على هامش ذكرى رحيل نجيب محفوظ
حتى لا ننسى..ذلك الرجل الذي سكن الحارات.. وشرب من نهر النيل..
رحل أديب نوبل نجيب محفوظ في 30/أوت أغسطس 2006،بعد أن وضع الرواية العربية في مصاف العالمية،واستطاع أن يخلّد اسمه في سماء الأدب،ويصبح الأديب العربي الوحيد الحاصل على جائزة نوبل في الآداب،الجائزة التي لم ينلها أي كاتب عربي آخر حتى اليوم.
نال نجيب محفوظ العديد من الجوائز والتكريمات،أبرزها جائزة نوبل للآداب عام 1988. تُرجمت أعماله إلى عشرات اللغات،وتُدرّس في جامعات العالم،ولا تزال أعماله حتى اليوم كالمعدن النفيس،كلما تقادم عليها الزمن زادت قيمة،تأثيرًا وتوهجا..
ها هي الذكرى تمر كالحلم الثقيل،ذكرى رحيل ذلك الرجل الذي سكن الحارات وشرب من نهر النيل، وأخرج لنا من بين حروفه عالماً كاملاً،عالماً اسمه "مصر".
لم يكن رحيل نجيب محفوظ مجرد نبأ نقرأه في الصفحات الأخيرة من الجرائد،بل كان انطفاءً لمصباحٍ أضاء الدروب للكثيرين منّا.مصباحٌ لم يشعّ من برج عاجي،بل من مقهى علي بابا،ومن زقاق بين الحارات،ومن همسة تسمعها أذنك خلف أزيز المدينة التي أحبها فأبدعها.
كان محفوظ بحّاراً في بحر اللغة،لم يركب سفناً من خشب،بل صنع من الحروف مراكبَ تنقل القارئ من عالم إلى عالم.من حارة بين السورتين، إلى قصر بين القصور،إلى زنزانة في سجن كبير. كان يكتب بحذر الصيدلي الذي يخلط الأدوية، وبعشق النحات الذي يحرر التمثال من جوف الصخر.كل حرف عنده له وزنه،وكل جملة لها إيقاعها،وكل شخصية هي ابنة بيئتها وابنة فكرها في آن.
والعجيب في أمر هذا الرجل أنه لم يكتب ليفوز، بل كتب لأنه لا يعرف غير الكتابة طريقاً.كانت الجوائز تأتيه وهي في شوق إليه،لا هو الذي يتكالب عليها.وحين أتته نوبل،لم تكن تتويجاً لرواية أو قصة،بل كانت إقراراً من العالم بأن أدباً عربياً بهذا العمق،وبهذه الإنسانية،يستحق أن يُسمع صوته في كل أرض.
لكنّ محفوظ بقي بعد نوبل كما كان قبلها،لم يتغيّر، لم ينتفخ،لم يصبح "عظيماً" في عينيه.بقي ذلك الكاتب الذي يعرف أن الحقيقة في التفاصيل الصغيرة،في نظرة العاشق،في همسة المتآمر،في صرخة الثائر،في صمت المقهور.كان يكتب عن الكبار لكنه لا ينسى الصغار،عن الأبطال ولا يغفل عن الخونة،عن الحب والحرب معاً.
رحل الجسد،لكنّ الحروف باقية.باقية في "أولاد حارتنا" التي أشعلت ناراً لم تختفِ رمادها بعد، وفي "الثلاثية" التي تسرد زمناً لم يذهب،وفي "زقاق المدق" الذي ما زال موجوداً في كل مدينة عربية.
ذكرى الرحيل ليست لإغلاق باب،بل هي لفتح النوافذ من جديد على عالم ذلك الأديب الذي علمنا أن الأدب ليس ترفاً،بل هو ضرورة كالماء والخبز.هو السؤال الذي نوجهه لأنفسنا قبل أن نوجهه للآخرين.هو المرآة التي لا نريد أحياناً أن ننظر فيها خوفاً من أن نرى وجوهنا الحقيقية.
طوبى لمن يموت وتبقى كلماته نوراً يهدي السائرين في الدروب المظلمة.
محمد المحسن

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق