الجمعة، 19 أبريل 2024

تجليات فلسفية عميقة..في أفق رواية "زوربا اليوناني" بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 تجليات فلسفية عميقة..في أفق رواية "زوربا اليوناني"


ما يجعل من الرواية نصا أبديا ليست الجماليات على اختلافها، بل النجاح في خلق حياة لها قيمها،وشخصية حية تقول (أنا الإنسان).

إقتباسات من الرواية:

*“إنني لا أؤمن بشيء،ولا بأي شخص آخر، بل بزوربا وحده. ليس لأن زوربا أفضل من الآخرين ليس ذلك مطلقًا مطلقًا،إنه بهيمة هو الآخر،لكنني أؤمن بزوربا لأنه الوحيد الذي يقع تحت سلطتي،الوحيد الذي أعرفه،و كل الآخرين إنما هم أشباح..عندما أموت أنا،فكل شيء يموت،إن كل العالم الزوربي سينهار دفعة واحدة”..

*”الحرية لا هدف لها،ونحن لا نجدها على الأرض..لن نجد على الأرض إلا الصراع من أجل الحرية،نحن نصارع من أجل شيء لايمكن بلوغه”..

*”لو تُرك الخيار لي بين أن أقع في غرام امرأة أو أن أطالع كتاباً جيداً عن العشق، ﻷخترت الكتاب”..

*”أنا جسر شيد بغير إتقان أحدهم يعبرني فأتحطم وراءه ..أحد المناضلين يخترقني،يأكل جسدي وعقلي لكي أفتح له الطريق ..ولكي ينجو مني ..إنه هو الذي يصيح وليس أنا”..

*”بداخلي شخص يكافح ليرفع حملاً ثقيلاً،يراجع حساب الجسد والعقل منتصراً على العادة والكسل والضرورة”..

*”آه يا صديقي المسكين،فقد انحدر الرجال كثيراً،وليأخذهم الشيطان!تركوا أجسامهم تصبح خرساء ولا يتحدثون إلا بأفواههم”..

*”إنّ الإله الرحيم،كما ترى،لا تستطيع طبقات السماء السبع وطبقات الأرض السبع أن تسعه، لكن قلب الإنسان يسعه،إذن،احذر يا ألكسيس،من أن تجرح ذات يوم قلب إنسان !!”..

قليلة هي الكتب التي تدفع إلى تغيير الموقف أو النظرة من الحياة، لكن ندرتها والأثر الذي تتركه لدى القارئ يضمنان لها الخلود وذيوع الصيت.رواية زوربا اليوناني لكاتبها اليوناني نيكوس كازانتزاكيس** الصادرة في طبعتها الأولى عام 1946،التي لم يقتصر نفوذها الأدبي على مجال الرواية بل امتد إلى السينما والموسيقى وحتى الفلسفة،كانت من جنس الروايات الحاثة على التفكير في الحياة.

كانت للرواية مشتقاتها الكثيرة،إضافة إلى النص الذي ترجم إلى العشرات من اللغات،فقد تحولت إلى فيلم سينمائي حظي بدوره برواج غريب (فيلم ألكسيس زروبا للمخرج اليوناني مايكل كاكويانيس وبطولة أنتوني كوين) وكانت لها موسيقاها بلحن الموسيقار ميكيس تيودوراكيس،وترتبت عن الرواية أيضا رقصة شهيرة أصبحت تمارس جماعيا في الشوارع والساحات لتعبر عن الاقتران بالحرية والانطلاق.ولا تقتصر “منتجات” الرواية على الترجمات وعلى الفيلم والموسيقى والرقصة،بل تمتد أيضا إلى مفردات أخرى اختطها الكاتب وفرض نحتها في ذاكرة كل قارئ للكتاب: شخصيات الكتاب،باسيل المثقف الثري الراغب في استثمار أمواله،وألكسيس زوربا الرجل الأمي الذي عجن ثقافته بطين التجارب والأسفار وهي الثقافة التي أتاحت له أن يكوّن موقفا مختلفا من الحياة قوامه صون إنسانيته من كل التهديدات “تخلصت من الوطن،تخلصت من الكاهن،تخلصت من الماء.إنني أغربل نفسي.كلما تقدم بي العمر غربلت نفسي أكثر.إنني أتطهر.كيف أقول لك؟ إنني أتحرر،إنني أصبح إِنسانا”.

آلة السنتوري التي يعزف بها زوربا آلامه وأشجانه،والحوارات العميقة التي تتقصد سبر أغوار النفس الإنسانية،كلها مشتقات للكتاب يعسر أن تغادر ذاكرة كل قارئ.

زوربا اليوناني” هي رواية تمتزج فيها الثقافات والفلسفات المتناقضة.

تركز الرواية على تجربة الحياة وتفاعل الإنسان مع العالم من خلال شخصيتي نيكوس وزوربا. تطرح الرواية أسئلة فلسفية عميقة حول معنى الحياة والحرية والوجود.

زوربا،الشخصية الرئيسية،تجسد روحانية شرقية تعيش في حب الحياة والفرح.

يُظهر زوربا قيمة التفاعل الإيجابي مع العالم وكيف يمكن للإنسان تحقيق السعادة من خلال تقبل الحياة كما هي.

نيكوس،من ناحية أخرى،يمثل العقلانية الغربية والتفكير العميق.يناقش نيكوس مع زوربا تصورات الحياة والموت والإنسانية بطريقة تجمع بين الروحانية والعقلانية.

الرقصة المشهورة لزوربا تمثل تعبيرًا عن الفرح والحياة الجارفة.يقفز زوربا في هذه الرقصة بشكل مثير ويستخدم كل ما حوله للتعبير عن حيويته وعاطفته.

الرواية تروي أيضًا قصة صداقة غير مألوفة بين نيكوس وزوربا،وتعكس كيفية تأثير هذه العلاقة على تصوراتهما للعالم وأنفسهما.

وتقدم الرواية صورة أخرى حتى عن الموت والحياة،لكن الأساسي أن كل هذه الأفكار لم تكن بالجفاف الذي انساقت فيه روايات أو سرديات أخرى،بل سلسة،إنها مقطوعة حية وعذبة، تقرأها فتعيشها،نظرا إلى القدرة اللغوية والفكرية لكزانتزاكيس الذي كان قلمه أقوى من الكاميرا،حتى أن الفيلم المقتبس عن الرواية لم يتفوق عليها بل بالعكس.ما يجعل من الرواية نصا أبديا ليس الجماليات على اختلافها،بل النجاح في خلق حياة لها قيمها،وشخصية حية تقول “أنا الإنسان”.

استطاع كازانتزاكيس أن يحيك كائنًا حيًا داخل مخيلة القارئ ويرسم معالمه النفسية بدقةٍ متناهية بتعابير أدبية عذبة تصف جميع التناقضات التي يعيشها الكائن البشري.

كما تجاوزت الشخصية التي وصفها كازانتزاكيس حيز اللغة لتعبر عن مكنونات تلك الشخصية بالرقص كما تصف الرواية،حيث تم تجسيد تلك الرقصة التي أطلق عليها رقصة زوربا لتصبح فلكلورًا عالميًّا.

لاشك أن ماجناه زوربا طيلة حياته يختلف اختلافًا جمًا عما يحققه الإنسان بالنسبة لمفهوم الإنجاز السائد،فقد سار طيلة حياته في طريقٍ لم يرسمها ولم يخطط لها قط، إنما يتماهى مع كلّ خطوة يخطوها ومع كل حدثٍ ومع كل مغامرةٍ جديدة يخرج منها ممتلئًا بحفنةٍ من الخبرات والمشاعر والذكريات وهنا يبلغ سر إنجازاته،فقد رافقته طيلة حياته تلك الرغبة الجامحة في الخوض والمعرفة،فالمعرفة حسب وصفه لا تلك التي تستمد من الكتب بل ما نستخلصها من الحياة اليومية.

يعشق زوربا الطبيعة بجنون..فكل شيء فيها حي ينبض وله روح مثلنا..البحر والطيور والزهور والأرض والصخور المتدحرجة التي وقف أمامها مرة مبهورا مذهولا متسائلا عن تلك الروح التي تحركها..انه لا يستطيع منع نفسه كلما فاض به الحنين للطبيعة ان يفتح ذراعيه ليحتضن كل شيء وكل جزء من الطبيعة التي أمام ناظريه..ففيها الراحة للنفس والتحفيز للتأمل والتفكر..خاطب رئيسه مرة قائلا لماذا لا يفتح الجميع ساعديه ليحتضن كل شيء..المطر والزهور والناس والصخور..كانت دعوة فطرية للتخلي عن كل الرغبات السيئة وكل الحقد والبغض والتوحد في عالم مليء بالطبيعة والحب والفرح الأزلي..

زوربا رجل لا يقف وسطا أو حائرا بين الجسد والروح فهو يختلف كل الاختلاف عن الرهبان الذين وهبوا أجسادهم قربانا للتأمل الروحي والبحث عن الحقيقة مكتفين بأقل القليل حيث يكون هذا القليل من الطعام وسيلة للبقاء أحياء حتى اليوم التالي..كما يختلف زوربا عن الرجال الذين سيطرت عليهم شهوة الطعام والجنس فأتخمو أنفسهم من كل شيء حتى تبلدت عقولهم..زوربا يعطي الجسد حقه من الشهوات على اختلافها وفي الأوقات التي يحتاجها الجسد فقط دون أن ينسى الروح السامية ورغبتها بالشبع بطريقتها الخاصة بها وذلك بالتأمل في كل شيء روحاني كصوت أمواج البحر ترتطم بالصخور أو زقزقة عصفور فوق أغصان شجرة أو لحنا ينساب بهدوء متملكا الروح أو حتى جمال امرأة أو صوتها الذي يبعث فيه الرغبة بالتأمل والسمو الروحي..وحتى السكون المطبق عند الفجر له روحه الساحرة التي تجعل زوربا يتيه في عالم الخيال والتفكر ..

لقيت الرواية صدى واسع حيث ترجمت على أثر ذلك الى عدة لغات كما اقتبس عنها فيلم من إخراج “مايكل كاكويانس” ومن بطولة “أنتوني كوين” ة”إيرين باباس”.

حصد الفيلم في العام 1964 جائزتي أوسكار لأفضل إخراج سينمائي وأفضل تصوير سينمائي أبيض وأسود.

تمتلك الرواية شهرة عالمية،وقد تم تحويلها إلى فيلم سينمائي حاز على إعجاب الجماهير،وقد أدى النجم المكسيكي أنتوني كوين دور زوربا.

“زوربا اليوناني” **لا تزال تعتبر عملاً أدبيًا مميزًا يستمتع به القرّاء حول العالم.

*رواية زوربا اليوناني للكاتب نيكوس كازانتزاكيس صدرت عام 1946 .هي رواية تدور أحداثها عن قصة رجل مثقف،اسمه باسيل،غارق في الكتب،يلتقي مصادفة برجل أميّ مدرسته الوحيدة هي الحياة وتجاربه فيها،وسرعان ما تنشأ صداقة بين الرجلين ويتعلم فيها المثقف باسيل الذي ورث مالا من أبيه الكثير من زوربا عن الحياة وعن حبها وفن عيشها.

**نيكوس كازانتزاكيس هو كاتب وفيلسوف يونانى،(18 فبفري-1883/26 أكتوبر 1957)،اشتهر بروايته ” زوربا اليونانى ” اللى تعتبر أعظم ما أبدع،اشتهر عالميا بعد سنة 1964 حيث أنتج فيلم ” زوربا اليونانى ” للمخرج مايكل كاكويانيس والمأخوذ عن روايته..وتجددت شهرته سنة 1988 حيث أنتج فيلم ” الاغواء الأخر للمسيح ” للمخرج مارتن سكورسيس و هو مأخوذ عن رواية لكازنتزاكيس كمان .

-السيرة الذاتية لـ “زوربا اليوناني”

زوربا هو أحد الرجال البسطاء الطيبين أولئك النادرين الذين يمتلكون قلوبًا شغوفةً ناصعةً لا تشوبها شائبة، رغم أنه أميٌّ،لا يقرأ أو يكتب،لكنه يمتلك خبرةً واسعة استمدها من حياته التي عاشها بتجاربها الواسعة،واستطاع أن يتلقف منها أعظم ما فيها من قيمٍ ويعيش أجمل ما فيها من لحظات.

عمل زوربا مهنًا لا تُعد ولا تحصى وبقي يتنقل من مهنة إلى أخرى،ورغم بساطته الكبيرة لكنه بوتقةٌ اختلطت فيها كل الصفات الرائعة التي يتمنى القارئ أن يحظى بها،فهو حر لأبعد حد، محبٌ وكاره،مؤمن بروعة الحياة الإنسانية وأهمية اللحظة الحالية بصرف النظر عن تعقيداتها.

هو مغامرٌ زاهد لا يثبط عزيمته عن خوض غمار روعة الحياة شيئًا.


محمد المحسن




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق