نكوص... قصة قصيرة
ليلى المرّاني... من العراق
جذبت انتباهي، تأتي بين حين وحين، امرأةٌ مُسنّة لا أرى غير وجهها المتعب وقد كسته التجاعيد، وعينيها المنطفئتين، وجسد ضئيل يلتفّ كالمومياء في عباءة كالحة، تنظر إلى البيت المتواضع بحسرة، تمسح بطرف عباءتها شبّاكه اليتيم الذي يطلّ على الشارع، تلصق وجهها بزجاج النافذة كأنها تراقب شيئًا وراءه، تذرف دموعًا ساخنة ثم تتكوّر على الأرض وتضع رأسها بين ساقيها وتمضي.
ألحّ عليّ فضولي أن أسألها في آخر مرّة رأيتها فيها عن سرّ ذلك البيت المتداعي، وسرّ النافذة؛ فأوجعتني القصّة التي روتها لي، وسأحكيها كما سمعتها منها.
"كان هذا بيتنا، والآن لم يعد لنا؛ فقد باعه أولادي الثلاثة بعد وفاة والدهم، أصرّ- رحمه الله- على أن يكتب الدار باسمي؛ لكنني رفضت احترامًا له، كنا عائلة فقيرة، زوجي عامل بناء، وأنا أصنع المكانس والمهافيف من جريد النخل وأبيعها في سوق المدينة، وحين وجدت أن ذلك لا يسدّ نفقات دراسة الأولاد، أخذت أبيع الخبز، تنقلنا من بيت لآخر، وتعب أولادنا من كثرة تغيير مدارسهم؛ فصمّم زوجي على أن نقتّر على أنفسنا لحدّ الجوع كي نجمع الفلس على الفلس ونبني لنا دارًا صغيرة. استطعنا بعد سنوات طوال من الجوع والعري أن نشتري قطعة أرضٍ صغيرة في منطقة نائية عن المدينة..."
شرقت المرأة بريقها وانتابتها نوبة حادّة من السعال، أسعفتها بقليل من الماء، انتظمت أنفاسها وعادت تنظر إلى البيت.
- ماذا حدث بعد ذلك، يا خالة؟
- أين وصلت؟
- اشتريتم قطعة أرض صغيرة.
- نعم... نعم، تولّى زوجي بناء البيت وكنت أساعده، غرفتان فقط وباحة مفتوحة على حديقةٍ صغيرة، غرستها بأنواع الخضروات وثلاثة أشجار؛ فسيلة برحي أثمرت بعد عدة سنين، وشجرة نارنج أصنع العصير من ثمارها، وشجرة نبق للأولاد، فقد كانوا يعشقون النبق ويتسارعون إلى لملمته حين يتساقط، أو يرمون الشجرة بحجارتهم فيغضب والدهم ويعاقبهم. كانت أيامًا سعيدة يا ولدي رغم بؤس حالنا، حتى أننا ننام بدون عشاء معظم الليالي.
توقفتْ ثانيةً عن الحديث وانتابتها موجة سعال حادة أخرى، تساقطت دموعها مطرًا؛ فاحترمت صمتها رغم أنني كنت متلهّفًا لمعرفة ما آلت إليه حالها وحال أولادها بعد أن باعوا البيت.
سألتها كي لا ينقطع خيط ذكرياتها: لماذا تنظرين من خلال النافذة؟ تعلمين أن البيت فارغٌ.
- كي أراهم، هم ما يزالون صغارًا حين أنظر إليهم من النافذة، أراهم يلعبون، يتخاصمون، يقذفون الأشياء الصغيرة على بعضهم، أراهم وأسمع ضجيجهم، ثم أسمع همساتهم وهم يفترشون نفس الفراش، ويلتحفون نفس الغطاء ليلًا.
تمسح دموعها من جديد بطرف عباءتها وتصمت، كانت شبيهة بتمثال من الألم، يبدو أن الذكريات المريرة قد حفرت نقوشها على جدران ذاكرتها، تستطرد دون أن اسألها:
- أتعرف يا ولدي، كنت أبني آمالًا عريضة، وأدعو الله ليل نهار أن يوفّق أولادي الثلاثة وينير طريقهم، ويكونوا عونًا لوالدهم الذي أنهكه التعب والمرض؛ لكنه استمرّ يعمل في البناء، حتى جاؤوا به يومًا محمولًا في عربة خشبية وقد فارق الحياة.
لم أيأس رغم حزني العميق، أملٌ كبير يراودني بأنني سأرتاح يومًا حين يتوظّف الأولاد، أكملوا تعليمهم، الكبير أصبح معلّما، والآخر موظفّا صحيّا، والثالث وهو أصغرهم، مهندسًا. تزوّجوا وأصبحت لهم بيوتهم المستقلّة، وبقيت وحدي أجترّ الذكريات؛ حتى فاجؤوني يومًا بقرارهم: "نريد أن نبيع البيت"؛ "وأنا أين أذهب؟"؛ "ستعيشين بيننا معزّزةً مكرّمة، كلّ أسبوعين أو ثلاثة عند واحدٍ منّا"،
ولم تنفع توسلاتي ودموعي، وباعوا البيت، وعدت مهاجرةً من بيت لآخر؛ لكنني سعيدة بهم رغم قسوة حياتي وانحناء ظهري، ويبقى حنيني إلى بيتي القديم يوجعني، فقد كان تاريخًا من الآمال والآلام... الأفراح والوجع.
قلت لها: هل تعلمين يا خالة أن من اشترى البيت رجل ثريّ، قرّر أن يهدمه كذلك دكاني الذي اشتراه، ويبني عمارة ذات أربعة طوابق.
شهقتْ، ظننتُ أن روحها خرجت مع آخر نَفَس، ليتني لم أخبرها، نهضت متثاقلة: سأذهب الآن.
- إلى أين؟
- هذه المرّة عند ابنيَ الصغير، زوجته لا ترتاح لوجودي، بل أحسّ بها تكرهني؛ لكن ماذا أفعل؟
- لماذا لا تستقرّين عند واحدٍ منهم؟
- ليس لي مكان ثابت أو غرفة مستقلّة أستقرّ بها، أنام أحيانًا على (أريكة) في الصالة، وأحيانًا في المطبخ، بيوتهم صغيرة بالكاد تكفيهم.
بقيت أراقبها وهي تسير متثاقلة، انهمرت دموعي فجأةً واشتقت أن أعود إلى البيت مسرعًا، أرتمي في حضن أمي وأقبّل رأسها ويديها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق