الاثنين، 1 ديسمبر 2025

قراءة الناقد محمد بسّام العمري في نص زبيدة للكاتبة التونسية هادية آمنة

 إلى الأستاذ الناقد

محمد بسّام العمري المحترم،


يبدو أنّ زبيدة كانت الجسر الذي هيّأ هذا اللقاء بين الكاتب والنّاقد، وكأنها الشخصية التي دفعت باب النصّ لتفتح لنا جميعاً مساحة للحوار والفهم. فهي التي خرجت من بين صفحات الرواية، لتسوق نصّها إليك، وتستدعي بصيرتك الواسعة كي تُعاد قراءتها بعمق .


لقد قدّمت زبيدة بطريقة آسرة؛ صورةٌ دقيقة، وشفّافة، وممتلئة بالأسئلة التي تجعل المتلقي يتوق لمتابعة هذه المرأة التي تبحث عن مقاسها في الحياة. وبأسلوبك الرصين، أصبح حضورها في نصّك النقدي امتداداً آخر لحضورها في روايتي التي هي البعض منها ...

هادية آمنة 


قراءة الناقد الفذّ محمد بسام العمري


النص يفتح بجرس إيقاظ داخلي، وكأن الكاتبة لا تكتفي بسرد حالة صباحية اعتيادية، بل تنصب مرايا متعددة تُخاطِبُ فيها ذاتها، ووعيها، وجسدها، وغيابها عن المعنى. يمكن مقاربته عبر عدّة مدارس نقدية، لا بوصفها فصولًا منفصلة، بل كتيار واحد تتشظّى فيه الدلالات وتلتقي في نقطة جوهرية: زبيدة تبحث عن مِقاسها في الوجود.

يميل النص في ظاهره إلى الواقعية؛ تفاصيل الحياة اليومية، حرارة الشمس، الذباب، احتكاك الجسد، الحذاء الضيّق… لكن خلف هذه الواقعية تتسلّل رؤية رمزية تجعل الحذاء نافذة وجودية، فالحذاء «ليس على مقاسي» يتحوّل إلى استعارة كونية تكثّف علاقة الأنثى بالعالم؛ هو الزوج، المجتمع، السلطة الذكورية، التقاليد، وربما القدر نفسه. في هذا المعنى يُسمع صدى نبوءة كافكا في «التحوّل»، حين يستيقظ غريغور سامسا في جسد لا يطابق ذاته، كما تستيقظ زبيدة في حياة ليست على مقاسها. كلاهما هشّ داخل قفص غير مرئي، بل إن زبيدة أكثر وضوحًا لأنها تتحدث مع نفسها بصوت مسموع، كأن الذات لا تجد من يصغي لها إلا ذاتها.

في منظور التحليل النفسي تظهر الذات وهي تقسم وحدتها إلى شخصيات عدة؛ زبيدة تخاطب «زوبة»، كنموذج للانقسام الداخلي بين الأنا والهوّ، بين الواجب والرغبة، بين الكبت والاندفاع. الجسد هنا ليس مجرد حضور بل قيمة لغوية تُنطق دون كلام، فهو يتأوّه، يستنشق، يعرق، ينكمش، وينفرج. الجسد يُعبّر قبل أن يتكلم، وهو ما يجعل النص قريبًا من أسلوب مارسيل بروست حين يقول: «إننا لا نعيش إلا في حدود ما تمنحه لنا الحواس». زبيدة تختبر العالم بأطرافها لا بعقلها، بل تجد في الألم لذّة كما في مشهد الأشواك الذي لا يؤلم قدميها بل يوقظ أنوثتها؛ كأن الألم وسيلة لاستعادة تأكيد الوجود.

هنا يتقاطع النص مع مسرح العبث عند بيكيت؛ «في انتظار غودو» لم يكن انتظارًا لشخص، بل انتظارًا لمعنى. تصحو زبيدة كل صباح دون «منبه»، لأن المنبّه الحقيقي هو الفراغ. الفراغ لا يحتاج إلى ساعة ليوقظها، بل يحتاج فقط إلى شعاع شمس يدخل من فتحة الباب. هذا الضوء يذكّر بقول بول إيلوار: «هناك دائمًا ثقب في الظلام ليمر منه الضوء». لكنه في النص ليس خلاصًا، بل شاهدًا على عبودية طويلة، كأن الشمس نفسها تُراقب مصير امرأة أسيرة في بيتها.

تعمل الكاتبة على تفكيك صورة الأنثى التقليدية دون صراخ، بل عبر نقد ناعم يمرّ من ثقب اللغة. زبيدة لا تعلن تمردها، بل تكشفه عبر التفاصيل الصغيرة: الحذاء الذي يهرب، حرارة الماء، الستارة التي لم تُغلق، أصابع الزوج النائمة مع الشمس، والتطهر قبل صلاة الصبح. هنا تتحوّل الصلاة إلى لحظة فلسفية؛ فهي لا تطلب الغفران فقط، بل تطلب حقّ التنفّس: «ألا ترى أنّ الحرّ شديد يكتم الأنفاس؟». يشبه هذا النداء مناجاة زينب في «موسم الهجرة إلى الشمال»، حين سألت ناصر: لماذا تضيق الدنيا على النساء حين تتسع للرجال؟.

في العمق، نسمع صدى المدرسة النسوية بوضوح، لا في ادّعاء المساواة، بل في كشف التناقض: زبيدة تُعذَّب لتظل نقية، تُخنَق لتصلي، تُغلق الستارة لتفتح باب الصمت، فهي مثل إديث وارتون في روايتها “بيت الفرح”، حيث تُسجن المرأة داخل حرير يلمع لكنه خانق. تحاول زبيدة أن تتحرر بالماء، بالحلم، بثرثرة الصباح، لكنها في النهاية تسأل ربّها بصوت خافت: لماذا هو يفعل ما يريد وأنا من عذاب هجره أستزيد؟

هذا السؤال يختتم النص ولا يُغلقه، لأنه أشبه بسهم يُطلق لا ليصيب أحدًا، بل ليُثبت أن القوس لم تُكسر بعد. الجسد الذي توضّأ وصلى، والذي استغفر دون سبب، يحاول أن يستعيد منطقة «الوعي الصافي»، تلك التي تحدث عنها باشلار: حين يصفو الوعي، يظل الجرح ناطقًا. زبيدة ليست مهزومة، إنها فقط تُفكّر بصوت خافت، تراقب الميلاد المحتمل لأنوثةٍ لم تجد بعدُ مقاسها الصحيح.

ذلك يجعل النص مفتوحًا على ولادة مستقبلية: فـ «يتبع…» ليست امتدادًا للحكاية، بل وعدًا للذات أن تعود لتعيد قياس العالم من جديد؛ لعلها يومًا تجد حذاءً أو حياةً على مقاسها.

محمد بسام العمري

زبيدة

بدت وكأنها مفزوعة وهي تفتح عينيها، ناظرة إلى نور الشمس الذي تسرّب ممتدًّا من فجوة الباب، مؤذنًا بوجوب موعد الاستيقاظ.

هي لا تحتاج إلى منبّه، فالشمس دليلها؛ تراها تمتدّ ثمّ تنحسر على المساحات، ترسم الظلّ أطيافًا هلاميّة، ثمّ تغيب فتبتلع معها أذيال يوم من حياتها.


تأوّهت. شبّكت ذراعيها متمطّية، ثم دفعتهما إلى الأعلى فنفر نهداها إلى الحركة ثمّ استرخيا.

اليوم هو الأحد ولا جدوى من العجلة.


تناومت تستجلب سويعات تهدرها في غفلة من الزمن، فما أفلحت. تكالب ذباب الخريف على العاري من جسدها يدغدغه، فلفّت ذيل اللحاف وضربته به، فاحمرّت بشرتها. طنّ وتطاير ثمّ عاود هبوطه وتسكّعه عليها.


أحكمت الغطاء حولها، فسال عرقها. انبطحت على بطنها ثمّ ضربت عجيزتها المكوّرة بكفّها.

– قومي يا زُوبة.


تعوّدت زبيدة الحديث مع ذاتها بصوت عالٍ: تدلّل، وتأمر، وتعاتب، وتلوم، وتنهر…


جلست على حافة السرير الحديدي ثمّ انحدرت تروم لبس شبشبها، فانزلق هاربًا منها. دفعت الفردة الأخرى في حنق، وأفردت ظهرها على الفراش فقزقز. شخصت ببصرها إلى السقف تجترع أحلام ليلتها.

تنهدت. كما في اليقظة كما في الحلم… الحذاء هارب منها.


كانت الرؤية واضحة. رأت نفسها في محلّ لبيع الأحذية. النور ساطع يكشف أدقّ التفاصيل: الألوان، الأشكال، الكعب.

كانت كلّما أُعجبت بنعل تتأمّل حسنه، وعند قياسه ينحسر على أصابعها فيؤلمها، أو يتّسع فتتركه لتجرّب غيره.

حينها خرجت من المتجر حافية يجتذبها نور القمر. مشت على الأشواك وما أحسّتها، بل أحسّت لذّة تدغدغها تتسرّب من باطن قدميها صاعدة إلى مواطن الأنوثة فيها.

عابثَ الخدر ما شاء له على صفحة جوفها الضامر، اخترق وهادها إلى صدرها فزاده نفورًا، ثمّ اعتصر شفتيها فارتوتا بعد عطش.


مسحت دمعة نزلت منها. دعت على زوجها ثمّ استغفرت ربّها.

– هو حذائي الذي ليس على مقاسي.


قامت متثاقلة تروم الاغتسال والتطهّر لأداء صلاة الصبح.

مرّت على غرفته فوجدته يغطّ في نوم عميق وقد استقرّت ألسنة الشمس على جانب من جسده تشوِيه بسياطها الحارقة.


كم من مرّة نبّهته بضرورة إسدال الستارة على فجوة الباب المفتوح ليلًا قبل نومه، لكنّه لا يفعل.

جذبت الباب في رفق وثبّتت الستارة المخطّطة، ثمّ انصرفت إلى الخرطوم تلوي عنقه على غصن شجرة التوت. أفرغت ما به من ماء ساخن في آنية حديدية ودفعت بها إلى الشمس.


رغم الحرارة، هو يحبّذ الاستحمام بالماء الدافئ.

انحنت ودخلت تحت الشجرة، فانساب شعرها الطويل الأحمر ملتصقًا بجسدها، فداعبته بزخّات باردة.


رنت إلى حمامة عطشى تغترف ما انسكب عنها من ماء، ناظرة إلى زبيدة في سكونٍ متوجّس. تحرّك رأسها، تملأ منقارها بالماء وتطير إلى غرفتها القصديرية المعلّقة، تزقّ فراخها وترويها، ثمّ تهبط إلى أرض الحوش تتهادى في خطواتها اللطيفة… لحق بها وليفها وتحاوم حولها، قبّل منقارها. تبتعد فيتابع مطاردته لها. تدسّ رأسها في طيّات ريشها، يتطوّع لدغدغتها فتستكين وتُغمض عينيها وتغمغم. ثمّ تُقبل عليه في دلال فيغترفان القبلات.


انزلقت الآنية النحاسية من يدها اللزجة بالصابون، ففزع العشيقان وطارا إلى السطح.

تبعتهما بعيونها معتذرة، ثمّ سلّت فستانها عنها لينزلق في البركة تحتها. شظفته وعصرته، ثمّ رمته على غصن لينشف.


لن يستيقظ إلا قبيل الظهيرة. واصلت لعبها بالماء عارية تحت أنظار الحمامات المشدوهة التي عاد إليها هدوؤها.

استغفرت ربّها ولا تدري لماذا. سترت جسدها بمنشفة طويلة وعكفت تمارس طقوس الوضوء تهيّؤًا لصلاتها.


لبست ثوبها الأسود الطويل الأكمام، وأحكمت غلق أزراره. لفّت رأسها ورقبتها بشال أبيض. بسطت سجادتها الزرقاء واتجهت إلى القبلة.

– الله أكبر.


اختنقت، وتدافع عرقها غزيرًا، فأحرقت ملوحته عينيها فدمعتا.

لسانها يردّد ما حفظته من آيات: الفاتحة والصمديّة، وهو ما عَلِق بذاكرتها من دروس الكتّاب.

وقلبها يسأل ربّها:


– ربّاه، لماذا لا نصلّي مثل الرجال؟ ألا ترى أنّ الحرّ شديد يكتم الأنفاس؟

ربّاه، لماذا هو يفعل ما يريد، وأنا من عذاب هجره أستزيد؟


سلّمت وخلعت شالها منكسرة أمام جبروت الزوج والأخ والعشيرة.


يتبع…

هادية آمنة – تونس



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق