الشاعر التونسي القدير جلال باباي..مأهول بالشعر وهواجسه..وطّد علاقاته بملكاته وقدراته.
(قصيدة "إمرأة من ألف عام") نموذجا..
يقف الشّعراء الحقيقيّون في طليعة المبدعين،وذلك لقدرتهم على الإبداع،الّذي يتجلى في تعلّقهم بالأحلام والحرّيّة والخيال،وخلجات النّفس والوجدان،والرّسم بالكلمات،وتشكّل الصّورةِ الشّعريّة،وسائرِ الوسائلِ الفنّيّة الأخرى،كالرمز والأسطورة والتناص والانزياح،وجماليّة المعنى والمبنى،والإيقاع الدّاخليّ،والإيقاع الخارجيّ الخ..
وذلك من خلال وسيلة اسمها اللّغة،الّتي تترجم عن الخيال وتحوِّله إلى صور محسوسة أو مسموعة أو مرئية.بها ومنها تتشكّل الصّور الشّعريّة الّتي يغذّيها خيال الشّاعر،ويمدها بالتّأمُّل والانفعال،وسعة الاطلاع والثّقافة.بمعنى أن كل فكرة يستحضرها الشّاعر قبل أن تترجم إلى مفردات لفظية،تكون صورة مثالية أو متخيَّلة في نفس الشّاعر وذهنه.
يقول الجاحظ في هذا السّياق "فإنما الشّعر صناعة وضرب من النسج، وجنس من التصوير"
من القصائد الّتي استرعت انتباهي ولطالما استوقفتني،لدرجة أنني كنت أعيد قراءتها المرّة تلو الأخرى كلما سنحت لي الفرصة بذلك،قصيدة "إمرأة من ألف عام". للشاعر التونسي القدير جلال باباي،وأما السّبب فأعزوه إلى جماليّة النص والصّور الشّعريّة منه تحديدًا،وما يكمن وراءها من احتمالات تبعث على الدهشة والمتعة والقيمة المضافة. قراءة سابرة للقصيدة،لا تدع مجالًا للشك بأن عتبة العنوان "إمرأة من ألف عام" هي المحور الأساس الّذي تدور من حوله القصيدة من البداية حتّى النّهاية.إلى ذلك،فإن العنوان يجسِّد معنيين في الوقت ذاته. المعنى الأول لغويّ أي معجمي،والثّاني تشكيلي أي تصوير شعريّ.
* تصدير:
" لا أريدُ شاعراً يُجيدُ الكتابةَ
ولا ثَرِيّاً يُجيدُ الصّرْفَ
أريدُ رجلاً يجيدُ الحُبَّ "
(أحلام مستغانمي)
امرأة من ألف عام
كنت أهيم بامرأةٍ منذ الألف عام
أحسبها قبل الرحيل
فاكهة الشعر وزبرجد الأحلام
هيِ الآن...
بعد ولادة الحزن في جسدي
ِ امرأةٌ لا تتجاوز الساعات
ِ و بعض الأيَّامْ.
هيِ امرأةٌ كانت تقطن جسدي
فانتبذت لها الرصيف بديل الهيامْ
لماذا أنتِ، يا سيدتي، باردةٌ ؟
لا يفصلني عنكِ سوى
هضبتيْ رملٍ.. وقلبي ركام
فلماذا تلامسين الخيلَ إن كنتِ تخشين صهيله في الظلام؟
أما زلتِ تناورين غضبى!
أو ِ حبيبةُ قلبي حين يهبٌ ريح الغمام!..ً
فرضا أني تصرٌفتُ ببعض الرٌعونةْ..
مثل عدد من الرٌجال
فهل ذاك يكفي لقطع حبل الغرام؟
وإقِتلاع تلك المرأة من عصاب القلب!
هي رامت عنادها وصخب الكلام
أنا الزاهد ديدني اعتناق الصيام
لم يكن هيٌنا على قصيدتي
أن أكتبها في غياب كأس المدام..ٌ.
أقتطف عنب المرأة نبيذا
وأقترف جنون عشقي فتحا في الزٌحام.
جلال باباي
أما أهمّيّة الصّورة الشّعريّة تحديدًا في هذه القصيدة العذبة،فتكمن في كونها وسيلة مهمة،يوظِّفها الشّاعر السامق جلال باباي بغية تحرير نفسه،وفك إساره مما يعانيه من واقع مؤلم مثقل بالهموم،أو ظروف مظلمة سوداويَّة تؤرِّقه.ناهيك بما يمكن أن يتغياه من تبئير للمعنى من جهة، أو نقل صورة لافتة أو رسالة هادفة لها أثرها وتأثيرها في المُتلقّي من جهة أخرى.
ختاما أقول : شاعرنا الفذ جلال باباي مأهول بالشعر وهواجسه.وطّد علاقاته بملكاته وقدراته. وتمرّس بأدوات الابداع .وصقل مهاراته فيه.مما مكنه من الموازنة باقتدار،بين الشكل والمضمون فيما يحاول قول .وهو مؤهل لان يرفع الخاص منه إلى مستوى العام.
وإذن؟
“"إمرأة من ألف عام” قصيدة ثرية،لا تغطي كامل مساحة التجربة الابداعية الممتدة للشاعر جلال باباي،ولكنها في ظل التزاحم الذي يطفو على سطح المشهد الثقافي في تونس،تفسح المجال واسعا،لمشواره الطويل لتجسيدِ حضورٍ كاملٍ وفاعلٍ في أثير الابداع .وتمتين علاقته بصناعته،بعيدا عن ثقافة التصفيق والتهليل والتكبير،وصناعة الاسماء وتلميع الحصى..
وأنا..أعي ما أقول..
محمد المحسن
1) الجاحظ: الحيوان، ج3، ص132، تحقيق وشرح عبد السّلام هارون،دار الجيل،بيروت، 1992.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق