكم  مبارك" 

واختفى في زحمة السّوق بين الباعة والخرفان وهو يردّد 

"الحمد للله... الله لا تبارك لك يا حاج ...

الخمسة  كاملين لا واحد لا اثنين ...

تحلّق لأطفال حول " رسيم " يأخذون بعض البيانات عن كبشه ،عن ثمنه وموطنه، وظروف شرائه ...  

اخذوا يدورون حوله ويتأملونه وقد اعجبوا بشكله ولونه وقرونه الطويلة امّا قوّته امر موكول لحلبة الصّراع مع كباشهم، تحدّده .

 كان كلّ طفل منهم يُثني على كبشه . يمدحه  ويُربّت عليه وهو مُمسك بالحبل المعقود بعناية في رقبة كل منها .فهذا  الاقرن  المُمشّط الصوف 

"لوليد". وهذا " الصُردي" الذي تمنطق عنقه  بحزام جلدي مطرز وتدلى منه ناقوس نحاسي عذب الرنين "لفؤاد".

امّا ذاك "النّجدي" المعقودة على ظهره  سفائف حريرية  فهو "للأنور"...

تحلّقت الكباش حول "فَانْدَام "  وأخدت تحاول الدّوران  حوله. وكل كبش يحاول إزاحة خصمه...

أرخى الأطفال الحبال لها  وبقوا ينتظرون أن تنشب المعركة ...

كانت الكباش تتشمّم "فَانْدَامْ " وتتدافع فيما بينها  الى أن انفلت احداها  .فدار خلف "فَانْدام" وحاول الصّعود عليه  متكأ عل قائمتيه الخلفيتين واضعا الامامتين على ظهره...

 أحسّ  فَانْدَامْ بثقل الكبش فأحنى ظهره وفتح قائمتيه

الخلفيتين وشرع يتبّول ...

صرخ "أنور "بأعلى صوته  ساخرا" فَانْدَامْ انثى  " فانتبه  كل من "وليد وفؤاد"،  وردّدا ورائه

"فانْدَامْ أنثى.  . فَانْدَامْ انثى" 

احس "رسيم" بالفتور  والغُصّة تعصر حلقه

لم يستطع أن يُدافع عن كبشه أن ينفي الانوثة عن" فَانْدَام " بعد ان تأكد الجميع أنه انثى.

وإن قرونه لا تعني أنه ذكر... 

فاسرع ينادي امّه باكيا فزعا... 

 

     ماإن  اخرج "وائل" المفتاح من قِفل باب شقّته وولج  حتى نادى زوجته:

مهوته... مهوته  أين أنت؟

  فردت عليه وهي مستلقية على اريكة فخمة في قاعة الجلوس تتابع اغنية

 "بو شناق ، ريتك ما نعرف وين"

- انا هنا حبّي، في قاعة الجلوس.

فجلس بجانبها مبتسما هاشا باشا سائلا:

- ماذا فعلت؟ هل اشتريت عيدنا عزيزتي

- طبعا حبّي.

- اه جيد ،  اعرف انّك "فحلة". سأذهب والقي نظرة .وهمّ بالوقوف، فاستوقفته

-لا حبيبي اجلس واحتسي قهوتك معي ومدت له فنجان القهوة، وأضافت:

- "فاندام" مع رسيم .

- "فاندام ..اي فندام " قالها في استغراب.

وأخذ رشفة طويلة من القهوة متمتما

- اه..  مُرّة لقد أكثرت من ماء الزّهر

- "فاندام" يارجل، كبش العيد، أطلق عليه رسيم اسم "فاندام"،  لقد تعلّق به واخذه ليناطح كباش الحيّ...

فقطع عليها حديثها  ووضع الفنجان من يده  على الطاولة البلورية أمامه وهبّ واقفا سائلا اياها:

-اليس هذا صوت رسيم ، أنه يصرخ ...

فاسرعت "مها" الى الباب مخلّفة زوجها "وائل" وراءها  وهي تولول 

- سرقوه.. سرقوا "فاندام".. يا ويلي..

وماان فتحت الباب والسيد وائل خلفها حتى ارتمى رسيم عليها باكيا يكاد يشرق في عبراته مرددا : 

- فاندام ..فاندام .. ياماما

كان والده يسأله في حزم

- من؟ .. من؟.. في سيارة ؟.. ام على قدميه؟  من أين ذهب ؟ قُل يا رسيم  ..قُل..

وأمه مها تمسح دموعه وتسكته وتضمه الى صدرها.وهي تخاطبه في حنان:

- رسيم .. رسيم... بُنيّ، كفكف كموعك  حبيبي

سأجده.. سيعيده والدك... والتفت الى زوجها آمرة:

 - وائل افعل شيئا.. يا رجل ...

اضطرب وائل  فخرج ودخل وهمّ بالخروج ثانية وعدل عن ذلك.

  وأخذ يسأل الصّبي تارة وامّه طورا  متلعثما لا يدري ماذا يفعل وماذا يقول:


-ما وزن الرجل ، ما  لونه الكبش ... الرجل؟  يا "مها"  ماذا يلبس الكبش؟ يا رسيم ..قل لي 

اقصد من أين ذهب ؟ و"فاندام... فاندام " ماذا فعل؟

ثم نزل مسرعا ...

صرخ الصّبي بأعلى صوته :

- لم يُسرق .. لم يُسرق .. يا ماما ...

"فاندام "طلع موش راجل  ياماما... وشرح لها على عجل كيف ان أصحابه تفطنوا أن فندام انثى ... 

نادت مها بأعلى صوتها:

اوه ... يا "وائل" ... يا "وائل"...

يتبع.

كان وائل ينزل مدارج العمارة مسرعا  على غير عادته  وقد تعثر أكثر من مرة وكاد رأسه يرتطم بالجدار ...

كانت أسئلة عديدة تطرق  رأسه  فأين سيبحث عنه؟ وكيف سيعرف الكبش؟ وكيف سيعرف اللص ؟

وكان لسانه يلهب بشفائم عديدة في حق زوجته وابنه...

توقف وائل فجأة على صوت زوجته تناديه فلعنها.. وقفل صاعدا المدارج وهو يلهث...

وماان وصل

 اعترضت السيدة مها عند الباب   وهي تبتسم  ابتسامة عريضة ...

فنفجر وائل سئلا:

- لماذا ارجعتني  قدماي  تحطمت من المدارج

فردت عليه في دلع

- لم يسرق فندام يا حبيبي

- اذا مابه  رسيم يصرخ ؟

 - لا هناك سوء تفاهم

فصرخ وسيم فندام يا أبي ليس مثلك  ليس مثلك...

فضحكت مها وهي تاخذ بيد زوجها الى قاعة الجلوس وتمسح على رأس ابنها مرددة ليس مهما يا رسيم ليس مهما

فامسك  السيد وائل برأسه

- لم أفهم و الله لم  أفهم  هل سرق الكبش ام لا؟

فر دت  مها مطمئنة :

لا لا الحمد لله لم يسرق  لكنه ليس كبشا

- ليس كبشا تقصدين أن ليس سمينا ...

- لاا يا ابي هو ليس مثلك هو ليس رجل  تدخل رسيم ليقنع اباه

- طبعا هو ليس مثلي هو حيوان يا رسيم.

فانفجر رسيم صارخا لا لا ابي أريده كبشا مثلك .. أريد ه  فندام حقيقي أريده كبشا ذكرا

- لا حول ولا قوة الابالله 

 وهل الكبش انثى انه ذكر؟

 فتدخلت السيدة مها 

 غير مهم غير مهم  انثى أو ذكر نفس الشيء  .. في الحقيقة يا وائل  يبدو أنهم 

باعوني كبشا انثى عوضا عن كبش ذكر 

- ماذا تقولين ؟ هل باعوك نعجة عوضا عن كبش؟

- ليس تماما فالقرون قرون كبش . ولست ادري ... 

- كيف تشترين انثى  أيعقل هذا؟

- وماذا كان عليه المهم أضحية  جميلة  وسمينة 

- لا ليس الكبش  كالنعجة 

- بل هي أفضل أجمل واسمن

- الشرع  يا مها لا يجيز  ذلك 

- ولماذا لا يجيز ذلك؟

-ليس الذكر كالانثى و كفى الشرع هكذا

- صرت فقيها.. أليست النعجة ام الكبش أو اخته...  اي شرع هذا الذي  يفضل الابن على أمه أو الأخت على أخيها ... 

وماذا ينقصها   حتى القرون أنعم الله بها عليها( قالتها في سخرية واضافت)

الا يليق أن تكون أضحية؟ 

- ما بكِ ؟ ماذا أصابكِ؟ أنها انثى ..

- الاناث  دائما هن الضحية. الا يليق بهن أن يكنّ  قربانا لله؟ ... 

- قولي انه وقع استغفالك وبيع لك انثى بثمن ذكر؟ 

-  لماذا تريدها أن تكون  الأنثى اقل ثمنا من الذكر  ؟  ...  ثم لم أُلق بالا لهذا الموضوع، كنت مهتمة بالقرون فقط. ثم أن رسيم تمسك بفندام 

-  كان عليك أن تتأكدي... وهل القرون هي عنوان الفحولة يا مدام ؟

- هذا صحيح  ( في تهكم )فقد تخدع الشوارب ؟

- الى ماذا تلمحين  هل تشككين في شواربي و قدراتي؟

- هههه لا يا عزيزي  انت فحل بشاربيك الطولين .. قل لي  متى نمت البارحة؟

 فاجابها وائل  متلعثما :

 نمت.. نمت  كنت متعبا...

كان رسيم يتابع الحديث  ثم جذب أمه من فستانها   هامسا

- ماما هل بابا مثل فندام؟ 

فتفطن له والده ونهره:

-  هي اخرج والتحق بالكبش   . 

فقهقهت  أمه مها    مرددة  :

-"قل فندامة يا بُني هههه".


نصر العماري



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق