دعائم التغيّير والتحوّل
يولد المولود على الفطرة مزوّد بملكات وقدرات وإستعدادت للتعلّم والإرتقاء .
ويتميّز بفرادة وخصوصيّة وراثيّة تظهر في سُحنته وبيولوجيته لتبرز من بعد في تفاعلاته وإنفعالاته وفي تعلّقاته وإختياراته ، فمورّثات الأجداد والآباء لها آثار عميقة ووقع لا يمكن التغاضي عنها في مسيرة وصيرورة الأبناء والأحفاد ، إذ أنّها تُوجّههم نسبيّا من حيث لا يدرون إلى مدارات جذب أو نفور سوى إعتقاديّا أو علائقيّا أو وجدانيّا .
فكيف يُعالج الإنسان المسائل والأمور ويتصرّف في حياته ؟
وما هي دعائم التغيير والتحوّل إن رام الإرتقاء والنموّ والتحوّل نحو الأفضل ؟
للإنسان جانب ظاهري مكشوف يبرز للعموم عبر عقليته وعاطفته ونفسيّته وهي مجال ودائرة وعيه التّي بها يُجاري نسق حياته ويتصرّف كوحدة نوعيّة وظيفيّة ، وكذلك له جانب خفيّ باطني دائرة لاوعيه حيث مخزن لاشعوره وعقله الباطن الكامن في كينونته من خلال رسوخ العادات وتمكّن وسائل التربيّة والتّعليم على مرّ زمانه من صياغته على شاكلته وثبات حاله ، ولمكامن الكبت والعُقد والأمراض النفسيّة التّي إنغرزت في أعماق ذاته في غفلة منه تأثير كبير وركزا في خباياه وثناياه وخصوصياته النفسيّة والمعنويّة .
وكما للخيبات والكبوات والعثرات التّي تركت ندباتها وآثارها في محطات حياة الفرد دوافع وحوافز ومثيرات داخليّة توجّه سلوكه ، فغالبا ما تطفو على السطح دون وعي الشخص وإدراكه.
لا يُمكن أن يتناول وعيّ الشّخص ذاته وتأثير بيئته ومجتمعه إلاّ بعد مخاطرته وخوضه تجربة ذاتيّة قوامها التأمّل والنّقد الذّاتي ، وذلك أملا في معالجة دائرة لاوعيه والتخلّص مما رسخ من شوائب وعوالق في غياب وعيه وتمام إدراكه ونباهته ،إذ عليه بإقتلاع البذور الرديئة والحشائش السامّة من حديقة نفسيته الباطنيّة من إنتقاص لشخصه و سلب لحظوظه وإمتهان لشخصيته في فترات زمانيّة مضت حيث وسائل تربية وتعليم وإتّصال هضمت حقّه وداست على مواهبه ودعائم إبداعه وقادته للإذعان والخضوع والخنوع.
فلا بدّ حتما من مدواة فشله وكسله بأمله وعمله ومثابرته وثقته بنفسه لكي يمحو بعزيمته وهمّته ووعيه وجُهده كلّ مكامن و دواعي ومنابت الفشل.
ولكن بأيّ عقليّة وعاطفة ونفسيّة سيرتقي ويتجاوز ؟
فقلب المُعادلة تتّم من داخل دائرة وعي الإنسان الصاحي ومن فطنته ونباهته الذاتيّة والإجتماعيّة .
إنها حقيقة منعطف تاريخي هام للتّحرير والتحرّر من كل العوائق والمعوقات والقيود والسّجون لمن رام التغيير والتحوّل والتّجاوز والإرتقاء .
1__ العقليّة :
إنّ ميزة الإنسان نيّته وأفكاره وقراراته وإختياراته وتوجهّه للفعل والتصرّف ولنشاطه الذّهني دور كبير لمعالجته المسائل والمشاكل والتحديّات والتحكّم في مسار حياته وزاوية نظره لما حوله.
العقليّة المتزّنة المنضبطة بضوابط واقعيّة عقلانيّة تتّسم بلا إفراط ولا تفريط ، لا ضرر ولا ضِرار وذلك بإتخاذ منطقة مُثلى حيث تَمثُّل الأشياء والأحداث والمرويات والمواضيع والإشكاليات والتحدّيات من منظور عقلاني نسبيّ واقعي مجرّد عن الأوهام خال من سوء الأفهام لكي يسلك الإنسان سلوكه الحسن برويّة وحكمة وليتحكّم في صيرورة حياته ويختار بين البدائل في خضمّ التغيّرات والتحوّلات .
العقليّة المتزّنة بُعْد نظر وإرتقاء وتجاوز وسعة ثقافة وأفق رحب من العلوم والمعارف والخبرات .
فلا شيء يأتي من فراغ وخواء ولا تدفّق وفيض دون إمتلاء وإشباع.
2__ العاطفة :
قوام الأحاسيس والمشاعر دعامة السّلوك والتوجّه وشُعلة الأداء والفعل.
لذلك العاطفة المتشنّجة التّي تغشاها مثاليّة واهمة لا تُجدي نفعا ، كما سلبيّة الأحاسيس وبرود العاطفة تُحيل الإنسان للموت الأسود حيث الذلّ والهوان لكلّ ذليل يصافح العار .
إنّ إتّزان العاطفة وموازنتها على معابر العقل وراجحته معيار لسلامة التّدبير وحكمة السّير والتّسيير .
3__ النفسيّة :
تُعتبر نفسيّة الفرد أحد مقوّمات شخصيته ومرآة تعكس خلجاته ونبضات شعوره ووجدانه لتعكس مزاجه وحالته العقليّة والمعنويّة وإنطباعاته وتمثلاته وأحلامه وأوهامه.
يسير الإنسان سير زمانه بنفسيّة ملازمة له حاضنة لمشاعره وعقليته فينفعل ويتفاعل بمدلولاتها ومعاييرها ورموزها ودلالاتها ويتصرّف هانئا بحاله .
فكم راض عن نفسه مُعجب بها منصاعا لأوامرها وتوجيهاتها وأحكامها وتقييماتها وشطحاتها ومرواغاتها ومخاتلاتها.
تكمن الخطورة في إلتصاق النفسيّة بالنّفس بالأنا السطحيّة التّي يعجز الإنسان عن تغييرها ومداواة عللها ومعالجة خللها وهفواتها ، إذ كيف السبيل لذلك وهو الذّات والموضوع ، المطرقة والسّندان ؟!
فلكي يكبر الإنسان وينمو ويرتقي عليه بإعادة صياغة ذاته ،ولا سبيل لتحقيق ذلك دون السّير على جراحه وآلامه وأوصابه وأوجاعه وعثراته وكبواته وفشله.
إنّ من دعائم التّغيير والتحوّل نحو الأفضل معالجة الجانب الواعي للذّات البشريّة من عقليّة وعاطفة ونفسيّة وإستحكام أمرها بالإنضباط ونُكران الذّات ،فعدم الرضا عن النّفس خلّة حميدة تسمح لصاحبها بالنّقد الذّاتي والسعي للإصلاح .
وحين تستقيم الأمور والأحوال النفسيّة تصبح الفرصة سانحة للولوج للجانب المظلم من الشخصيّة لمعالجتها والتعامل معها بحكمة ودراية .
فإنه لا تغيير ولا تحوّل دون تغيير للنّفوس.
الأستاذ : شكري بن محمد السلطاني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق