تعليق على الحوار بين الباحثة الأكاديمية الدكتورة لمى مرجيّة ـ زهر والأستاذ أوس يعقوب من العربي الجديد ضفة ثالثة منبر ثقافي عربي حول كتابها "تطوّر المسرح الفلسطيني (1948 ـ 1975) مبينا مكنونات الحوار وأهدافه.
الحوار:
ولدت الباحثة الأكاديمية الدكتورة لمى مرجيّة ـ زهر في مدينة الناصرة، وأنهت مرحلتي الابتدائية والثانوية فيها، ثم واصلت تعليمها الجامعي في جامعة حيفا، وحصلت على البكالوريوس والماجستير في موضوع اللغة العربية وآدابها، وحصلت على الدكتوراة من جامعة تل أبيب، بعد أن قدّمت رسالة عن تطوّر المسرح الفلسطيني من عام 1948 حتّى عام 1975، موثّقة في رسالتها حوالي 320 مسرحية كتبت ووضعت في فلسطين خلال هذه الفترة الزمنية.
أصدرت حتّى الآن أربعة كتب للأطفال، هي: "ريما والضرير"، و"الطفل الذي علّم أباه درسًا"، و"لين وجوري"، و"ذكاء الطفل زيدان". ولها بحثان في المسرح الفلسطيني: "المسرح الفلسطيني حتّى عام 1948"، و"تطوّر المسرح الفلسطيني (1948 ـ 1975) نظرة اجتماعية، سياسية وأسلوبية"، بالإضافة إلى بحث ثالث بعنوان "مسرح الطفل".
نشرت مقالات عديدة في الصحف المحلّية والمواقع الإلكترونية الفلسطينية والعربية، تناولت فيها الجوانب الحياتية كافة، وخصوصًا النواحي الثقافية والأدبية واللغوية، كما أنجزت مشروعًا وطنيًا هو تجميع وتوثيق الروايات المسرحية التي ألّفها وترجمها رائد المسرح الفلسطيني جميل حبيب البحري (1895 ـ 1930)، ورغم كل الصعوبات والعوائق، بحثت ونقبت خلال سنوات عدة في الصحف والجرائد والمجلّات والملاحق الأدبية القديمة جدًا، الفلسطينية بخاصّة، والعربية عامّة (قبل ضياعها واندثارها)، فوجدت غالبية هذه الروايات المسرحية، ووثّقتها في مجلّد كبير الحجم، عدد صفحاته يزيد عن 1150 صفحة، ليكون وثيقة حيّة بين أيدي الباحثين والدراسين والقارئين (وسينشر هذا المجلّد قريبًا).
كما نشرت مقالين باللغة الإنكليزية في مجلّتين محكّمتين عالميتين.
حاليًا تدرّس موضوع المسرح الفلسطيني في كلّيّة القاسمي، في باقة الغربية في الداخل الفلسطيني، وموضوع اللغة العربيّة في مدرسة الجليل الثانوية في مدينة الناصرة.
هنا حوار معها حول شغفها بالمسرح منذ نعومة أظفارها، وعن دراساتها المتخصّصة بالمسرح الفلسطيني، وآخرها كتاب "تطوّر المسرح الفلسطيني (1948 ـ 1975): نظرة اجتماعية، سياسية وأسلوبية"، والذي صدر أخيرًا وكتابها المشترك مع والدها الباحث الدكتور بشارة مرجيّة، الموسوم بـ"مسرح الطفل".
(*) في مستهل حوارنا؛ أسألك عن كتابك "تطوّر المسرح الفلسطيني (1948 ـ 1975)..."، والذي هو في الأصل بحث نلت عنه شهادة الدكتوراة. ما الذي دفعك إلى اختيار هذا الموضوع تحديدًا؟ ومن قبل ما هي علاقتك بالمسرح؟
اختيار الموضوع لم يكن من فراغ، فأنا من عشّاق المسرح بشكلٍ عامّ، وقد وُلدتُ في بيت يحترم المسرح ويؤمن به. ومنذ صغري، اعتاد والداي اطّلاعي على مختلف المسرحيات، وهكذا كبر عشقي لهذا الموضوع... وحين أتحدّث عن مساري الأكاديمي، فاختياري لدراسة موضوع المسرح الفلسطيني بالذات كان نتيجة نقطة تحوّل اكتشفت من خلالها العلاقة العميقة بين المسرح كأداة ثقافية وبين المقاومة الفلسطينية. في البداية، كنت مهتمّةً بجانب تقني، أو فنّي، للمسرح بشكلٍ عامّ، لكن عندما بدأت في دراسة تاريخ المسرح الفلسطيني، لاحظت كيف كان هذا الفنّ يعكس ويشكّل الهوية الوطنية، ويعبّر عن معاناة الشعب الفلسطيني. تلك اللحظة التي فهمت فيها الأبعاد السياسية والاجتماعية التي يحملها المسرح الفلسطيني، شكّلت منعطفًا حاسمًا في توجّهاتي الأكاديمية. منذ ذلك الحين، ركّزت دراساتي وبحثي بشكلٍ أكبر على الربط بين الفنّ والسياسة، وكيف يمكن للمسرح أن يكون أداة فعّالة في التعبير عن القضايا الوطنية والاجتماعية.
(*) هل واجهتك أيّ معوّقات، أو صعوبات، أثناء تحرير الكتاب، والعمل عليه؟
من أبرز الصعوبات التي واجهتني في دراستي لموضوع المسرح الفلسطيني كانت التحدّيات المتعلّقة بالكتابة عن هذا الموضوع بالذات، والذي يُعد موضوعًا حساسًا للغاية، وأنا أتحدّث هنا من منطلق الوضع السياسي الذي نعيشه نحن الفلسطينيون في الداخل (عرب الـ48)، بالإضافة إلى الصعوبات المتعلّقة بشُحّ المصادر والمراجع الأكاديمية المتخصّصة. المسرح الفلسطيني، على الرغم من غناه وتاريخه الطويل، لم يحظَ بما يستحقّه من توثيق أكاديمي شامل، الأمر الذي جعل من الصعب العثور على دراسات نقدية عميقة وموثوقة. بالإضافة إلى ذلك، كان من الصعب العثور على أرشيفات، أو مواد مسرحية قديمة، حيث تعرّض كثير منها للتدمير، أو الإخفاء، بسبب الأوضاع السياسية الصعبة التي مرّ بها الفلسطينيون، وبعض العروض والكتابات المسرحية التاريخية كانت موجودة في ذاكرة الأفراد فقط، أو في شكل نسخ غير رسمية، مما فرض تحدّيات كبيرة على عملية التوثيق والتحليل.
المسرح ابن اللحظة التاريخية
(*) لماذا اخترت الفترة الزمنية من سنة النكبة 1948 إلى سنة 1975 تحديدًا؟ وكيف قرأتِ تأثير وانعكاسات الأوضاع الاجتماعيّة والثقافية والسياسية، على حركة المسرح الفلسطيني خلال هذه الفترة؟
اخترتُ دراسة المسرح الفلسطيني في الفترة الواقعة بين عامي 1948 و1975 لما تحمله هذه المرحلة من أهمية تاريخية مفصلية في تشكيل الوعي الفلسطيني، سواء على الصعيدين السياسي، أو الثقافي. ففي عام 1948 وقعت النكبة، التي لم تقتصر آثارها على الجغرافيا والسياسة فحسب، بل خلخلت أيضًا البنية الاجتماعية والثقافية للشعب الفلسطيني، ودفعت بالمثقّفين والفنّانين إلى البحث عن أدوات جديدة للتعبير، كان المسرح من أبرزها، وتلي النكبة أحداث سياسية مفصلية أخرى. أمّا عام 1975، فهو بداية تحوّل في أشكال التعبير المسرحي وتوجّهاته، لا سيّما مع تصاعد الوعي السياسي والتنظيمي للفلسطينيين وظهور مؤسّسات مسرحية أكثر احترافًا، وهذا الأمر كان سيوسّع ويضخّم بحثي بشكلٍ لن أستطيع السيطرة عليه ضمن عدد صفحات منطقي، وسيأخذ بحثي إلى منحى آخر، وهنا قرّرتُ التوقّف عند هذه السنة، لأنّ الموضوعات والاستراتيجيات البحثية ستختلف كثيرًا، وهذا يحتاج لبحث آخر مكثّف سأواصل به مستقبلًا بإذن الله.
لقد أردتُ من خلال هذه الدراسة أن أستقصي كيف كان المسرح، في هذه الفترة الحرجة، مرآةً تعكس واقعًا اجتماعيًا متغيّرًا ومتأزّمًا، وفي الوقت نفسه أداة مقاومة ثقافية تُعيد تشكيل الهوية الجمعية وتُحافظ على الذاكرة الوطنية. فالمسرح لا يولد في الفراغ، بل هو ابن اللحظة التاريخية، يتغذّى من معاناة الناس وآمالهم، وينبض بما يدور في الشارع والساحة السياسية. من هنا جاءت أهمّية هذه المرحلة بالنسبة لي، لا كفترة زمنية فقط، بل كمساحة حيوية لفهم كيفية تبلور ملامح المسرح الفلسطيني كفنّ ملتزم وفاعل، في ظلّ سياقات من التهجير والقمع والتشتت.
(*) ما تأثير التراث على المسرح الفلسطيني بعد النكبة وحتّى حرب 1973؟ وما هي أبرز التطوّرات التي مرّ بها المسرح الفلسطيني، سعيًا لبلورة هويته الفلسطينية، وكذلك مراحل التطوّر الشكلي والأسلوبي للمسرحيات الفلسطينية؟
بعد نكبة 1948، كان المسرح الفلسطيني في حاجة ماسة لإعادة تشكيل نفسه، ليس فقط من حيث الشكل والمحتوى، بل من حيث الوظيفة الثقافية والسياسية التي أصبح يحملها. في تلك الفترة، كانت فلسطين قد فقدت جزءًا كبيرًا من أرضها وهويتها الثقافية، وكان المسرح أحد الوسائل الفعّالة لتوثيق الذاكرة الفلسطينية وحفظ التراث الشعبي.
التراث الفلسطيني، بما يحتويه من أساطير، وأمثال شعبية، وأغانٍ، ورقصات، وممارسات اجتماعية وغيره، لعب دورًا كبيرًا في تشكيل هوية المسرح الفلسطيني. وقد تمّ إعادة استحضار هذا التراث بشكل جمالي وفنّي، بحيث يصبح مصدرًا للإلهام في كتابة النصوص وتصميم المشاهد المسرحية. المسرح الفلسطيني بعد النكبة لم يكن مجرّد فنّ في حدِّ ذاته، بل أداة للتعبير عن مقاومة القمع والتشريد، وتأكيد الوجود الفلسطيني رغم محاولات محو الهوية.
من أبرز التطوّرات في هذه الفترة كانت محاولات دمج التراث الشعبي بالأساليب المسرحية الحديثة. في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، بدأ المسرحيون الفلسطينيون في تشكيل أعمال مسرحية تعكس معاناة الشعب الفلسطيني، حيث تمّ استلهام عدد من الرموز التراثية مثل "الفلاح"، و"المجاهد"، و"المرأة الفلسطينية"، لتكون شخصيات محورية في المسرحيات. هذا الدمج بين التراث والشكل المسرحي الحديث شكّل علامة فارقة في التطوّر الشكلي للأسلوب المسرحي الفلسطيني.
ومع تطوّر المسرح الفلسطيني في السبعينيات، تبلورت أساليب مسرحية أكثر تنوّعًا، فبدأت تظهر الأساليب التعبيرية (مثل المسرح الوجودي والمسرح الملحمي)، التي كانت محاكاة للأوضاع السياسية المضطربة، مع التركيز على قضية الاحتلال وأبعادها الإنسانية والاجتماعية. كما ساعدت الحرب الأهلية اللبنانية، وحرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، في بلورة اتّجاهات جديدة في الكتابة المسرحية، حيث تمّ التركيز على الوحدة العربية، والنضال المشترك ضدّ الاستعمار.
أمّا في ما يتعلّق بالتطوّرات الشكلية، فقد كانت هنالك تغيّرات كبيرة على مستوى النصوص المسرحية، حيث بدأ عدد من الكتّاب الفلسطينيين يتّجهون إلى الكتابة المسرحية المعاصرة التي تُعالج قضايا الهوية والمقاومة والتشرّد، مستفيدين من الأسلوب الواقعي السحري والتجريبي. وتمّ تكريس هذه الاتّجاهات في محافل المسرح العربي والدولي، بما ساهم في وضع المسرح الفلسطيني على الخريطة العالمية.
بالتالي، يمكن القول إنّ التراث الفلسطيني كان الأساس الذي بُني عليه المسرح الفلسطيني في تلك المرحلة، لكنّه لم يكن مجرّد تكرار للأشكال التقليدية؛ بل تمّ إعادة إنتاجه وتحديثه في سياق سياسي واجتماعي جديد، ممّا ساعد على بناء هوية مسرحية فلسطينية فريدة في ظلّ التحدّيات السياسية والاجتماعية.
(*) خلال الفترة (1948 ـ 1975) خضعت الحركة المسرحية الفلسطينية في الأراضي المحتلّة لرقابة إسرائيلية صارمة، كأيّ نشاط ثقافي وفنّي تحت الاحتلال، فكيف عمل المسرحيون الفلسطينيون للتخلّص من رقابة المحتلّ ومن ملاحقتهم والتضييق عليهم؟
خلال الفترة ما بين 1948 و1975، كانت الحركة المسرحية الفلسطينية في الأراضي المحتلّة تواجه رقابة إسرائيلية صارمة لم تقتصر على منع العروض المسرحية، بل شملت أيضًا ملاحقة الفنّانين، وتقييد النصوص، وفرض موافقات مسبقة على أيّ نشاط ثقافي. في هذا السياق القمعي، لم يكن أمام المسرحيين الفلسطينيين سوى البحث عن طرق خلاقة وذكية للتحايل على هذه الرقابة والتضييق، من دون التخلّي عن رسائلهم الوطنية والإنسانية.
من أبرز الوسائل التي اعتمدها المسرحيون الفلسطينيون لمواجهة الرقابة كانت اللجوء إلى الرمزية، واستخدام آلية التناص، حيث أصبحت اللغة المسرحية غنية بالدلالات غير المباشرة، وقد كتبتُ مقالًا باللغة الإنكليزية حول آلية التناص المستخدمة في المسرح الفلسطيني، حيث رأيت أن ذلك ضرورة أكثر من كونه أسلوبًا فنّيًا جماليًا. تمّ استخدام الحكايات الشعبية، والأساطير، وأحداث تاريخية قديمة، كأقنعة فنّية لتمرير رسائل معاصرة تتعلّق بالاحتلال والهوية والظلم. بهذه الطريقة، استطاع المسرحيون الحديث عن واقعهم من دون الاصطدام المباشر مع الرقابة.
كذلك لجأ عدد من المسرحيين إلى تنظيم عروضهم في أماكن مغلقة وغير رسمية، مثل البيوت، أو المراكز الثقافية الصغيرة، أو المدارس، لتفادي الرقابة الرسمية. وفي بعض الحالات، تمّ تقديم العروض من دون إعلان مسبق، أو ضمن فعاليات اجتماعية أخرى لإخفاء طبيعتها السياسية. من جهة أخرى، سعى المسرحيون إلى تأسيس فرق مسرحية تحمل طابعًا ثقافيًا عامًّا لتجنّب الحظر، لكنّهم كانوا يحملون أعمالهم بطبقات متعدّدة من المعاني التي كان الجمهور الفلسطيني قادرًا على فكّ شيفراتها بسهولة. بالتوازي، كانت هنالك محاولات للتعاون مع فرق مسرحية عربية في الخارج، أو الاستفادة من تجارب المسرح العالمي في تقديم أعمال تبدو "كونية" في ظاهرها، لكنّها تنقل المعاناة الفلسطينية في جوهرها. بالتالي، لم يكن المسرح الفلسطيني مجرّد فنّ مُقاوِم للرقابة، بل كان فضاءً للإبداع المقاوم، حيث تحوّل القمع إلى محفّز للبحث عن أشكال تعبيرية جديدة، وأساليب سردية مبتكرة تُثبت أنّ الكلمة الحرّة يمكن أن تنجو حتّى تحت الاحتلال.
(*) كيف استقبل النقّاد والجمهور في الداخل الفلسطيني هذا الكتاب؟
كان استقبال النقّاد والجمهور في الداخل الفلسطيني لكتابي موضع تقدير واهتمام، وقد شكّل ذلك بالنسبة لي دافعًا إضافيًا للاستمرار في هذا المسار البحثي. النقّاد رأوا في الكتاب مساهمة نوعية في سدّ فجوة واضحة في التأريخ والتحليل الأكاديمي للمسرح الفلسطيني، لا سيما في الفترة الممتدّة بين 1948 و1975، التي لطالما عانت من التهميش.
ما لفتني أيضًا هو أنّ بعض القرّاء ـ من فنّانين وأكاديميين وجمهور عامّ ـ عبّروا عن امتنانهم لتسليط الضوء على أعمال وتجارب مسرحية كادت تُنسى، أو لم تحظَ بالاهتمام الذي تستحقّه. وقد عبّر بعضهم عن تأثّرهم بالطريقة التي ربط بها الكتاب بين التحليل الفنّي والسياق السياسي والاجتماعي، مما جعل المحتوى أكثر قربًا من واقعهم وتجاربهم الحياتية.
أمّا على الصعيد النقدي، فقد أشاد عدد من النقّاد بالمنهجية التي اتّبعتها، سواء من حيث رصد المصادر الشفوية والأرشيفية، أو في تحليل النصوص المسرحية ضمن سياقاتها التاريخية والثقافية. وقد دار كثير من النقاش حول أهمّية إعادة قراءة التراث المسرحي الفلسطيني، لا بوصفه مجرّد انعكاس للواقع، بل كأداة فاعلة في تشكيل الوعي والهوية الوطنية.
(*) ما تأثير الوالد على مسيرتك الأكاديمية والإبداعية، وكيف كانت بواكير البداية؟
والدي الدكتور بشارة مرجيّة له باع طويل في الأدب العربي، وأدب الأطفال، وهو قدوتي ومثالي الأعلى في كلّ شيء، ولطالما آمنتُ بأنّ عشق اللغة العربيّة انتقل إليّ عبر الجينات، فوالدي هو من أورثني حبّ اللغة والشغف المتعطّش للبحث الدائم، بالإضافة إلى الرسالة الإنسانية التي رافقتني منذ الصغر، من حيث أهمّية وضع بصمتي الخاصّة في موضوعات لم تُبحث سابقًا، أو لم تنل حقّها الكافي من الدراسة والبحث؛ من هذا المنطلق اخترت بحث "المسرح الفلسطيني"، فهذا الموضوع أُهمل كثيرًا رغم أهمّيته، فشعرت بحاجة ملحّة لدراسته ووضع قاعدة متينة لدراسات لاحقة سيقوم بها دارسون شغوفون مثلي.
(*) "مسرح الطفل" هو كتابك الثاني، وهو ثمرة جهد مشترك بينك وبين والدك. كيف تبلورت فكرة هذا الكتاب؟ وما الذي قادكما نحو هذا الموضوع؟ وما هو مضمونه؟
كتاب "مسرح الطفل" هو ثمرة تجربة فكرية وإنسانية عميقة جمعتني بوالدي، الذي لطالما كان له دور محوري في تشكيل وعيي الثقافي منذ الطفولة. جاءت فكرة الكتاب من إدراك مشترك بيننا لأهمّية مسرح الطفل، لا بوصفه مساحة ترفيهية فقط، بل كأداة تربوية وتثقيفية قادرة على التأثير العميق في بناء وعي الأجيال القادمة.
لاحظنا معًا وجود فجوة واضحة في الدراسات العربية، والفلسطينية تحديدًا، حول هذا النوع من المسرح، سواء على مستوى التنظير، أو التوثيق، أو النقد. وهكذا بدأت الفكرة تتبلور: أن نقدّم مرجعًا يعالج مسرح الطفل من زوايا متعدّدة، يجمع بين الجانب النظري والتحليلي، وبين الخبرة الأدبية والتربوية، وهي خبرة حملها والدي لسنوات طويلة من خلال عمله الأكاديمي، وإنتاجه الأدبي.
يقوم مضمون الكتاب على محاور أساسية عدة، من بينها: تطوّر مسرح الطفل عربيًا وفلسطينيًا، وخصائص الكتابة المسرحية الموجّهة للأطفال، والأبعاد النفسية والتربوية لهذا الفنّ، وأمثلة على نصوص مختارة وتحليلها. كما تطرّقنا إلى تحدّيات إنتاج مسرح الطفل في ظلّ الأوضاع السياسية والاجتماعية المعقّدة، وغياب الدعم المؤسّساتي أحيانًا.
العمل على هذا الكتاب لم يكن مجرّد مشروع بحثي، بل كان أيضًا مساحة حوار بين جيلين، وتلاقي رؤى بين خبرة الأب واندفاع الابنة، وهو ما منح العمل طابعًا خاصًّا وشخصيًا إلى جانب قيمته الأكاديمية. نأمل أن يشكّل هذا الكتاب إضافة حقيقية للمكتبة العربية، وأن يسهم في إحياء الاهتمام بمسرح الطفل كرافعة ثقافية وتربوية لا غنى عنها.
(*) كيف تقرأين حضور المسرح عمومًا في المشهد الثقافي والفنّي في الداخل الفلسطيني؟ هل كان دوره إيجابيًا في إنتاج المعرفة؟ وهل أنتج ظاهرة فنّية، أم أنّه لم يزل في مراحل نمو بطيئة؟
قراءة حضور المسرح في المشهد الثقافي والفنّي في الداخل الفلسطيني تقتضي مقاربة مزدوجة تجمع بين الاعتراف بالإنجازات من جهة، وبين الوعي بالتحدّيات البنيوية والظرفية التي لا يزال يواجهها المسرح من جهة أخرى.
لا يمكن إنكار أنّ المسرح في الداخل الفلسطيني لعب دورًا مهمًا في الحفاظ على الهوية الثقافية، وتشكيل وعي جمعي مقاوم، خاصّة في ظلّ واقع الاحتلال وتضييق الحرّيات. لقد كان المسرح، في كثير من الأحيان، بمثابة منبر بديل للخطاب السياسي والاجتماعي، وهو أحد أبرز الفنون التي نجحت في التماهي مع الواقع، ومخاطبة الجمهور بوعي نقدي.
من جهة إنتاج المعرفة، أرى أنّ المسرح في الداخل الفلسطيني ساهم بشكل واضح في طرح الأسئلة الكبرى المرتبطة بالهوية والانتماء واللغة والذاكرة، وفتح آفاقًا فكرية وجمالية جديدة، سواء عبر النصوص المسرحية، أو العروض التي تجرّأت على مساءلة السائد، وكسر المحظورات. عدد من المسرحيين تعاملوا مع المسرح لا كمجرّد وسيلة ترفيه، بل كمساحة معرفية ومجتمعية حيّة قادرة على التأثير والتغيير.
أمّا من ناحية كونه ظاهرة فنّية ناضجة، أو لا تزال في طور النمو، فالإجابة تعتمد على زاوية النظر. هنالك بالتأكيد تجارب ناضجة، وفرق مسرحية رائدة مثل مسرح "الميدان" في حيفا، ومسرح "الحكواتي"، وغيرهما، كما توجد تجارب فردية مميّزة أثبتت قدرتها على الإبداع. ومع ذلك، لا يزال المسرح يعاني من بطء في التطوّر لأسباب عدّة، منها: ضعف التمويل، وغياب السياسات الثقافية الداعمة، وتهميش المسرح في المنظومة التعليمية، وغياب البنية التحتية الملائمة في بعض المناطق، وغيرها.
بالتالي، يمكن القول إنّنا أمام مشهد مسرحي واعد، يحمل في داخله بذور الظاهرة الفنّية المتكاملة، لكنّه لا يزال في حاجة إلى بيئة حاضنة، وإلى استراتيجيات مؤسّساتية وثقافية جادة تُمكّنه من التحوّل إلى قوّة فنّية مؤثّرة ومستدامة في النسيج الثقافي الفلسطيني.
(*) ما الذي تحضرين له في الوقت الحالي، وفي المستقبل القريب، على صعيد الكتابة؟
في الوقت الراهن، أعمل على مشروع بحثي جديد يُعنى بدراسة التجارب المسرحية النسوية في السياق الفلسطيني، من خلال تتبّع حضور المرأة ككاتبة ومخرجة وممثلة، وكيف انعكست قضاياها في المتن المسرحي، لا سيما في ظلّ التحدّيات المجتمعية والسياسية المركّبة. أهدف من خلال هذا المشروع إلى تسليط الضوء على الأصوات النسائية التي غالبًا ما تمّ تهميشها، رغم حضورها الفعّال والإبداعي في المشهد المسرحي.
كما أضع اللمسات الأولى على كتاب جديد موجّه للأطفال يجمع بين الحكاية المسرحية والتربية الجمالية، إيمانًا مني بأهمّية مخاطبة الأجيال الصغيرة عبر أدوات فنّية تزرع فيهم حبّ الفنّ والانتماء والمعرفة.
وعلى المدى القريب، أنوي التفرّغ لتوسيع البحث في موضوع الذاكرة المسرحية الفلسطينية، من خلال أرشفة العروض والفرق والرموز الفنّية التي ساهمت في تشكيل هذا الفنّ، وذلك للحفاظ على الإرث المسرحي وتقديمه للأجيال القادمة بمرجعية موثوقة وشاملة.
وأخيرًا، الكتابة بالنسبة لي ليست مجرّد إنتاج فكري، بل هي امتداد لمسؤولية ثقافية، ومحاولة متواصلة للمساهمة في صياغة خطاب نقدي فلسطيني معاصر يحاور الواقع، ولا ينعزل عنه.
****************************************
التعليق:
يقف هذا الحوار شاهداً على مشروع ثقافي متوهج، يجسد بصدق معنى "المقاومة بالذاكرة". إنه حوار لا يسرد سيرة ذاتية فحسب، بل يفتح نافذة على روح أمة تخلق الفن من رحم المعاناة، وتُبدع المسرح من بين أنقاض النكبة.
في قلبِ هذا المشهدِ المهيب، تطلُّ الدكتورةُ لمى مرجيّة ككاهنةٍ للذاكرةِ الجمعية، وكفنانةٍ تنسجُ من خيوطِ المأساةِ سجادةً من الأمل. إنها لا تكتفي بتوثيقِ المسرحِ الفلسطيني، بل تُعيدُ بناءَ عالمٍ كاملٍ من تحتِ الأنقاض. في كتابها "تطوّر المسرح الفلسطيني (1948-1975)"، تتحولُ إلى مؤرِّخٍ للروح، وراصدةٍ لحركةِ الوعي في ظلِّ الغياب. الكتابُ ليس مجردَ دراسةٍ أكاديمية، بل هو سردٌ ملحمي لمعركةِ الوجود، حيثُ تتحولُ خشبةُ المسرح إلى ساحةِ معركةٍ ثقافية، والرمزُ إلى خندقٍ للتحايلِ على آلةِ محوِ الهوية.
يكشفُ الحوارُ عن طبقاتٍ عميقةٍ من الدلالات:
المسرحُ كمساحةٍ للمقاومة الوجودية: حيثُ يتحولُ الفنُ من ترفٍ إلى ضرورة، ومن تسليةٍ إلى وسيلةٍ للبقاء. فالمسرحُ الفلسطيني لم يكن يعكسُ الواقعَ فحسب، بل كان يصنعُ واقعًا بديلاً، ويخلقُ حيزًا للحريةِ في قلبِ القيد.
الذاكرةُ كفعلٍ ثوري: فما تقومُ به الدكتورةُ لمى هو فعلُ مقاومةٍ بالذاكرة، حيثُ تنتشلُ تراثًا مسرحيًا كاد يضيعُ في متاهاتِ النكبةِ والتشتت. إنها تُعيدُ بناءَ سرديةٍ فلسطينيةٍ من خلالِ توثيقِ 320 مسرحية، كاشفةً كيفَ حوّلَ الفلسطينيون فقدانَ الأرضِ إلى امتلاكٍ للكلمة.
الرمزُ كاستراتيجيةٍ للبقاء: فيشرحُ الحوارُ كيفَ تحولَ المسرحُ إلى فضاءٍ للغةٍ مزدوجة، حيثُ يتحدثُ بالرمزِ والإيحاءِ ليخترقَ جدارَ الرقابة. إنه مسرحُ الإيماءاتِ الخفية، والإشاراتِ المتفقِ عليها بين الممثلِ والمتفرج، كشفراتٍ سريةٍ في معركةِ الهوية.
التوارثُ المعرفي كاستمراريةٍ للحضارة: فالحوارُ يكشفُ كيفَ تنتقلُ القضيةُ والمعرفةُ كجيناتٍ ثقافيةٍ من الأبِ الباحثِ إلى الابنةِ الأكاديمية، في مشهدٍ نادرٍ يجسّدُ استمراريةَ المشروعِ الثقافي عبرَ الأجيال.
المسرحُ كمرآةٍ للتحولاتِ الكبرى: حيثُ يوثقُ الكتابُ كيفَ كان المسرحُ سجلاً حيًا لتحولاتِ الوعي الفلسطيني من مرحلةِ الصدمةِ بعد النكبة، إلى مرحلةِ التشكلِ في الخمسينيات، وصولاً إلى مرحلةِ البلورةِ في السبعينيات.
ولا يغيب عن هذا المشهد الوالد الباحث الدكتور بشارة مرجيّة، الذي مثل الجذور العميقة لهذه الشجرة المثمرة، فجاء كتابهما المشترك "مسرح الطفل" تتويجاً لحوار بين جيلين، وجسراً بين الأكاديمية والتربية، وبين الإرث والابتكار.
إنَّ هذا الحوارَ مع الدكتورةِ لمى مرجيّة هو أكثرُ من حديثٍ عن كتاب، إنه رحلةٌ في جغرافيا الروحِ الفلسطينية، ورصدٌ لتحولاتِ الوعي الجمعي عبرَ فنّ المسرح. إنه يشهدُ أن الأمةَ التي تُبدعُ تحتَ الاحتلال، وتخلقُ جمالاً تحتَ القمع، وتصنعُ مسرحًا تحتَ الدمار، هي أمةٌ لا يمكنُ أن تموت، لأنها تمتلكُ سرَّ الخلودِ في الفنِ والكلمة.
هكذا، يظل هذا الحوار نبعاً من إصرار العقل الفلسطيني على الانتصار بالثقافة، وتذكيراً بأن الأمة التي تخلق فنها من ألمها.. هي أمة لا تقهر. فتحية للدكتورة لمى على ذلكَ العزمَ الأكاديمي الذي حوّلَ شغفَ الطفولةِ إلى مشروعٍ ثقافي خالد، وجعلَ من البحثِ الأكاديمي قضيةً وجودية، ومن التوثيقِ العلمي رسالةً إنسانية. إنها تذكرنا أن المعركةَ الحقيقيةَ ليست معركةَ وجودٍ على أرضٍ فحسب، بل هي معركةُ وجودٍ في الذاكرةِ والتاريخِ والوعي الإنساني.
طه دخل الله عبد الرحمن
البعنه == الجليل
2/11/2025