الحماقة والكياسة
ماذا أصاب عامّة النّاس حتّى تمنعها نفوسها عن إستنباط ما هو أنفع وأصلح لها ؟ كيف لم يستطيع الإنسان كسر الحاجز المادّي والنّفسي بإتجاه السّلام الذّاتي ونزاهة النّفس والرّاحة النّفسيّة ولم يتمكّن العقل من التحقّق بقناعات تعلو على معطيات الحسّ القريب؟هل قيّدته ظروفه الماديّة والإجتماعيّة فكبّلت وعطّلت طاقاته ومواهبه وإمكانية عبوره وتجاوزه ؟
لم تسافر الإنسانيّة في غالبيتها عبر رحلتها الطويلة إلى سفر الباطن وإكتفت بسفر الظّاهر فلم يتبصّر النّاس بحقيقة وجودهم وإرتباطاتهم عن طريق الحسّ إلى ما حولهم فلم يحرّكوا البصائر إلى بصيرة رغم التقدّم التكنولوجي والعلمي الرّهيب والرفاهيّة والإزدهار المادّي الذّي لامس كل مناحي الحياة فلقد تعمّق حسّهم وماديّتهم وازداد قلقهم وحيرتهم واضطرابهم وإعاقاتهم وتعثّراتهم وإكتئابهم فلم تنزع الغشاوة عن بصيرتهم والحماقة من أذهانهم وسلوكهم .
إنّها مهزلة العقل البشري في مستوياته المتعدّدة التصوريّة الإعتقاديّة المعرفيّة والحضاريّة التّي جلبت الويلات والحروب والكوارث والميز العنصري والإستعمار المعلن والغير المعلن للشعوب المستضعفة.
كيف تفهم الحماقة التّي ترافق عموم النّاس والكياسة التّي تظهر كإستثناء لبعض صفوة البشر ؟
لماذا الجنوح والتهافت دائما إلى أحادية التفكير مع أنّ المعنى شامل ذو أبعاد والمقاربة شاملة ؟
1-الحماقة :
شعوب كثيرة وقبائل مختلفة الأعراق والأنساب والألوان عبر التاريخ هضمت حقوقها وديست كرامتها وسلبت إرادتها الحرّة فعاشت الذلّ والهوان وقد حدى ببعض البشر إلى عبادة الحجارة وقوى الطبيعة من سفاهة رأيهم خانعين خاضعين أذلاّء إستسلموا لمستعبديهم وجلاّديهم وأخرى تكبّرت وطغت وتجبّرت إستعبدت العباد إتخذتهم عبيدا وخدما ولم تقبل ولم تذعن لخطاب العقل والحقّ ولم تفتح نوافذها لنوره.
إنّها الحماقة والبلادة والغشاوة التّي تلازم البشر أغنيائهم وفقرائهم طغاتهم وبسطائهم فتنحرف بهم عن المنهج القويم والحق والعدل والصراط المستقيم ولا يسلم من ذلك إلاّ الأسوياء الأحرار أصحاب العقول الفذّة النيّرة والفطور السليمة والقلوب الطيّبة والنّفوس المتواضعة التّي تسمح بنفاذ نور الحقّ إلى بواطنها لترفع عنها غشاوتها وحماقتها .
فمن الحماقة أن يكفر الإنسان بربّه ويجحد نعمه ويطعن في قضائه وقدره وينتقد أقداره وهو الذّي أتى عليه حين من الدّهر لم يكن شيئا مذكورا وكذلك أن يلدغ من جحر واحد مرتين وأن يكون في نزاع دائم مع من حوله ويفتقد للحسّ الرّاقي والذّكاء الإجتماعي وأن يعادي صديقه ويصادق عدوّه ويستهلك ما لا ينفعه ويسعى إلى ما لا يفيده ويتكلّم فيما لا يعنيه فتراه في كلّ ناد يخطب وأن يضرّ بمصالحه ويتّبع هوى نفسه وأن يبيع السّلامة بالعطب وأن يكون ضعيف الملاحظة وأن لا يعرف عيوب نفسه ونقائصه وأن لا يسيطر على حياته فيعيش فوضويّا عدميّا وأن يعيش عبدا خادما منقادا لغيره مقلّدا متّبعا .......
الحمقى يتّخذون قرارات عاطفيّة ويتصرّفون بغباء متسرّعين ويستجيبون لغسيل الدّماغ الناعم من إيحاءات كثيرة تتسرّب من وسائل التّواصل والإتّصال من وسائل الإعلام وأحاديث الأصدقاء وتيّارات المجتمع فهم حقّا يصبحون في نفس ويمشون بغيرها وما لهم من عقل يحسّون به رزءا لذلك هم عاجزون على غسل مخّهم بأنفسهم فيتولّى المجتمع غسله نيابة عنهم .
إنّ الحماقة بذرة سيئة موجودة في تربة كيان الإنسان قد تنمو لتصبح حشائش سامّة في حديقة فكره ومعرفته وإدراكه ووجدانه بتوفّر ظروف خارجية داعمة محفّزة وداخلية ملائمة ترسّخ غشاوته وتنزع نباهته وكياسته.
بقع عمياء في دماغ الحمقى تمنعهم من رؤية الحقائق بشكل ملحوظ فيفقدون التّفكير بوضوح ليحيدوا عن الطريقة المثلى للإستجابة فيصبح حكمهم على الأمور ضبابيّا ومبهما .
فهل الحماقة التّي تصيب الإنسان لها جذورا وراثيّة متأصّلة في كيانه أو لها دواعي إنعكاسيّة شرطيّة أو الجمع بينهما ؟
علينا أن نتسآل جميعا ماذا أصاب أبو البشر آدم حتّى لا يصبر حين إبتلائه ولماذا غشيت بصيرته فلم يرى الحقيقة ولم يتّبع الحقّ فيثبت ويتحقّق عند إمتحانه ليرتقي متجاوزا عدوّه إبليس اللّعين مثبّتا شقاوته ؟
فهل ورث أبنائه غشاوة إحساسه وفساد عقله وتصرّفه تصرّف المندفع بلا رويّة حين إبتلائه ؟
إنّ الحماقة علّة أعيت من يداويها كامنة بين ظاهر البشر وباطنهم بين رسمهم ومعناهم بين قالبهم المادّي الحسيّ وقالبهم المعنوي والروحي لإنّ باطنهم ملقى مسقط في الظواهر والمظاهر وكثائف الحسّ وكدوراتها فيضيع تبعا لذلك معناهم وقيّمهم الجوهريّة فظاهرهم مستبطن خازن لما يشاهدون ويبصرون فتقيّدهم لحظاتهم ورغباتهم وشهواتهم لما يتحسّسون ويشعرون ويدركون .
إنّ السخافة والحماقة سبب لبلاء البشريّة وشقاوتها المعنويّة رغم الإزدهار والرفاهيّة الحسيّة الماديّة التي يتحسسها ويعيشها بعض المحظوظين المترفين ويحرم منها البسطاء السّاذجين ,فكلا الفئتين المتمتّعة المترفة والأخرى المحرومة المظلومة لها درجات متفاوتة من الحمق والغباء والجهل ,فالغشاوة والحماقة في علاقة تناسبيّة مع ذاتيّة الفرد وقوقعته الذاتيّة وغرباله اللاشعوري وتقبّل الأمور والمسائل وإستهلاك الواقع وتمثّله وقليل من يفلت ويهرب من كل هذا فكل له زاويته الخاصّة للنظر والرؤية والفكر والإدراك والقرار والتصرّف .
_أمّا البسطاء البؤساء المعدومين فمستواهم المنخفض وقلّة حظّهم المادّي والمعرفي والعلمي يعمّق جهلهم وسلبيتهم وحماقتهم فقد اصابهم برد الموت فهم يتكيّفون مع ظروفهم لا يقاومون ولا يتنمّرون لسلميتهم بل يصبرون ويرضون بالدّون وبأبسط الحقوق .
إنّ الحماقة والسذاجة التّي يحملونها سببا لتأخّرهم وتقهقرهم فالغشاوة التّي تغشى أبصارهم وبصيرتهم تعيق عقولهم عن التفكير الصحيح وفقه الواقع وإتخاذ الموقف الصحيح الصائب فيعجزون عن رفع تحدّياتهم وتجاوز صعوباتهم ومحنهم وأزماتهم فتراهم يجترّون المشاكل ويشتكون سوء حالهم لثبات بلادتهم فليس البؤس والفقر قدرا وجبرا محتوما عليهم لقد ساءتهم أقدارهم لسوء تقديرهم .
دوافعهم النبيلة ونواياهم الطيبّة وسلميتهم ومثاليتهم وعفويتهم وسطحيتهم وسموحيتهم أسباب مباشرة لما هم فيه من شقاء وبؤس فالحماقة التي يرتكبونها تأتي عادة من الدوافع النبيلة فيهم فالطريق إلى التعاسة معبّد بالنوايا الطيّبة .
الحماقة جاذبة للإستحمار والإستعباد والهوان والذلّ فخصالهم الإيجابيّة التّي يتمتّعون بها تصيبهم في مقتل من حيث لا يشعرون في واقع لا يقبل ولا يسمح إلاّ بعبور ومرور القويّ والشجاع المقارع ويسخر ويحتقر الضّعيف البسيط السّاذج .
هؤلاء الحمقى البسطاء تراهم في دائرة الوهم يحلّقون بأجنحة خيالهم الخصب المثالي وفي بساط سوء الفهم منبسطون قابعون ماكثون وذلك لأسباب منها الوراثي ما ورثوه من أصولهم فلقد ورثوا الفقر والأوجاع والأسقام فالطبع راسخ في ذواتهم ينتقل عبر مورّثاتهم إلى نسلهم فتتواصل المحنة والمعاناة جيل بعد جيل فلقد أدبرت الدّنيا عنهم فسلبتهم محاسن أنفسهم , وكذلك لسبب بيئي ما أعتادوا عليه من عادات وتقاليد وما إستيقنتها نفوسهم البسيطة من آراء وأفكار بشريّة اعتقدوها حقائق فتمثّلاتهم وتفكيرهم سطحي لا يتجاوز ظاهر الاشياء والأمور فيحكمون على نتائج الأحداث دون الولوج إلى بواطنها وهي عادة الدهمائيون وكما يحدّد مستواهم الثقافي والعلمي والمادي والتربيّة التّي تلقونها منذ صغرهم عقلهم الباطن ليوجّه سلوكهم لاشعوريّا إلى وادي الحمقى.
إنّ طبيعتهم البسيطة وظروفهم السيئة وتعقّد الواقع الذّي لا يجاري الضعفاء الذّين لا يمسكون بأسباب القوّة ساهم في سقوطهم وترتيبهم في أسفل السّلم الإجتماعي.
_أمّا الخبثاء الإنتهازيون الوصوليون الدهاة فهم أوفر حظّا يتمتّعون بوجودهم ينمون بإطّراد يتحينون الفرص ويقتنصونها لصالحهم متفوقين يركضون يتوثبون لتحقيق أهدافهم ومصالحهم هم في قلق وحركة مستمرة تتدفّق حرارة الحياة في شرايينهم ويعشّش الدهاء في عقولهم والخبث في نفوسهم ,هؤلاء كيّفوا واقعهم على مقاس أهدافهم يصارعون من أجل حظوظهم الدنيويّة ونيل المكاسب والمناصب والقيادة .
فالحمقى المترفين الفاسدين شأنهم شأن الحيوانات التّي تستجيب للتغيّرات في إتّجاه مصلحتها فإستجابتها تكيّفيّة وتحكمها القوانين العامّة للمصلحة .
شرذمة لئيمة معقّدة التّفكير نفعيّة غير مثاليّة تفوّقت في صراعها وتدافعها الإجتماعي مع الفئة الأخرى المحرومة المسحوقة المناقضة لها فتصدّرت المشهد أقبلت الدّنيا عليهم فأعارتهم محاسن غيرهم ,فالغنيّ منهم مكرّم وتراه يرجى ما لديه ويرهب ويبشّ بالترحيب عند قدومه ويقام عند سلامه ويقرّب .
ولكنّها طبقة وشريحة إجتماعيّة لم تسلم بدورها من الحماقة والغشاوة لغرورهم وعجبهم وظلمهم لغيرهم وهضم حقوقهم وإستهانتهم بالقدر وعدل البشر وجهلهم بقوانين التّاريخ .
المترفين المحظوظين ماديّا المتفوقين ظاهريا لا يعني أنهم أكياس وأخيار ومن صفوة العباد فظاهر الصفاء والرفاهية والسعادة لا يعني صفاء بواطنهم وعدم تكدّره ونقاء نفوسهم وصلاحها ورجاحة عقلهم وسلامته فطمعهم وجشعهم وغشاوتهم وجهلهم بمعالي الأمور وبمعاني وحقيقة وجودهم والوجود ترافقهم فعندما تبور تجارتهم ويكسد سوقهم وينزع سلطانهم ويفقدون سيادتهم وقوّتهم وسطوتهم تكشف سؤتهم وعوراتهم وتظهر عيوبهم وتفوح نتونة وعفونة رائحتهم القذرة .
2-الكياسة :
رغم الحماقة والغشاوة والضباب الكثيف عن مطالعة الحقائق وإتّباع سبيل الحقّ التّي خيّمت على أغلبيّة البشر بدرجات متفاوتة فإن هناك على مرّ الأزمنة والأحقاب التاريخيّة المتعاقبة منارات وقامات وهامات تميّزت بالكياسة والنباهة واليقظة وبجمال العقل والأدب ,أشخاص أحرار شرفاء أفلتوا من الأثر المخدّر والحياة العاديّة البشريّة فلم يتقيّدوا بالعادات الباليّة ولا بالتقليد الأعمى ولم يتّبعوا أهوائهم ولم يتعصّبوا ولم يتكبّروا ولم يظلموا غيرهم استوعبوا وفهموا واقعهم بفطنتهم نقدوا الأوضاع السيئة فهم يحملون راية التّغيير ويحلمون بغدّ أفضل قابل للتحقيق ينظرون إلى الأمور وعواقبها بتأنّ وتؤدة ويتصرفون بسرعة دون عجلة هممهم عاليّة همّهم تحققهم في الحياة وإيجاد بيئة صالحة عادلة وإصلاح أوضاع النّاس وإحقاق الحقّ ونصرة المظلومين المستضعفين .
للكيّس خصال حميدة كالنضج والعلم وفقه المنازلات والذكاء والموضوعيّة فهو الناقد البصير لا يتوانى عن قول لا يتميّز بحسن الفهم والسلوك .
فمن الكياسة أن يعبد الإنسان ربّه وأن يشكر نعمه وان ينصت ولا يتسرّع وأن يتأمّل , أن يدين نفسه ويعمل لما بعد الموت ,فالكياسة نزع الغشاوة ورفع الحماقة فهي تحفّز العقل على الإشتغال لما هو أنفع وأجدى وأصلح ترتبط بالتّجديد والإبداع والتغيير وهي خاصيّة مميّزة للأنبياء والمرسلين والصالحين والحكماء الراشدين والشّهداء فلقد عاشوا في دائرة الحقّ والحقيقة فلا أوهام ولا مخاتلات الواقع تخدعهم فلم تغريهم الدّنيا بمفاتنها وزخارفها ولم يتذلّلوا للمترفين المحظوظين دنيويّا طمعا ولا للسلاطين الحاكمين خوفا وخضوعا ,فلم يأكلوا من موائدهم ولم يكونوا عونا لهم في بلاطا يجمعهم , فهم منارات ومصابيح مضيئة في دياجي الليل الحالك بظلمات الجهل والظلم والحماقة.
3-شموليّة المعنى وأحاديّة التّفكير :
لا يمكن ان تكون الجماهير قوالب نمطيّة حسيّة حركيّة غريزيّة موجّهة تقاد إلى جبر إجتماعي ومسارات وسبل لم تختارها ولا تعي حقيقة إنعكاساتها على مصلحتها ووجودها .
فكيف ا لسبيل إلى عقلنة الوجود البشري وأنسنة حضور الإنسان فعليّا على مسرح الحياة ؟
يولد الإنسان ليعيش ويستهلك لينمو ويكبر ويهرم ثمّ يموت ليفنى وجوده الدّنيوي ويفارق فحياته فرصة لا تتكرّر وما مضى من عمره لا يعود فهو مزيج نفسي وراثي وثقافي لا يتكرّر بين فردين فأيّ شخص هو محصلة لعناصر وظروف وشروط ومؤثّرات لا تتشابه حتّى بين التوأم فهو بين الموروث والسائد وتجاربه الخاصّة وإدراكه لواقعه وتمثّله لعالمه الخارجي والدّاخلي .
فكيف يرضى أن تذوب خصوصيته في الآخرين وتضيع في الواقع مميّزاته ؟
إنّ مسؤوليّة الإنسان وأمانته ومأساته وتعاسته في وجوده وحضوره لسهولة أن ينحرف عن مسار فطرته ونسخ ما استودع من ملكات ومواهب وإمكانيات نقضا لفردانيته وإنتقاصا من حرّيته ,كلّ حسب بيئته يتلائم ويتأقلم مع محدّداتها وظروفها فكيف له أن يستخرج ما استودع فيه من طاقات وكفايات وقوابل ليحقّق حقيقة وجوده كشخص واع فاعل ويتجاوز ظاهر الأحوال إلى باطنها وإلى حقائق المعاني ؟
فمن الصعب والعسير أن يتجاوز الإنسان حماقته إلى كياسته ليمحو تأثير التربية السابقة وأشكال الوعي الإجتماعي التّي سلبته نباهته الفرديّة .
لقد جهّز الإنسان بأدوات حسيّة بصريّة سمعيّة شميّة ذوقيّة لمسيّة تمكّنه من التّواصل والإصغاء لهمسات ونبضات العالم وإشاراته وتنبيهاته , ولكن غالبيّة النّاس تتوثّب وتشقى لتحصيل القوت والمعاش ومنهم من يهرول ويركض متهافتا لنيل حظوظه وإمتيازاته وتحقيق أهدافه ولو على حساب مبادئه وعلى حساب حقوق غيره .
عامّة النّاس في عمليّة إسقاط خارجي فكرا وتوقّعات وتصوّرات وسلوكيات ناسين بذلك معانيهم وذواتهم وفرادة أحاديتهم فيذوب الفرد في الجمع ويغيب الكيف في الكمّ , فأنّ للإنسان أن يستمتع بوجوده فردا واعيّا عاقلا مفكّرا متأمّلا متدبّرا متمتّعا بحرارة الحياة عقلا وروحا وجسدا ووجدانا ؟
فلقد جفّ سحر الحياة في القلب وما ثمّ إلاّ الموت والصمت والأسى والظلام والظلم والعتمة والحجب , إذن حان الوقت للتغيير وتحويل الفهم إلى فعل , فالتغيير يتطلب إستخدام المعلومات وليس تحصيلها فقط وما على الصاحي البصير إلا أن يسلك طريقة الفعل والممارسة والتصرّف الواعي وعكس السلوكيات السلبيّة بأخرى إيجابيّة فنشاطنا الذّهني المفاهيمي والمنطقي لا يجب أن يتوقّف وأن يتعطّل ليعوّضه نشاط غريزي تستتبعه أفعال شرطيّة إنعكاسيّة حيث يدمج وينخرط ويشارك الإنسان من غير وعي ودراية ولا إختيار , فأولى بمن أدرك سوء إدراكه وسلبيّة فعله أن يتوقّف ويتّخذ مسافة الآمان من المحيط الضاغط ويكون مراقبا بفصل نفسه عن بيئته وكسر الضباب والنّظر من برج المراقبة حيث مكان فيه المنطق والإدراك والموضوعيّة والإرتقاء من الشّعور الحدسي إلى الإدراك الحقيقي اليقيني ليتحقّق معنى المعنى الذي سلب في مرحلة السبات والإنجذاب والإندماج والإنصهار والتبعيّة ولا مناص من عكس المعنى وما الثّورة إلا قلب للمفاهيم والمعاني والأحوال وتغيير زمان بزمان ومسار بمسار .
إنّ المسائل والمشاكل يجب أن ينظر إليها من خلال نظرة شاملة ثاقبة دون التشتّت في التفاصيل والإنزلاق والتقيّد بالجزئيات لأنّ القرارات الصائبة تحسم بالإلمام بشموليّة الموضوع لسلامة القرار لا البناء والإعتماد على بعض التفصيلات والتفرّعات أو الأنباء والآراء المتفرّقة المشتّتة للإنتباه فالحياة واحدة والقلب واحد والروح واحدة وإتّجاه السّير إلى الأمام من أجل المستقبل الآتي والملتفت لا يصل .
فالإبن الضال ضال حتى يعالج عقوقه وإنحرافه لا الشكوى كل مرّة من شين فعله وسلوكه والفاسد مفاسده متواصلة ظالمة لغيره حتّى ينتهي عن غيّه ويكفّ عن مفاسده لحصول الفعل المغاير وصلاح ضميره وعكس معناه وليس تمنّي وتوهّم صلاحه من عدم ومن لا يحبّك لا يحبّك ولو بذلت واجتهدت واسرفت لحصول الرضا والقبول فإنّ الذي بين القلوب بعيد فاسترح وغيّر وجهتك ولا تتعب قلبك وتهتّم وتكون مدرّبا لمن يبتزونك عاطفيّا ويتحيّلون عليك أن يستخدموك ويتصرّفون تصرفهم الإنتهازي المصلحي بالضغط على مثيرات إنفعالك الجاهزة للإستجابة فهم يقيمون روابط غريزية بين المعتقدات والمشاعر والسلوك ويستخدمونها لديمومة تفوّقهم وهذا من شأن السياسيين المصلحيين اللافظين الذين يتراقصون أمامك بوعودهم وعناوينهم وخطبهم الرنّانة إن كان لها وقعا لنيل تبعيتك وإلتزامك نحوهم بالإنقياد والخضوع والتّسليم هم يعبرون على جسر هواك ومزاجك وتصديقك لهم وأنت تغرق في بحر مناك وعجزك وسلبيتك فلقد سدّوا من حيث لا تشعر وفي غفلة منك مسارك العاطفي فلا تغيير لعالمك الدّاخلي وسدّوا مسارك السّلوكي فلا تغيير في السّلوك ولا تصرّف بطريقة أكثر فاعليّة .
هؤلاء الدهاة منهم المخاتل والموارب ينثرون ضبابا كثيفا يخفي أفعالهم وحقائقهم وأهدافهم الغير معلنة وانت تستهلك السمّ في الدّسم وتنزاح إراديّا خانعا عن حقوقك لاغيا قدراتك وكفاياتك الأساسيّة مثبّطا عزمك فأنت الأحمق الذّي لا يدري ولا يعلم أنّه لا يدري .
إنّ البيئة العربيّة الثقافيّة الفكرية والسياسيّة والمناهج التربويّة والتعليميّة ملبّدة بسحب كثيفة وغيوم وضباب حاجبة للمعاني ومعارج الإبداع فهي جاذبة للأحاسيس والعواطف والتّقليد نابذة للتفكير الحرّ والنقد والإستقلال والإنفصال والإبداع , فالإنسان العربي مخلوق إجتماعي مساير ومقلّد أكثر منه مستقلّ ومنفصل ولا يملك إرادة حرّة , إذ أن ّ هناك عديد المؤثرات والمنبهات الخارجية التي تمنعه من التفكير السليم والمحايد , كما أنّ الإبداع حالة إنفراديّة إراديّة من إختصاص قلّة قليلة من خاصّة البشر أمّا العرقلة والتثبيط فحالة تلقائيّة عفويّة تتقنها الأكثريّة فما أكثر القواطع في طريق الإبداع وإنتاج الأفكار الجميلة فما ثمّ إلاّ جاهل أو حاسد أو عاجز سادّ للطريق وللمنافذ سيء الفعل ردئ التّفكير .
كيف يفلت الإنسان العربي الحرّ من مضايق التّفكير ومغالق التصرّف ومن وهم ضبابية الوعي الجمعي للقطيع ومن همّ البيئة الضاغطة وآثارها ومن قيود المجتمع ومن لصوص الوطن ناهبين خيراته وقيمه ومعانيه ؟
من سيحمل على عاتقه إحداث ثورة في الجموع الغافلة وتحفيز إنتباههم وجذب خواطرهم وإصلاح إعوجاجهم وتسديد رميتهم وكسر النمط التقليدي وتغيير العقليات لحصول التغيير المنشود وتحقيق النقلة النوعيّة ؟
إنّ المتامّل والملاحظ لواقعنا العربي يتأكّد أنّه يحمل دلالات ومعاني السذاجة والطفولية والمراهقة الجانحة والبلادة والحماقة لسيطرة العاطفة على العقل والذاتي على الموضوعي والكلام على الصمت والتألّم على التأمّل وغلبة الحماقة على الكياسة فلكي يتم العبور إلى النضج والنباهة والرشاد والحكمة لا بدّ من استثمار خطوات المنهج التجريبي في حياتنا العمليّة من ملاحظة والتساؤل وإلقاء السؤال وطرح الفرضية وما تبعها من مراحل للتحقّق من اتخاذ قرار صائب وسلوك رشيد فالحياة تجربة وممارسة لا بد من خوضها بإقتدار .
واقعنا العربي مأساته أنّه بقي بدون ذكاء شامل وعقل كامل تجتاحه الأكاذيب والتّرهات يقوده كل أعمى بصيرة فاسد للرأي فاقد للأهليّة والكفاءة تنتهك حرمته رويبضات عليمة اللسان قليلة الحياء عديمة الضمير والأخلاق فساءت أمر العامة وتأبدّ الواقع ولكن لا يحزن الإنسان لتوالي السلب من مصادر سالبة قاطعة ولا يفرح ويغتبط ويغترّ للتكاثر والجمع من مصادر موجبة داعمة بل الأسلم الثبات على المبدأ والتصرّف بحكمة فالآني الظرفي يستهلكه الزمان وتنطفئ شعلته إذا لم يقع إستثماره وإغتنامه وإثرائه من أجل إشراقة المستقبل وفجر جديد .
الأستاذ : شكري بن محمّد السلطاني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق