حدّثت الرواية فقالت
عندما أدركته بوادر اليقظة تأوّه
ـ فُقتْ ؟ الحمد للّاه
ثمّ عاد الممرّض إلى الحملقة في صوّر ممثلّات على صفحة مجلّة بيده.
ـ أنا وين ؟
ـ في السبيطار خويا
انجلى الشقّ المفتوح من عيونه المتورمة على حقيبته السوداء المستندة إلى الجدار الباهت فوق منضدة ملاصقة لسريره. بدأ جسده يستفيق لوخزات الألم التي تكاثرت فصعب عليه تحديد مصدرها .
ـ النفس التي لا تتألّم لا تستطيع التحليق في سماء الإنسانيّة
ـ آش قلت ْ خويا ؟ ربّي يخفف .... واحد آخر في بلاصتك راهو مشا فيها .
ارتفعت ضجّة في الأروقة والممرّات .دلفوا بسلالهم وقفافهم المحمّلة بأطايب الأطعمة والفواكه وانتشروا في غرف المرضى .
تحلّقوا حول سريره وشاركوه فيه بالجلوس على أطرافه.بادروه بالسؤال عن أحواله ثمّ انطلقوا يحلّلون ويعيدون أطوار الحادث كلّ حسب هواه يكيلون السُباب والدعاء على ذلك المتهوّر المتسبب في الصدام الذي أودى بحياة السائق والراكب المجاور له.
أراد أن يقول لهم أن الجاني الحقيقي هو سائق عربة النقل القتيل. تجاوز بسرعة جنونيّة في منعطف خطر. زعق على القدر في تهكّم أما كان يجب أن يكون القتيل غريمه عثمان لماذا ترك دوره للسائق الآخر وعاد أدراجه.
مدّ يده بصعوبة إلى المجلّة التي نسيها الممرض بجانبه. تصفّحها في حماسة الشغوف بحفيف الأوراق. قرأ في الحيز الصغير الذي تركته الصوّر, أخبارعن ممثلات مصريات ولبنانيات.
ـ عارم أجمل منهنّ العين تعكسُ ما تراه صادقة .الجمال فخّ نصبته الطبيعة للعقل.
تحرّك منعطفا في صعوبة على جنبه الأيمن فتزحلقت المجلّة وسقطت على الأرض أسف . أجال بصره في الغرفة المستطيلة الساكنة تحت ضوء أصفر مريض مُرتعش منبعث من مصباح كهربايّ صغير مشنوق في السقف المتآكل الطلاء , أربعة أسرّة أولها سريره, الذي بجانبه شاغر, ودّع نزيله إلى إحدى الدارين و الآخران عليهما جسدان ساكنان مغموران تحت أغطيّة رماديّة .
حرّك أصابعه طالقا مطبقا إياها على كفّه هكذا دأبها كلما رغب في الكتابة ,يريد قلما وورقة . مدّ يده في صعوبة للمحفظة المخبوءة خلف أكياس الفواكه وعلب الياغورت والطناجر الصغيرة الملفوفة في مناديل معقودة على أغطيتها في إحكام وحرص .
خانته قواه وعظامه المدشدشة فحنق. أسلم نفسه لفكره يقتات منه قبسا يُنيربه الظلمة الثقيلة الزاحفة على كلكله.
لماذا لا يجمع أشعاره في كتاب يُخلّد اسمه بعد موته ؟
لماذا لا يعيد كتابة التاريخ المبتور الذي يُدرّسه لتلاميذه ؟ فيكون سببا في موته .
أليست الكتابة هي نبض المشاعر التي امتصت أدقّ التفاصيل التي استشعرتها حواسه الخمسة ؟
الذوق, الشمّ, السمع ,اللمس والنظر . عندما يتلقى منهم دماغك المعلومات يقوم بتفسيرها وإرسالها إلى جسدك, هذا . حينها ينتصب قلمك , ممارسا الحبّ دون قيود على الصفحات البيضاء تولد الأفكار تنمو تتناسل تتكاثر فتمتدُّ أغصانك وتتعالى بعمق جذورك الراسخة في الألم .
بغرور العباقرة أسرّ إلى نفسه ,
ـ وحدك ياعبدو
أنّات ونداءات من مرافقيه في الغرفة . دخل الممرض مهرولا. أجال بصره في كلّ الأرجاء ثمّ حملق في المحفظة السوداء .
ابتسم عبدو وأشار حيث سقطت المجلّة .التقطها , لفّها تحت إبطه وهمّ بالمغادرة
ـ سي …….
ـ نجيب خويا ....إسمي نجيب .تحتاج الحاجة ؟
طلب منه أن يمدّ له المحفظة.
فتحها .أخذ منها كنجا وقلما ثمّ مدّ له رواية قائلا
ـ تنجّم تقراها إمبعد إترجعها , باهيّة برشة
أخذها متردّدا, قلّب صفحاتها .عند عجيزة منفلقة بخطّ مرسوم بقلم الرصاص توقّف يتأمل صورة امرأة ضخمة تطلّ من نافذة
ـ ما نعرفش إنفكّ الخط أمّا باش نقراها
ضحكا . ساعده على الجلوس ثم انصرف
أخذ الكنّج ورّقه فكانت كلّ صفحاته بيضاء .ألقى رقبته في دعة على المخدة مغمضا عينيه مستجلبا شيطان الشعر لكنه أبى الحضور
ـ الشيطان لا يحلو له التربّصُ إلا مُحاط بالجمال أيّ جمال هنا ؟ عندو الحق باش ما يجيش
حامت به شخوص خزنتها ذاكرة الطفولة وأخرى درّسها وضرب بالعصى من نسيّها واستهان بنحتها على جدار مُكتسباته التعليميّة والوطنيّة فكتب
يستعين الحاكم بالنخبة المُزيّفة في التسويف ,في طمس الحقائق هو في حاجة دائمة إلى رعيّة فاسدين ضعفاء, البيئة الصالحة ستقاومه وربما تُسقطه.
تبدو المغالطات منطقيّة , ماذا يهمّ الشعوب ؟
الخبز والأمان, السلطة حاسمة بيدها ناصية المعرفة وكتابة التاريخ.
هادية آمنة تونس




