المداخلة
مداخلة السيد الشريف العوني :
لغة الوصف في الشعر الملحون
بسم الله الرحمن الرحيم
تندرج مداخلتنا تحت عنوان : لغة الوصف في الشعر الملحون بين الفصحى والعامية
قبل ذلك لو سمحتم نفتح قوسين، لنقول أن هذا النوع من الأدب يعرف في أيامنا هذه شيئا من الإغتراب، وإننا بهذه المناسبة نهيب بأهل الأدب الجامعيين لتناول هذا النوع من الأدب غاية تقريبه إلى الجماهير وتسهيل فهمه وجعله في متناول القارئ متوسط المستوى، إذ في ذلك رجوع لأصالتنا وجذورنا، وبقدر ما تتفرع الفروع إلى الحداثة، بقدر ما يجب أن تتجذّر الجذور في العمق، ولا يمكن أن يكون لنا مستقبل بدون ماضي، ولا آفاق بدون أرضية، ولذا فإننا نرى أن التجديد والإبداع والخلق لا يمكن أن نفهم صفاتها الفنّية ان لم تكن مرتبطة بميزات السلف، آخذة منها الروح والعمق والأصالة، مبتكرة لها القوالب الجديدة المتماشية مع العصر، وإلا فيتيه المُثقّف والمبدع والفنان،وتشتبك أمامه السبل ليسقط في التقليد الأعمى، ولا نسمي الأدب أدبا حتى يأخذ من خصوصيات مجتمعه وروح عصره، فاتحا الطريق تدريجيا وبدون قطيعة نحو الرؤى الجديدة والقوالب الحديثة، ولسنا نملي هنا رؤيانا للأدب، وإنما أردنا أن نركّز على ضرورة الرجوع لأدب غني طالما تجاهلناه. إذ سنتحدث عن الوصف في هذا الأدب، اسمحوا لنا أن نذكر أن أبواب هذا الأدب الشعبي لا يمكن أن تكون ولم تكن بالفعل هي نفسها أبواب الفصيح، فالمدح والوصف والرثاء إلى غير ذلك أبواب مستقلة في الفصيح، إلا أنها تختلف في الملحون، إذ لا نجد الوصف مستقلا بل يدخل ضمن أبواب أخرى، وإذا وصف الشاعر الشعبي حصانا، أو برقا، وهي التي نالت الجزء الأكبر من شعر الوصف، فليس الوصف غرضا مستقلا، بل الغرض هو الموضوع نفسه، إذا نظرنا لها من زاوية تبويب قصائد الفصحى، أي إذا اتخذنا منظار تبويب الشعر الفصيح، فوصف الحصان وهو الكوت في الشعر الشعبي، سيتجاوزه الشاعرغالبا لوصف الفارس ومغامراته وصولاته، كما يمر لوصف تجهيز الحصان من سرج ولباد وصدرية وتكفال إلى آخره، ولا ننسى سبب السفرة بالحصان، إذ أنه يصبو للإلتحاق بقبيلة حبيبته، وكثيرا ما يصف الحبيبة بإطناب، وكي لا نطيل، فلنقل أن القصيد الشعبي عامة لا يكتفي بغرض واحد، بل يمر من غرض رئيسي لأغراض ثانوية لها التصاق بالغرض الأصلي، أما إذا وصف الشاعر الطبيغة، فعادة ما يصف المطر وما بعده من نتائج المطر، كالحرث والزرع والحصاد ليصل بنا لفصل الخريف حيث تقل حركة الفلاح وتكثر الأفراح والأعراس، وكل هذا نتاج المطر فسمي الغرض "سحاب" أو " برق" ، وللذكر لا الحصر نسرد أغلب الأبواب المعروفة والمتفق عليها، وهي الكوت في وصف الحصان، البرق أو السحاب في وصف المطر والطبيعة، ويندرج فيها غرض الضحضاح، النجع في وصف حياة النجعة أو القبيلة وترحالها ونمط حياتها، العكس وهي قصائد مليئة حكما ومواعظ وتحكي تقلّب الدهر ويندرج فيها محل الشاهد، الأخضر وهو الغزل ومعاناة العاشق واشواقه ومغامراته لوصال الحبيبة، المكفر وهو عبارة عن قصائد دينية وصوفية وتشويق لزيارة الكعبة، ثم الرباط أو الأحرش وهو عبارة عن فخر وألغاز يتبارى بها الشعراء، أما المدح والهجاء والرثاء، فهي أبواب مستقلة إلا أنها لا تكاد تُذكر نسبة للزخم الكبير في باقي الأغراض، ورغم غزارة ما نُظم في مدح الرئيس بورقيبه، فشخصيا لا نبوّبه في المدح لأنه شعر تملّق ذليل أولا، وثانيا لأن بنيته الفنّية والشعرية ضعيفة، وأخيرا باب الشعر الوطني، وهذا إنتاج غزير وصادق وأغلبه قيل وتونس تنزح تحت نير الإستعمار وجزء منه نُظم في فجر الإستقلال، وقبل ما أسميه ثقافيا وأدبيا بعصر الإنحلال.
وندخل الآن موضوعنا الأصلي لمداخلتنا، وهو شعر الوصف، ومن قال وصف قال أعطى صورة بالكلمات كافية للسامع بتصوّر الموصوف في مُخيّلته، ولذا وجبت الإحاطة بالموصوف بألفاظ دقيقة شافية كافية لتصوّر الموصوف عند السامع، كي يتبيّن كل خصوصيات الموصوف وميزاته، سواء كان الموصوف جمادا، كالطبيعة والجبل والبحر والصحراء، أو السيف أو آلة موسيقى إلخ، أو من الأنعام كالخيل والإبل والضباء وكلاب الصيد إلخ أو من البشر كالفاتنات من النساء والأبطال من الفرسان، فيُشترط في الوصف أن يكون دقيقا مُتكاملا شاملا، سامحا للسامع بتصوّر الموصوف في مخيّلته واضحا كما يُصوره رسّام بريشته، ومما نلاحظ في وصف النساء أن الأغلبية المطلقة لهذه القصائد لا تهتم بالناحية الخُلُقيّة، بل قلما عثرنا على بعض أوصاف متناثرة لا تكاد تُذكر، والوصف فنيا، أو على الأقل، في الوهلة الأولى، نقصد بالوصف وصف الجمال، وقلما قصدنا وصف القبح أو البؤس، مثلما أبدع الرصافي في وصف الأرملة المرضع، بل نتوق دائما لسماع وصف شيء جميل، ولذا اعتمدنا اليوم الإستناد على قصيد غزلي مادح، فهو "ملزومة خضراء" بلغة الشعر الشعبي،
قلنا أن القصيد من نوع الملزومة، والملزومة في عجالة، ولتقريب هذا الأدب نقول أنه في موازينه، ينقسم إلى قسمين أصليين، يتفرع كل منهما إلى عدّة أقسام، القسم الأول هو القسيم، ويشبه في بنيته القصيد العربي الفصيح، وتتكون كل أبياته من صدر وعجز تتحد فيه قافية الصدور في قافية والأعجاز في قافية ثانية، أما الملزومة فما شابه الأغنية التونسية أي ما كان لها مطلع أو عنوان، يعود إليه الشاعر بعد كل بيت أوغصن أو عرف أو جريده، وبعد هذا التعريف المُبسّط، نمر إلى القصيد التي سنحلله ونرى التصاقه بالعربية الفصحى، وسنقرأ القصيد مُجملا لنكوّن عنه فكرة ثم نمر لتحليله وهذا القصيد :
آه ريت خيال هنيّه وقت إن يظهر لاج
مركب في غريق البحريّه يقطّع في لمواج
مركب في غريق المزخوم رخفوا له الريّاس يعوم
أنت غثيثك حدّر مقسوم
بسوالف وأخلاج
جبينك قمره بين نجوم صنّت تحت الداج
اجْبينك برق الخفّاق
يلعج في لمْزان وتاق الحواجب ماذا ترقاق
كويتيني بأغناج
منقار البرني شرياق
خدودك ورد أمراج
خدودك وردات الياس
في جنان عليهم عسّاس شفايف لكّيّه تسلاس
أما المضحك عاج
والريق عسل ال في كاس وفي النغمه تفراج
في النغمه تفراج وتحلى الريق عسل شهد النحله والرقبه عرجون النخله
بالذهب الوهاج
أما زنودك بالات الجّهله
يوم فتنه وأهراج
زنودك بالات حراب واصباعك بسرات رطاب
عل صدرك تفاح ال طاب
زوز توامه انتاج
الجوف خاوي ضامر يشحاب وريت حزامك راج
ريت حزامك بان يرفّع
حلقه نقش يهودي يطبع زقلولك ديّانه يسمّع
شاش ليه الفرّاج
محدّر بحجاباته مرصّع يسوى عشره نعاج
يسوى عشره نعاج كمال
وال يدفعهم فيه حلال اخواتك عرصات الجُهّال
في شامخ لبراج
وعضاها يظهر شعّال
بحموره وهّاج
بحموره وهّاج يخفّق
برق ال يلعج سيله يدفق خلخالك ديأنه ينقنق
طبال الحرّاج
مرقت بالبلغه تترشّق
تمشي باستدراج
مرقت تترشق بالفامه
فازت ع المحفل بضخامه
اللي حاز هنيّه قُدّامه
زاداته تُفراج
اتقام سعده وتقدّوا أيامه
وما عادش يحتاج
اللي حاز هنميّه يتهنّى
في حياته تمتّع بالجنّه
كي طلعت في كساوي ورنّه
حفلت بالديباج
خيال هنيه وقت ال صنّى بابور الحُجّاج
خيال هنيّه وقت ظهر لي ليوتنه ع العسكر متعلي شرق حبك في القلب سكن لي
وما حبّش يتفاج
نحس ريقي صابون مغُلي نتطعّم في احداج
نتطعم في الحنظل عاقد ناري في الكبده تتواقد سامورك في قلبي شادد
وصهدني بأوهاج
ياهنيّه نا زولك فاقد
ضاع عقلي لوّاج
ضاع معاه الغقل همل
ولا حب يولي بالكل
سمعنا في تاريخ قبل
عبله وغيده انتاج
لا يجوشي لهنيه مثل
ولا يجوها دوّاج
عبله وغيده متضادّين
لا يضدّوا هنيّه في الزين زيدعلياء بنت سلاطين
لبّاسين التاج
هنيّه فاتتهن بالزين
وخلتهم ضجّاج
خلّتهم ضجّاج كماله
علي الكيلو يرتب في أقواله بحره بالهيله يتكالى
بالموجه لهواج
صلوا عل صاحب الرساله الأنور مولى التاج.
لقد استمعنا إلى القصيد، ونأخذه الآن بيتا بيتا ونفسره ونحلله لنتبيّن معاني الكلمات التي قد تبدو لأول وهلة هجينة أو غريبة لم تألفها الأذن وسنرى معا قربها أو بعدها من لغتنا العربية الفصحى، ففي مطلع القصيد كل الكلمات مألوفة مفهومة ماعدا كلمة لاج.
لاج من لجّ أي عاند وتمادى في العناد، فهو هنا عنيد، واستعمال خيال ليس بمعنى الظل ولا بمعنى الطيف، بل بمعنى القد والقوام، فإذا قدها وجسمها وبدنها لاج وعاند ومرّ من أمامه رغم ضغوط أهلها، الذين تعوّدوا حجب الفتاة، فهنيّه تعاند وتطهر للأنظار معاندة مُتحدّية صارخة مُطالبة بحرّيتها ثائرة على الأوضاع السائدة.
في البيت الأول نجد غريق المزخوم،وفيه المركب الذي أرخى له الرياس ليعوم، وفهمنا أن المزخوم هو البحر، ولنرى الكلمة في القاموس.
المزخوم أصلها من سخم وغالبا ما تُقلب السين زايا لسهولة النطق، والسخم نجدها بمعنى الغضب والسواد، وهما صفتان دلتا على موصوف ألا وهو البحر.
أما الكلمة الموالية فهي غثيث: غثّت الشاة أي عجفت وهزلت، ولدا، غثيث أي مهزول ضعيف، والمقصود هنا بهذه الأوصاف هو الشعرالناعم الجيّد الرقيق.
وكثيرا ما دلّ العرب بوصف على موصوف، فنقول جاء الشجاع، أو صادفت الكريم، بدون أن نقول رجلا شجاعا أو رجلا كريما، ونقول اشتريت مُحجّلا، أي حصانا محجّلا، ونتغنّى فنقول سباني غصن بان، أي سباني قد مثل غصن البان، وكل صفة من هذه الصفات دلت على موصوفها، ولهذا وصف الشاعر الشعر بالغثيث والكلمة معروفة عند البدو.
بسوالف وأخلاج : خلج: تحرّك واضطرب وتمايل، وكلها صفات للشعر الناعم عندما تهزه الريح
السالف: نحن نعرف معناها وهي فصيحة وأصلها سالفة بالتأنيث وجمعه سوالف وتعني جانب العنق عند معلق القرط وكذلك خصلة الشغر المرحلة على الخد
الداج: من دجى الليل والدجة هي شدة الظلمة والداج هنا هي اسم فاعل من دجى أما البيت الثاني هه لوصف الجبين ويشبهه ببرق خفق ولعج في المزن والكلمات كلها مألوفة إذ أن لعج معناه خلج وأخلج النار أوقدها
الأمزان ج مزن وهو السحاب وخاصة ذو الماء منه
تاق: إلى الشيء، ومنها ظهر على غفلة
أغناج: الغنج هو دخان الشحم ليسودّ الوشام، وهنا يريد سواد العينين، الغنج: الدلال وملاحة العينين
شرياق: صغة مبالغة، كثير الشرق، شرق الجرح بالدم أي امتلأ، وشرقت عينيه احمرت، شرق الولد: غصّ، فهو يصف الطير بأنه ممتلئ دما أي كثير الصيد
صدقني أخي القارئ أننا لم نتخيّل في بادئ الأمر أننا في تفسير البيت الموالي سنصل لنتيجة، لكنا اندهشنا، فكلمة لُكيّة حسبناها هراء، وكم كانت دهشتنا كبيرة حين وجدنا أن لكيّة هي صفة اللك، وهو صبغ أحمرتصبغ به الجلود ويستخرج من نبتة اللك، ويتخذون منه صمغا ( للمضغ) لإعطاء حمرة للشفاه
تسلاس: السلس
أما المضحك فلا تحتاج لتفسير كالمبسم ونجلب الإنتباه لقوة الصورة في تشبيه الأسنان بالعاج وحلاوة الريق بالعسل المصفى والصوت بنغمة تُفرج الهم عن النفس، ويمر الشاعر مؤكدا أوصافه وموصوفاته فلا ينسى الرقبة والزندين، فيشبه الرقبة بعرجون نخلة، وبسره أو تمره كالذهب الوقّاد، الوهّاج، أما الزندان فيشبههما ببالات حرب المصقولة لشدة لمعانهما، أما الوهاج فيعني المتّقد
بالات من الفرنسيّة: Pelle وهي مثل الرفش لكنه رفش يُستعمل في الحرب مثل السيف
اهراج: الفتنة والقتل، وليس المعنى المتداول أي الضجيج
في هذا البيت كل الألفاظ سهلة وسنفسر منها الرطب فأرطاب ج رطب هو البسر قبل أن يصير تمرا،ونلاحظ التشإبه إذ أن البدو وخاصة أهل الجنوب يعرفون أكثر استعمال الشاعر كلمة الرطب لتناسب الشبه،
أما فعل راج فنطلقها في العامية على سكران يتمايل رأسه يروج، أما في الفصحى نقول راجت الريح أي اختلطت ولا يُدرى من أين تجيء
ضامر وشاحب نفس الشيء، بمعنى الشحوب والهزول
زقلولك، تغيرت السين زايا لسهولة النطق، الإسقالة والسقالة: ما يربطه المهندسون من اخشاب وحبال ليتوصلوا به للمحال المرتفعة
ديّانه دي أي دويه
شاش: من شوّش، الشواش أي الإختلاط والإضطراب، فالمتفرج فيه يضطرب
مرصّع: كلمة فصيحة، أي نُظمت فيه الجواهر
شامخ لبراج: البناية العالية في المرتفع، ويذكرنا هذا ببناءات المعابد
ينقنق: مدد وترجيع، والضفدع ينقنق، وكم هو شبيه بخلخالها في مشيتها.
إخواني، من منا لم يسمع الدلاّل وهو يبيع شيئا ما، وينادي "حاراج" أوذلك الوسيط في المحطة وهو ينادي "بلاصه تونس حاراج"، وقد نستغرب حين نسمع هذه الكلمة ونخالها لا تمت للعربية بصلة، ولكنها عربية مائة بالمائة وتعني كما نصّ القاموس وقوف البضاعة عند ثمن لا مزيد عليه، والطبل يدق آذانا بآخر لحظات الرحيل، ولعلها مشتقة من الحرج
تترشّق: تمشي برشاقة، حسنة القد لطيفته
استدراج: تدرّج أي تقدم شيئا فشيئا
الفامة من الفرنسية Fameux أي فخم، أو شهيرأو مشهور
أما في هذا البيت، اللي حاز هنيّه يتهنى، فنلاحظ الجناس والمبالغه
الديباج: الثوب الذي سداه ولحمته ( الطعمه ) حرير
صنى من صان نفسه أي وقى نفسه من الشر، والمقصود وقف شامخا معتدا بنفسه
أما البيت التالي فنأخذ منه هذه الألفاظ: شرق: بريقه غصّ وشرق بقلبي أي شرق بالقلب وغاص وملأه
يتفاج: من فجأ انفرج، والفجّة والفجوة الفرجة بين جبلين، والمقصود تفاجى الشي وخاصة المطر أي أعطى انفراجا
أحداج: ج حدج وهو الحنظل الفج الصلب
أنتاج: نتاج (عبله وغيده) نتاج متعادلتان
الدواج: ج الداج والصحيح الداجون وداجة من دجّ ويطلق على الخدم والحمالين لأنهم يدجّون على الأرض أي يدُبون ويسعون
متضادين: ضدّه أي نده ومساويه
ضُجّاج: ضاجّون، وضجّ : صاح وجلب لفزعه من شيء أخافه وهنا ضجت النسوة وتقلقت غيرة وحسدا
يتكالى: يتماشى ببطء وتعب، كلّ، كلاّ وكلولا، تعب
لهواج: لهوج الشيء خلّطه، لم يُحكمه ولم يُبرمه، لهوج اللحم: لم يُتم طبخه، فهوملهوج
أما الآن فنمر إلى مقارنة بعض التشابيه الوصفيّة بعدما فسّرنا الفاض القصيد المدحي، وسنتبيّنُ تطابقا تامّا في هذه الأمثلة ولن نتعمّق في ذلك، إذ أنه مجال فسيح جدا، وقد ينظر في ذلك من هو أقدر منا وأوسع دراية بالشعر الشعبي والفصيح، ولنقارن إذا هذه الصور التي أخذناها من الشعر الشعبي ومن الفصيح مع اننا لا ندعي ان هذا يذوب في ذاك ولا يمكن لأحد الأدبين أن يحتوي الآخر ولا نومن بالتطابق الكامل بل العكس هو الصحيح، أي أن الإختلاف أو أوجه الإختلاف أكثر من أوجه التطابق، ويمكن للباحث في الآداب العالمية أن يعثر على تطابق في القوالب أو المفاهيم الوصفيّة أو الجمالية أو التشبيهية مع ما عبّر عنه أدباؤنا في العربية، يجدون تطابقا في الروسية أو الإسبانية أو الإنقليزية أو الصينيّة مثلا ويجدون أنماطا متشابهة، ومن هذا الباب وهذا المفهوم نجد تطابقا لا يُستهان به بين الأدب الشعبي والفصيح العربي، إذ أنه نابع من قريحة أناس يعيشون نفس الحضارة وفي نفس الأسلوب تجمعهم العقائد والديانة والتاريخ، فيكون التصور الأدبي متأثرا كل التأثر بهذا التشابه الحياتي، فأناس يعيشون حياتهم بنفس الأسلوب تقريبا، سيكون لهم حتما نفس المفاهيم تقريبا ويبقى الفرق محدودا في ما ورثه المثقف من الدواوين المخطوطة وما ورثه الأمي الشعبي بالرواية، وكما ترون إن الموضوع يطول شرحه والتفاصيل متشعبة، لكننا أردنا بصيصا يكون مدخلا لمقاربة هذه المقتطفات التي سنوردها:
يقول المرحوم علي الكيلو في وصف جوف المرأة:
جوفك خاوي شاحب سابح عابر ف أول قراح، فشبّهه بجوف حصان فقال شاحب، أي هزيل، سابح أي حصان سريع، فقال عابر،، وفي أول قراح وأول شدته وقرح الحصان أي شق نابه وطلع،
ويقول عنترة في المعلقة: إذ لا أزال على رحالة سابح نهد تعاوره الكماة مكلم
وفي قصيد يصف فيها علي الكيلو ويلات الحرب، يقول:
القنابل تهبط م الجو غرغاز مقطع مليان
شبّه الشاعر كما نرى القنبلة في سقوطها الحر ( chute libre ) بدلو ملآن تقطع حبله فرجع إلى أسفل البئر، والبدو يعرفون بدقة خطورة عملية نزول الدلو فارغا وهو مشدود بالحبل، ففي نزوله يأخذ معه أي شيء يعترضه إذا لم نفرمله من حين لآخر، فما بالك بهبوط دلو ملآن وبدون حبل، ونفس هذه الصورة نجدها كذلك عند عنترة: يدعون عنتره والرماح كأنها أشطان (حبال) بئر في لبان ( صدر) الأدهم
وكما بيّنّا نرى دائما دلالة الوصف على الموصوف
نرى نفس تسمية الإبل بصفة اعوجاج الساقين لدى شاعرنا إذ يقول عن الحصان شارب حليب عوجة الساق (أي الناقة) مكروم لاهوش مشتاق، وعند طرفة ابن العبد:
يوم تبدي البيض (النساء الحرائر) عن أسوقها وتلف الخيل أعواج النعم
وفي وصف جميل الشعر وبريق الأسنان وطيب رائحة الفم، رأينا في القصيد الذي فسرناه: شفايف لكّيه تسلاس أما المضحك عاج والريق عسل ال في كاس وفي النغمه تفراج
وفي قسيم آخر يقول شاعرنا المرحوم علي الكيلو:
خدودها يافارس الورد كيف فتّح والشفه يافارس سلتات في ايد اجواد
انيابها يا فارس تبرور والا انضح وريقها يافارس هو والعسل اضداد
وفي قصيد آخر يقول واصفا المضحك: فضه مرحيه وشفايف حمراء لكّيه نفسك عطريه ريقك للمجروح ضميده الرقبه علجيّه ينجيها من عين حسيده
ومن هذا الكثير
ويقول عنتره في وصف الثغر:
إذ تستبيك بذي غروب (خدود) واضح عذب مقبله لذيذ المطعم
وكان فارة تاجر بقسيمة سبقت إليك عوارضها من الفم
او روضة انفا تضمن نبتها غيثَ قليل الدمن ليس بمعلم
ويقول علي الكيلو دائما في الكوت:
وقف الولد نادى على شوشانـه بالصّوت نادى لغط يا مسعــود
حين ان سمع بالحرس جاب حصانه قوي قادر صهيله دريز رعـود
والبحتري يقول مشبها صهيل الفرس: وكأن صهلته إذا استعلى بها رعد يقعقع في ازدحام غمامه
في هذه الأبيات خاصة، رأينا أن الأوصاف هي نفسها، والمقاييس تطابقت تماما
إخواني الكرام لا نريد أن نطيل وهذا مجال بحث فسيح ولو أردنا انتقاء الدواوين، لعثرنا كما بيّنا على تشابيه وأوصاف تكاد تكون هي نفسها، إلا أننا لم نبتغِ أكثر من أمثلة لذلك، وأملنا من هذا المجهود المتواضع لم يكن لا حبّا في الشعر، ولا وضع مبادئ أو مذاهب جديدة، ومن نحن حتى نقوم بذلك، وإنما أردنا أن نكون قدّمنا محاولة متواضعة نرد بها شيئا من الإعتبار لهذا الأدب الأصيل ونعيد له شيئا من مكانته وننفض عنه بعض الغبار لتظهر الحقيقة، علها تحدّ من اتهامات بعض من لا يعترف بمصداقية هذا الأدب وشرعيته، وعلنا نوفقُ في جلب بعض الأنصار الجدد أو نشجع من لا يزالون مترددين لياخذوا مواقفهم إلى جانب هذا الأدب بدون أن يخشوا على أنفسهم التهم الزائفة، فيشجعوا ويدحضوا معي تلك التهم الواهية، ويردوا. لهذا الأدب مكانته.
الشريف العوني