غِيَاب...
***
استيقظتُ كعادتي باكرا.. خرجت إلى حيثُ لا ضجيج.. ولا أزيز.. ولا هَرج.. ولا مَرَج.. سِرتُ ألعنُ الشقاوة والرّداءة والبَذاءة.. وأطلب النّقاوة والبهجة والسّعادة.. حتّى وجدتني في ضفّة الحلم عند سدرة الأمل الأخير أرنو إلى بلوغ ما عزّ على السّابقين واللاّحقين نَيلُه والارتواء منه..
جلستُ ساهما في ظلّ لينة فارعَة الطّول أسائل السّعف رفقا بالأيادي الممتدّة إلى الرّطب.. وأسأل الجريد لطفا بالعيون الجاحظة خوفا من وخز الأعادي.. بصّرت وتأمّلتُ كثيرا عيون الطبيعة وأهدابها الفاتنة .. فالأشجار والنوّار والهضاب والجبال والسّهول والفيافي والصّحارى.. هامدة تحت شمس أيلول الحارقة.. ترنو إلى لحظة صدق تائهة في دنيا الأوهام والأحلام..
استعضت عن كلّ ذلك بالإبحار في عالم النت أتفحص أخبار المبدعين.. فإذا بي في مدائن العهر والبجاحة والصّفاقة والتفاهة وسوء الأحوال وقلة الحياء..
فهذا يدق نواقيس العجز في نعش القصيدة..
وذاك يتعرّى أمام الملإ وتعوزه الفصاحة والبلاغة.. فيتجرّد من سلاسة اللّغة وسحر البيان.. ويسبح في بركة ماؤها آسن تعلوه الطحالب المقزّزة.. بحثا عن التميّز والاختلاف..
وآخر أصيب في مكمن التوازن فَفقد صوابه وطفق يخصف على نصّة بعضا من الحروف الحلقية وحروف الصفير كاشفا سوأته أمام جمهوره ظنّا منه أنّه يثير دهشتهم بفصيح الكلام ورفيق المعاني وغريب الصّور ليشهدوا أمام سادته أنّه مبدع يحسن النظم والنّثر..
ورابع ينفث سموم الحقد والكراهية ويثير نعرات الخلاف والشّقاق والقتل والسّحل والتخلص من كلّ من يخالفه الرّأي.. وكأنّ الله قد اصطفاه جهبذا وقائدا ونبيّا من الصالحين.. وفضّله على العالمين..
وخامس يتقيّأ خطابا متكلّسا تفوح منه روائح القلم المسعور والعقل المخمور.. رغم تشدّقه بمعاني الحريّة والموضوعيّة والديمقراطيّة والقيم الإنسانيّة.. كغطاء يستتر به أمام من سلبوه أعزّ ما يفتخر به المرء أمام أترابه وأحبابه.
وسادس تجاوز كل الخطوط الحمراء .. ونطق كفرا .
فكان كمن تغوّط في مجلسه وانتشرت نتونته بين الحاضرين فحاصروه بنظراتهم وهو يتجاهلهم ويسدر في غيّه.. وكأنّ شيْئـا لم يكن..
وسابع.. وثامن.. وعاشر..
تألّمت كثيرا لِما يحدث.. فاستعر َ لهيبي.. واضطرمَت علّتي حتّى خلتني في موقف الحشر..
ألقيت بالهاتف المحمول في غياهب التضاريس الوعرة.. ثمّ عَزمتُ على الرّحيل..
فكان الغياب..
***
منير الصّويدي
15 / 8 / 2021
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق