الاثنين، 10 أبريل 2023

دشرة قصة لـــــــ محمد بن الحاج


 قصة قصيرة

بقلم:
محمد بن الحاج
دشرة
لفظته عربة نقل البضائع من صندوقها وقد تصلبت أعضاؤه من طول السفرة.
كانت ظلال المساء تخيم على المكان ،تخترقها اقباس باهتة من نور القمر المتسللة
من خلال الغيوم.
عض بنواجده على مقبضي حقيبته المهترئة التي لم تفارق حضنه منذ انطلاق الرحلة
وكأن بجوفها أثمن ما في كنوز كسرى!
استوى واقفا يشد وسطه بكلتا يديه وقد بدت على ملامحه علامات الضنى.
أجال بصره في المكان.
كل شيء كما تركه منذ شهر تقريبا. الطريق الاسفلتية الضيقة التي تركها المستعمر
تمتد على مدى البصر مخترقة أرضا قاحلة لاحياة فيها سوى لبعض النباتات
الشوكية والزواحف.
ألقى الحقيبة على ظهره واتبع مسلكا تربا متعرجا وسط سكون مطبق يقطعه من حين
لآخر نقيق الضفادع وعواء كلاب شبقة.
تراءت له أضواء قناديل الزيت الخافتة من بعيد تشع من نوافذ بيوت الطين المنتشرة
على الربوة هنا وهناك.
لقد ظلت هذه الدشرة على حالهامنذ عقود غابرة.
استقرت بها فئة من البشر في منأى عن الحضارة،وفي صراع دائم مع قوى الطبيعة
للبقاء.
هم اهله وعشيرته ،عاش بينهم وربطته بهم علاقة متينة ويعز عليه ان يفارقهم.ولكن
عليه أن يغير حياته وحياتهم،فشد الرحال إلى العاصمة تحدوه آمال عذاب ورغبة
جامحة في بلوغ مرتبة البشر.
لما أشرف على النجع،اعترضته الكلاب مبصبصة بذيولها ،ونهقت أتان أبيه مرحبة
بعودته.
استقبلته والدته التي لم تنطق منذ ولادتها،ضمته إلى صدرها ثم أسرعت تعد له بعض
لبن الماعز وخبز الذرة.
جمع بعض الحطب واتخذ لنفسه مكانا قرب جدار بيت الطين.
أضرم النار في الحطب ثم دخل إلى الكوخ وأحضر مذياعا في حجم قبضة اليد.
عاد إلى حيث النار.
أخذ الحقيبة.
فتحها وأخرج منها عددا من البطاريات المربعة وراح يتحسس بطرف لسانه قطبي كل
واحدة منها ثم يضعها على حجر قرب النار.
لقد عثر عليها في كيس حذو حاوية القمامة لما كان تائها في المدينة،فكانت بالنسبة
إليه كنزا ثمينا.
عاد مرة أخرى الى الحقيبة وأخرج منها نسخا لشهائد تخرجه ومطالب الشغل.
قرب طرفها من لهيب النار ثم وقف رافعا يده نحو السماء فشع الضياء في تلك البقعة
النائية المنسية.وما لبثت أن استحالت تلك الاوراق إلى رماد .وبانطفائها،انطفا
بداخله آخر قبس من شعلة الامل.
عاد ألى مكانه يجلس القرفصاء،أخذ بطاريتين شدهما بخيط مطاطي إلى ظهر
المذياع.
ثبت الأسلاك في أقطابها فسمع خشخشة.
عدل الإبرة فصدح صوت المذيع الجهوري:
إذاعة الوطن الكبير،عند الاشارة تكون الساعة منتصف الليل.ومنها نقراعليكم آخر
نشراتنا الاخبارية لهذا اليوم...."
غير المحطة.
فكل أخبارهم لم تعد تهمه في شيء.
لقد وأدوا داخله كل القيم
كسروا مجاذفه وأحرقوا المركب ،وأقبروا أحلامه والأمنيات.
استقرت الإبرة عند صوتها وهي تصدح بصوتها العذب"سكن الليل وفي ثوب السكون
تختبئ الأحلام.....فتعالي..."
وضع المذياع بقربه وأسند ظهره إلى جدار الطين وسبح بخياله في بيداء لا أمل فيها
ولا حياة...احترقت الجمرات وأضحت رمادا ذرته نسمات الصباح الباردة المحملة
برائحة الشيح والصبار.
استيقظ من غفوته.
أدار إبرة المذياع حتى استقرت عند صوت المقرئ البراق.
حرك المذياع حتى انقطع الصفير ثم نهض ينفض عنه الغبار.
أجال بصره في الأرجاء.
السماء تشوبها حمرة قانية.إنها تنبئ بهطول الغيث ،وذاك ما تعلمه من جده الذي خبر
الطبيعة في تلك الربوع القاسية.
استبشر بذلك،فهطول امطار الخريف تفتح له أبواب الرزق. سيجمع الحلازين ويبيعها
على طريق العابرين.
رأى والده يخرج من بيت الطين وقد انتابته نوبة من السعال.
خطا نحوه وبادره بالتحية فمد إليه يده يصافمحه.
لم ينبس الأب ببنت شفة
رفع رأسه إلى السماء ثم غمغم
"سأجمع بعض الحطب قبل قدوم العاصفة"
اعتلى الاب صهوة اتانه وراح مبتعدا،وظل إبراهيم يتبعه بنظراته وقد انتابه شعور
بالقهر أفاض مآقيه دمعا.
كان حلمه أن يريح واليديه وينسيهما عذابات السنين.
ود لو يغدق عليهما من مرتبه كل ما حرمت نفسيهما من ملذات
ولقد سعى إلى ذلك
فقطع المسافات سيرا ليلتحق بالمدرسة
وفرطت والدته في ذخر السنين ،مصوغها الذي توارثته الاسرة على مدى الزمن
وباع والده بقرته الوحيدة
كل ذلك ليتمكن هو من مواصلة دراسته الثانوية والجامعية
ولكن ذهبت كل أحلامهم أدراج الرياح!
دخل الكوخ ثم غادره يحمل كيسا وانحدر إلى أسفل الهضبة ليصل بعد فترة
إلى الطريق الاسفلتية الضيقة وقد احتوى كيسه عددا من الحرابي.
نظر إلى السماء فألفاها تغشيها الغيوم.
لعلها تمطر بعد حين!
اتخذ لنفسه مكانا على قارعة الطريق
أخرج الحرابي من الكيس وجعلها تتمسك بعود جاف غرس طرفه في الارض وبقي
ينتظر عسى ان يسعفه الحظ بعابر يؤمن بالخرافات فيقتني ما عنده!
استوى ميزان النهار والامر على حاله،
فلا السماء امطرت، ولا اثر لعابر على الطريق.
في تلك الاثناء ،تراءى له عن بعد طابور من السيارات السوداء الفارهة.
وماهي إلا ردهة من الزمن ،حتى كان الركب أمامه.
أخرست المحركات، وفتحت الابواب،ونزل رجال في كسى سود يتقدمهم رجل قصير
القامة منتفخ البطن ابيض الشعر يشع وجهه بريقا وكان الشمس لم تلامس سحنته
يوما.
تقدم نحوه وخاطبه بلكنة أهل المدينة قائلا:
أنا رئيس حزب الوطن، ندعوك وعشيرتك للتصويت لنا في الانتخابات المقبلة،ونعدكم
بأن نجعل دشرتكم جنة.
هاله الموقف،ولم يجد ما يقول وظل يدحرج رأسه في صمت.
مد إليه أحد مساعديه حزمة من الاوراق الرفيعة حملت صورة المترشح وبرنامجه
الانتخابي وقال:
وزعها على أهل العشيرة وبلغهم تحياتنا ووعدنا بتغييرحياتكم لو انتخبتمونا .
انطلق الركب مبتعدا،وظل إبراهيم في مكانه وقد افتر ثغره عن ابتسامة وعاودته
صور مرت بذاكرته لأولئك الذين مروا من هنا على مر السنين.
شعر أبراهيم بسيارة رباعية الدفع تقف بجانبه.ترجلت منها سيدة إفرنجية في عقدها
الرابع من العمر. بادرته بالتحية باللغة الفرنسية ثم توجهت نحو الحرابي وسالته عن
ثمنها.
ابتسم ابراهيم وقال :هي لك مجانا.
ابتسمت وكررت عليه سؤالها،فكانت إجابته ذاتها وأسرع يشد كل الحرابي بخيط
واتجه صوب صندوق السيارة ليضعها هناك.
قبلت السيدة الافرنجية هديته ويبدو ان إبراهيم قد حاز في نفسها ببعض الإعجاب
فشكرته وقالت:سامر من هنا بعد غد صباحا،فهل تقبل ان تصحبني في جولة؟
انتشت نفس إبراهيم وعبر لها عن موافقته.
وابتعدت السيارة ،وظل إبراهيم سابحا في احلامه الوردية .فراى نفسه يقود سيارة
طويلة يشع بريقها ،يجوب بها شوارع باريس وبقربه فاتنة شقراء...
ولم يستفق إلا عندما اشتم رائحة اتان ابيه وشعر بها وهي تقرب انفها منه وتدعوه
للنهوض...فالعاصفة على اهبة الانفجار...
محمد بن الحاج
تونس
محمد بن الحاج

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق