الأربعاء، 17 ديسمبر 2025

على هامش الذكرى الخامسة عشرة لعيد الثورة التونسية المجيدة*. بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 على هامش الذكرى الخامسة عشرة لعيد الثورة التونسية المجيدة*

هل بإمكان الشعراء..صياغة تجليات الثورة التونسية في قصيدة شعرية ترقى إلى حجم الحدث؟


“ليس بين الدّم.. والدمع مسافة..هذه تونس التي تتحدّى..وهذا الوعي نقيض الخرافة..” (مظفر النواب.بتصرف)


يهدف الشعر إلى تنوير الشعوب وتحريض الأمم التي تناضل من أجل حريتها،وبلورة الوعي الثوري والحضاري  لدى الجماهير،فهو شكل من أشكال الوعي الاجتماعي المتميز كما له دور جمالي باعتباره قيمة فنية.

لقد كانت التجربة الأدبية أكثر معاناة وعلاقة بمأساة الوضع العربي،وأكثر وعيا بالواقع العربي, ووقائعه المتكاثرة وتناقضاته المختلفة خاصة بعد حرب الخليج الثانية..

لكن..

ثمة سؤال أبله يدور في خلدي،قد يصلح ليكون بداية،وإن كانت فجة،للملامسة المقصودة هنا : لماذا يجب على الشعراء (وأزعم أني واحد منهم) أن يكتبوا شعرا أو نثرا،عن الثورة..؟!

هو سؤال أبله كما ترون،ولكنه،ككل أبله،يلح في طلب إجابة شافية،وككل أبله لن ترضيه الإجابات المخاتلة،أو تلك المبنية على الركون إلى البدهيات والأعراف.

والوجوب المفترض عن الشعراء-أو المفروض عليهم !-هو إما نابع من ضمير الشاعر نفسه،من ضيقه بما احتشد في وجدانه من مشاعر وانفعالات صاخبة،لن تهدأ حتى يخرجها كلمات على الورق،أو أنه نابع من إحساس الشاعر بواجبه في التعبير عن مشاعر وانفعالات الآخرين ممن حرموا القدرة على الكتابة..وفي كلتا الحالتين يراد منه أن يكون اسهاما في الفعل الذي جرى على الأرض-الثورة. وكأني بالشاعر ما يزال يعتبر نفسه،ويعتبره الأخرون،صوت أمته،وضميرها الحي،الحامل لهمومها وأفراحها وآلامها،المعدّد لمناقبها،الممجّد لإنتصاراتها،الرائي لقتلاها،الشاتم لأعدائها…

وربما هو كذلك،أو كان كذلك،في جاهلية انقضت (أو هكذا حسبناها !)،قبل أن تخرج الأمور عن مجرد نزاعات قبلية بالسيف والرمح عن مرعى وكلأ،وقبل أن تتعقّد العلوم والإختصاصات،فيتولى آخرون فيما بينهم تلك المهام التي كانت منوطة بلسان الشاعر وفصاحته،وأعني بهم علماء الإجتماع وعلماء السياسة وعلماء الإقتصاد وعلماء التاريخ وعلماء الحرب وعلماء النفس وعلماء الإعلام..حتى علماء الكلام !.

لكن الناس ينتظرون من الشاعر،الشاعر وحده،أن يقول ويكتب ! وهو في داخله يحس أنها مهمته هو،دون غيره ! وكأنه راسخ في وهمه أنّ حركة التاريخ،وسيرورة الواقع،ورياح التغيير مرهونة بما سيسيل به قلمه على لوح الأقدار المكشوف،هذه المرة،لا المحفوظ ! وكأننا ما نزال ننظر إلى وجودنا نظرة شاعرية،تستبدل الحركة والفعل الناتجين عن الدرس والتحليل والرصد الموضوعي،بإنثيالات عاطفية،وتهويمات مدغدغة،وبلاغات لفظية،لا تعمل على تحويل الدم إلى حبر فحسب،بل أيضا على تحويل الشهادة إلى رمز،والألم البشري إلى مجاز،والفجائع اليومية إلى استعارات .. !

والسؤال الأبله السابق يلد أسئلة أخرى ليست أقل بلاهة:هل تعد قصائد الشعراء وكتابات الكتّاب وخطابات الخطباء مشاركة في الثورة،أم أنها ليست سوى تعويض مرض عن العجز عن المشاركة الحقيقية فيها..؟

وبسؤال مغاير أقول : هل من شأن هذه الكتابات أن تسهم في التأسيس للديموقراطية،الحرية والعدالة الاجتماعية،أم أنّ جدواها تقتصر على تحرير ضمير كاتبها من وطأة الإحساس باللا نفع، وإراحة ضمائر متلقيه من الرهق الذين يرين عليها،بسبب ما تعانيه من شلل شامل؟ !

وحين يستعمل أحدهم لغته لتصوير رمية حجر أو نظرة غضب أو مصرع شاب أو نواح أم…هل يكون في روعه أنّ صوره أصدق وأبلغ وأبعد أثرا من صورة الحقيقة التي رآها عيانا،أو عبر ما بثته أجهزة الإعلام إبان المد الثوري الخلاّق..؟ !

وهل في ظن أحدهم أنّ أولئك البسطاء الواقعيين،ولا أقول الأسطوريين،الذين ثاروا على القهر، الظلم والظلام،قرؤوا قصائده،أو فهموها،أو اتخذوا من تكاثرها وتراكمها ذخيرة لهم في مواصلة نضالهم،وهم الذين ما انتظروها حين أشعلوا الثورة التونسية الخالدة واشتعلوا بها؟ ! وإذا كانت هذه القصائد موجهة إلى بقية الشعب والجماهير والحكّام العرب وصنّاع القرار،أن"تنبهوا واستفيقوا أيها…"

فلماذا لم تصل رسالتها بعد،على الرغم من تلال القصائد المتلّلة،التي تكرّر الفحوى ذاتها دون هوادة،بالألفاظ ذاتها دون هوادة،عبر خمسة عشرة  من عمر الثورة التونسية..وأقل بقليل من عمر ما يسمى “بالربيع العربي..”؟ !

أما إذا كان يراد من هذه القصائد والكتابات أن تكون أعمالا فنية جمالية،تسعى،بأدوات دقيقة ومحترفة،إلى استلهام الحدث لتخليده،وجعله عبرة وراقة وجدانية أصيلة،تنفعل بها وتتعلّم منها الأجيال القادمة،فلعمري ألا تكفي قصيدة جيدة واحدة،أو بضع قصائد لتلبية هذا المطمح؟

أجل،إنها أسئلة بلهاء،لا أظنها ترد على خاطر كثير من الشعراء وغيرهم من ممتهني الحرف،وهم يحاولون صياغة تجليات الثورة في قصيدة شعرية ترقى إلى حجم الحدث..؟

ولعل هذه أن تكون احد شؤون الثورة التونسية وغاياتها،أن تكشف فنيا بلاهتنا،وتفضح ادعاءاتنا وأكاذيبنا على صفحة مرآة صدقها الجارحة،وتثير فينا شهية،الثورة،بدورنا،على ما تواتر واستتب حتى أصبح أعرافا وتقاليد،وتحرّك فينا ما أسن من أفكار وأساليب،علها تتنفّس هواءها الطازج..


محمد المحسن


*تنويه: قبل عام 2021،كان الاحتفال بعيد الثورة يتزامن مع يوم 14 جانفي من كل عام،وهو تاريخ سقوط نظام بن علي،غير أنه وبعد انتخاب قيس سعيد رئيسا للجمهورية جرى اعتماد تاريخ 17 ديسمبر عيدا رسميا للثورة وذلك بموجب أمر رئاسي صدر بالرائد الرسمي سنة 2021 يتعلّق بضبط أيام الأعياد الوطنية.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق