قراءة-متعجلة-في قصيدة مذهلة للشاعر التونسي الكبير جلال باباي (من يكتبني ..الآن..؟)
على التخوم الفاصلة بين البسمة والدمعة،ألقى الشاعر التونسي القدير جلال باباي بذور تفاعله الوجداني مع-جزء-من تجاربه الحياتية المفعمة بالوَد،العشق،الوَجَع،الغربة والإغتراب..،وسقاها بعاطفة الأديب الملهَم،وعزف بقيثارة الشعر الشجية على تلك الضفاف،فكان موعد الحصاد سخيا لنقطف ثمرات ذلك الحصاد من خلال قصيدته الشعرية الموسومة بالمطبوع (من يكتبني اليوم ؟)
فالقارئ في هذه القصيدة المعطاء،وإن يبدأ رحلته بأبيات فياضة بالألم والحزن والتوجع وكذا الحنين التي برع فيها شاعرنا الفذ في فرض الخطاب التواصلي بين الشاعر والقارئ،من خلال التعبير عن العاطفة والدّقة في اختيار الألفاظ والصور الشعرية والبلاغية والدلالات اللفظية، فالشاعر الحق يدرك أبعاد الكلمة وسحرها،وهو إذ يتخيّرها يسكب عليها من وجدانه وعاطفته وذاته،ما يولّد فيها طاقة جديدة،فيها شيء من إحساسه ونبضه،فتصل إلى القارئ تضج بالحياة، وكأنها تتحدّث بلسانه وفكره..
وهذا ما كان حاضرا في هذه القصيدة الباضخة.فما أن يبدأ القارئ بها حتى لا يملك في نفسه إلا متابعة الرحلة في حنايا -سطورها-وسبر غورها واكتشاف دررها.
فالقصيدة يعتصرها الألم والحرقة والتوجّع،ذلك الألم الممزوج بأصدق عاطفة قد يختبرها الإنسان في حياته.وجع مستوطن-قسر الإرادة-في تضاعيف الرّوح،فنجد القاريء يستشعر تلك العاطفة النقية الصادقة الفيّاضة بالشوق والحنين والتأوّه والحزن،فالشاعر شيـّد مدينة للحزن يرقد ويصحو في أرجائها مذ -نالت منه المواجع في نخاع العظم-(اللهم رب الناس أذهب عن-شاعرنا الفذ-الباس اشفه وأنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما) ونقش في رقّ الزمان وجعه بيراع الحزن :
.. يا لجمال الصورة والتعبير :
من يكتبني اليوم ؟
إليٌَ قبل أن يغمرني الفرح
سوف يحين الوقت
لأحيي سعادة الوصول إلى باب الغريب
سوف أعشق للمرة الالف
لأني فاشل في الحب دائما
سأعيد قلبي لذاك الغريب
الذي اتعبه الترحال
سوف انزل رسائل الحب من فوق رفٌ الكتب ،
سأقشٌر جميع الصور من المرآة ،
واخفي نهائيا تلك الملاحظات البائسة ،
فمن يكتبني اليوم؟
من يرغب في تحرير موتي؟
من يرسل بريد النوم هذا الصباح؟
هذا فمي أثقله اليباس
وتلك الشجرة لم تكترث بشحٌ السماء
فمن يغازل قحط الأرض ؟
من يعزل إلى الأبد هذه الشمس الحارقة ؟
بكلٌ ضراوته سيحين الوقت،
حتى تهبٌ رائحةُ الغيمة الماطرة
واروي عطش شِمالي المتكلٌسة
سيحلٌ منتصفَ النهار الغامض
وتتهالك الاحزان على جدران
القصيدة العجيبة.
جلال باباي
ويستمرّ القارئ بالانتقال من ضفة لأخرى،يتنشق عبق القصيدة وأريجها،دون كلل أو ملل، وذلك لتنوّع معانيها وأغراضها،وتنوّع موسيقاها وقوافيها،وصدق عواطفها دون صنعة أو تكلف،من خلال نسيج محكم يحوّل الفكرة من خطرات في الذهن الى عالم يدرك حدوده ومعالمه عبر دلالات لفظية واضحة المعنى،جزلة التركيب،يتوافر فيها الإيقاع الداخليّ متمثّلا بالحركة الداخلية في بناء القصيدة،والإيقاع الخارجي متمثّلا بالوزن والقافية،فتتلقفه الأذن وتترنّم النفس مع نغماته .
وبين هذا وذاك،نجد بعض الومضات الشعرية الجميلة المفعمة بالموسيقى والتراكيب اللغوية العذبة،ورغم قصرها إلا أنها تتمتع بكثافة المعنى ورصانة الأداء،وهذا إن دلّ فإنما يدل على براعة الشاعر في إجادة هذا الفن الادبيّ،والقدرة على إعطاء المعنى المراد بأبيات قليلة موزونة،فكانت بمثابة السكريات اللذيذة بين تلك الوجبات الدسمة من القصائد .
إن الشعرية، هنا-في هذه القصيدة بالأساس، ليست فقط شعرية التركيب والإسناد في رسم الدلالات والرؤى، إنما نحن أمام شعرية يانعة، تشبه الرفيف، أو النسيم الرقيق عندما يلامس أرواحنا، فهذا التساؤل الشاعري يفتح الباب على أشده لنعيش اللحظة الشعرية مجسدة في كلمات مبهرة في ملمسها وصداها الجمالي:
فمن يكتبني اليوم/من يرغب في تحرير موتي؟/من يرسل بريد النوم هذا الصباح؟..
وهذه الشعرية لا يستطيعها بهذه الهدهدة والتناغم، إلا شاعر جمالي يمتلك الرؤية العميقة بكل تحولاتها .وهذا ما عبّر عنه بهذه الصورة المترفة التي تفيض بشعريتها:
"سوف انزل رسائل الحب من فوق رفٌ الكتب/سأقشٌر جميع الصور من المرآة /واخفي نهائيا تلك الملاحظات البائسة .."
ثم إحداث هزة جمالية في المشهد الكله بتساؤله المثير : "من يعزل إلى الأبد هذه الشمس الحارقة ؟"
وهكذا يدهشنا-جلال باباي-في تنقلاته الشعرية الخلابة، من قيمة فنية إلى أخرى، مؤكداً أنه شاعر جمالي بفكر جمالي وحساسية عالية في توليف الكلمات والجمل والصور، التي تلتقط اللحظات الرومانسية وتعيد تشكيلها بكل حيوية واتقاد .
يلحظ القارئ هنا اغتراب الشاعر في لغته الشعرية وإحساسه المتوتر بالعالم المحيط ليخلق معادلته الانزياحية الصادمة (فلماذا تتهالك الأحزان على جدران قصيدته؟
وهكذا-أيضا- يثيرنا -جلال-بلغته التي تفيض على القارئ بحساسيتها العالية وطاقتها الخلاقة، وكأنه يعبر عن أساه عبر لغة انزياحية جمالية حافلة بالذكرى والحنين تارة واسترجاع اللحظات الماضية تارة أخرى.
على سبيل الخاتمة:
قد لا أجانب الصواب إذا قلت أن الشاعر الكبير جلال باباي يسوق لنا قصائده -التي اطلعت على الكثير منها-،في بوح فطري،نابع من تجارب حياتية وخواطر وأفكار ذاتية،ويرصّع-ببراعة واقتدار-قصائده بعناصر مستوحاة في كثير منها من الواقع المعيش كالغربة والوجع والشوق والعشق والحنين..وغير ذلك مما يضفي على النص الحركة والحياة وإحساسا شاعريّا ساحرا،ويوظف مخزونه الثقافي والديني ويتصرف بأدوات اللغة تصرف المتمكن المُلمّ ليبرز ذلك كله في قالب شعري يخلو من الصنعة والتكلف،بأسلوب مرن،سلس وممتع يداعب الذائقة الفنية للمتلقي..
وختاما نجد أن الشّاعرالمتميز جلال باباي صاحب الكلمات الجميلة قد دخل من خلال هذه القصيدة-العذبة-الشعرية الجديدة (من يكتبني اليوم ) مرحلة أخرى من مسيرته الشعرية،مرحلة تتّسمُ بكثير من الحيرة والشكّ والتساؤل ..
مرحلة تأخذ مسارا دائريا بحيث لا يمكننا أن نعرف من أين بدأت،ولا يمكننا أن نتنبأ إلى أين ستنتهي هذه المرحلة بالشّاعر العازف على قيثارة الحيرة،بأنامل الشوق،الوجَع،الحيرة والحنين..؟!
محمد المحسن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق