الخميس، 6 نوفمبر 2025

** ((دُستور من خاطره)) قصة: مصطفى الحاج حسين.

 ** ((دُستور من خاطره))

قصة: مصطفى الحاج حسين.


             *-1-* 


استدعى الشَّيخ "عَوَض" حفيده "لطّوف"، وطلب أن يجتمع بهِ على انفرادٍ، وقف "لطّوف" أمام جدّه منقبضاً، فلجدّه هيبةٌ عالية. 


تمعّن الجدُّ بحفيده بدقّة، فأحسَّ "لطّوف" بالعُري أمام نظرات الكهل الثاقبة، واعتقد أنّ الجدّ سوف يحاسبه على أفعاله  

السّيئة، الّتي ذاع صيتها في كلّ مكان، لكنّه قرّر أن يُكذّب كلّ التّهم الّتي سيواجهه بها جدّه.  


قال الجدّ:

 

- أما آنَ لك أن تعقِلَ يا "لطّوف"؟  


أطرق الحفيد برهة، ثمّ همس بصوتٍ مرتعش:

 

- جدّي... كلّ ما سمعته عنّي كذبٌ وافتراء.  


رمقه المسنّ بنظرةصارمة، وصاح: 


- أنا أعرف كلّ شيء عنك يا مقصوف العُمر... فلا داعي للكذب.


تقدّم "لطّوف" خطوةً من جدّه، دمدم: 


- صدّقني يا جدّي... أنا تبتُ منذ زمنٍ عن ارتكاب المعاصي.


غابت الحدّة عن كلام المسنّ، وتحوّل صوته إلى ما يشبه الهمس:

  

- أنا أريد مصلحتك يا "لطّوف"... إنّ ساعتي اقتربت، ويجب أن تأخذ عنّي الوكالة، عليك أن لا تُضيّع هذا الجاه. كلّ الناس سيكونون تحت إمرتك، فقط تعقّل، وأطِل لحيتك، وابدأ بالتردّد على الجامع.


قال "لطّوف"، الذي أدهشه هذا القول:

 

- ولكن يا جدّي... أنا لا أصلح لها، كلّ الناس فقدوا ثقتهم بي.


قذف المسنّ سبحته من يده، وصفع "لطّوف" بنظرةٍ غاضبة:

 

- أنت لماذا لا تريد أن تفهمني؟! قلتُ لك: أطِل لحيتك، وتردّد على الجامع، وسرعان ما تعود إليك ثقة أهل البلدة، فأنتَ ابن أسياد، من اليوم عليكَ أن تجالسني كلّ يوم، حتّى تتعلّم منّي كلّ شيء.


جلس قبالة جدّه الهرِم، وهتف:

 

- جدّي... أنا أفكّر أن أعمل في التّجارة.


حَمْلَق الجدّ بحفيده، ثمّ أشاح وجهه المتجعّد، ذا اللّحية البيضاء: 


- أنت غبيّ... عملُنا يدرّ علينا ذهباً، والتّجارة قابلة للخسارة.


            *-2-*


عندما مات الشّيخ"عوض"

، كان جميع أهل بلدة "الباب"، يعرفون أن حفيده "لطّوف" هو خليفته، فقد منحه جدّه الوكالة، أمام كلّ الناس، في الجامع "الكبير"، بعد صلاة الجمعة.


          *-3-*


تماثل وجه "حليمة" للشفاء، من الحروق التي سبّبها إبريق الشاي الساخن يوم سقط فوقها، لكنّ الصّداع الهائل لم يُفارِقها، بل كان يتضاعف ويزداد كلّ يوم، و"حليمة" تشكو من الألم الفظيع، تبكي، وحين حازت على إشفاق الجميع، قالت جدّتها "الحاجّة ربّوع":

 

- علينا أن نعرضها على سيدي "لطّوف"، فهو من أولياء الله الصّالحين.


فوافق الأهل على كلام "الحاجّة"، وهكذا أمر الأب ابنه "مصطو" أن يذهب إليه، ويرجوه الحضور.


منذ اللحظة الأولى لدخول صاحب الكرامة "لطّوف"، وبعد أن رمق "حليمة" بنظرةٍ مستعجلة، أمر الجميع بالخروج من الغرفة، فتركوه مع "حليمة".


طلب منها الاقتراب منه، فامتثلت لأمره. وضع يده على جبينها، حدّق في عينيها الجزعتين، ثم حوّل يده إلى خدّها، وراح يتمتم بتراتيل مبهمة. 


عادت يده لتمسح رأسها، ثم طلب أن تخلع عنها غطاء الرأس، ففعلت.


راحت يده تمسِّد شعرها الفاحم، أخذت عيناه تشعّان، زحفت كفّه إلى عنقها، تأوّهت "حليمة" إذ ما زالت آثار الحروق تؤلمها، أخذت أصابعه تجسّ كتفيها، تصاعدت دمدماته:

 

- هل يؤلمكِ رأسكِ؟

 

هزّت "حليمة" رأسها. عاد يسأل: 


- هل ما زالت الحروق توجعكِ؟ 


كرّرت هزّ رأسها، لكنّ دموعاً حبيسة من عينيها بدأت تنسكب. 


- إذاً مرّغي خدَّيكِ بلحيتي. 


دهشت "حليمة"، تراجعت، فصاح: 


- مرّغي خدَّيكِ بلحيتي، فلحيتي مباركة. 


اقتربت الصبيّة، لصقت خدَّها بلحيته الضخمة،  

ألصق لحيته بخدّها أكثر، امتدّت يداه تحتضنانها بعنف، اشتعلت النّار داخل عينيه، دمدم: 


- هل يؤلمكِ نهداكِ؟

 

بهزّةٍ من رأسها نفت هذه المرّة.


 - هل أنتِ متأكّدة؟ 


- نعم. 


ارتفع صوته المبحوح أكثر:

 

- هل أنتِ متأكدة، أم أنّكِ لا تعرفين؟

 

همست "حليمة" والخوف قد سيطر على كامل وعيها:

 

- لا أعرف. 


امتدّت يده إلى نهدها، تكوّرت كفّه فوق النّهد،  

راحت أصابعه تهرس الحلمة، كان النّهد ليّناً، دمدم لاهثًا:

 

- افتحي أزرارك. 


تطلّعت إلى عينيه الجّمريتين. 


- قلتُ لكِ افتحي الأزرار.

 

برز الصّدر الأسمر، هرعت أصابعه المتوقّدة لترفع الحمّالتين، تأرجح النّهدان، قبضت يداه الحارتانِ الرّاعشتانِ عليهما، اندلع اللهب من عينيه، وسرت رجفة في أوصال "حليمة"، حين أبصرت وجهه يستطيل، همهم وقد اتّسعَت بُحّة صوته:


 - هل توجعكِ بطنكِ؟

 

- لا. 


رفعَ يديهِ عن النّهدين، وقال بحزم: 


- تمدّدي أمامي. 


تجرّأت "حليمة" لتهتف: 


- قلتُ لكَ بطني لا توجعني.

 

تراجعَ قليلاً، تجهّمَ وجههُ، تقلّصت لحيته وهو يصيح: 


- قلتُ لكِ تمدّدي.

 

تمدّدت كالميّتة، أسرعت يداه لتكشفا الثّوب عن بطنها: 


- لماذا ترتدينَ هذا البنطال ونحنُ في عزّ الصّيف؟! 


لم تردّ عليه، ولم ينتظر جوابًا، تابع رفع الثّوب،  

ظهرت البطّن، تسابقت أصابعه لترفع القميص الدّاخلي، يدُه تتمرّغ على البطن وتعصرها، عَلَت دمدماته:

 

- اللهمّ أرح هذه البطن من الألم، اللهمّ أرفق بهذه  

النّعومة، بهذهِ الفتنةِ والسّرّةِ، اللهمَّ مكّني من  

مساعدتها فهي عزيزة على قلبي، اطرد عنها الجّنّ والعفاريتَ والشّياطينَ والأبالسةِ أولادُ الكلبِ، اللهمّ  

أرحني، فأنتَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ.


             -4-


عندما سمحَ صاحبُ الكرامةِ لأهلِ "حليمة"  

بالدّخولِ، كان قد تربّعَ فوقَ اللبّادِ وأمسكَ بسبحتهِ.

 

سارعت "زهيدة" أمّ "حليمة" لتسأله: 


- خيرٌ يا سيدي الشّيخُ.. طمّني؟

 

ابتسم صاحبُ الكرامةِ، نظر صوب "حليمة"  

المصفرّةِ الوجهِ، دمدمَ بعد أن مسّدَ بأصابعهِ على  

لحيتهِ المشوبةِ وبالاحمرار:

 

- إن شاءَ الله خيرٌ، لا تقلقي، أريد فقط أن أبيّت لها حتى أتأكّد، لهذا أريد شيئًا من أثرها، كي أضعه تحت مخدّتي عند نومي.

  

قالت "الحاجّة ربّوع": 


- أعطهِ غطاءَ رأسِكِ يا "حليمة". 


هتفَ صاحبُ الكرامةِ بسرعةٍ:


- غطاءُ الرّأسِ لا يصلحُ يا حاجّة.

 

سألَ الأبُ باستغرابٍ: 


- لماذا لا يصلحُ يا سيدي؟! 


- لأنني أريدُ قطعةً من ثيابها تكونُ ملتصقةً بجسدها أكثر، ويجبُ أن تكونَ هذه القطعةُ نجسةً، لأنّ الجنّ والعفاريتَ والشّياطينَ والأبالسةَ، أعوذُ باللهِ من ذكرهم، لا يوجدون إلّا في الأماكنِ النّجسةِ والحقيرةِ.

  

صاحت "زهيدة" الأمُّ: 


- دستورٌ من خاطرهم، دستورٌ يا ربّ. 


تابعَ صاحبُ الكرامةِ طلاسمه: 


- أريدُ سروالَ "حليمة"، فهو أفضلُ شيءٍ  

(للاستخارة).


             -5-


قبلَ وصولِ صاحبِ الكرامةِ، طلبت "حليمة"  

من أمّها وجدّتها أن لا يتركاها معه بمفردها.

 

قالت الأمُّ: 


- صاحبُ الكرامةِ لا يقبلُ أن يتركنا معكِ.  


وأجابت الجّدة "ربوع":

 

- الجنُّ والعفاريتُ والشيّاطينَ والأبالسةُ، لا يظهرونَ لسيّدنا "لطّوف" إن بقينا معكِ. 


أرادت "حليمة" أن توضّح لهما عن أسباب مخاوفها:

 

- سيّدنا "لطّوف" له حركاتٌ مخيفةٌ.

 

صاحت الحاجّة "ربّوع":

 

- طبعاً.. هكذا هم أولياءُ اللهِ الصّالحين. 


أدركت "حليمة" أنَّ أمّها وجدّتها لا تستوعبانِ ما تقصد، لذلك عزمت على المكاشفة أكثر: 


- سيّدنا "لطّوف" ليس من أولياءِ اللهِ الصّالحين.

 

ذعرت الأمّ من هذا القول، وصاحت الجّدةُ بغضبٍ شديدٍ:

 

- اللعنة عليكِ يا قصوفة العمر، أنتِ تكفرين، قولي دستوراً من خاطره، قبل أن يفلجكِ، سيّدنا "لطّوف" ابنُ أسياد. 


اقتربت الأمّ من ابنتها وهمست:


- قولي يا ابنتي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم،  

ولا تعودي لمثل هذا الكلام، سيّدنا "لطّوف" قادر على مسخنا جميعاً.


             -6-


وصل صاحب الكرامة "لطّوف"، كان عابساً، استقبلته العائلة بقلقٍ وخوفٍ، قال الأب "الحاج كرمو":

  

- خيرٌ يا سيدي.. لقد شغلتَ بالنا؟!

 

تضاعف تجهّم وجهه، تسارعت أصابعه بتلقّف حبّات سبحته ذات المئة حبّة، نظر صوب "حليمة" المنكمشة على نفسها عند الزّاوية، وقال:

 

- "حليمة" أحرقت ابن ملك الجّنّ الأحمر يوم أسقطت براد الشّاي، وهذا ما جعل ملك الجّنّ الأحمر يقسم على الانتقام من ابنتكم "حليمة".

  

ندّت عن "حليمة" صرخة ذعر رهيبة، توجّهت إليها الأبصار بفزعٍ عظيم، كانت ترتعش، فكأنَّ خوفها قد تحوّل إلى موجة بردٍ قارسة. 


صاح صاحب الكرامة وهو يحاول النهوض:

 

- اخرجوا من الغرفة، ودعوني أعالجها.*


مصطفى الحاج حسين.

    حلب عام 1992م



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق