هل للمكان ذاكرة ؟
ليس المكان جدراناً فقط، بل طبقة من الإشارات التي لا تُرى، تلتقطها الذاكرة كما تلتقط الأصابع نبضاً خفياً فوق جلد الزمن. فحين ندخل بيتاً ما ونشعر بانقباض مبهم، لا يكون ذلك صدفة؛ فالدماغ يقرأ ما تخفيه الزوايا: رائحة خانقة، ضوء خافت، أثر توتر قديم، صدى أصوات مرّت ثم اختفت. إشارات صغيرة، حسيّة في ظاهرها، لكنها تُحدث في الداخل موجة تشبه خوفاً قديماً. وفي المقابل، هناك أمكنة تفتح صدر الإنسان بمجرد خطوته الأولى؛ يكفي أن يتسلل ضوء دافئ من نافذة، أو تفوح رائحة خبزٍ أو وردٍ، ليزول ثقل الأيام. وهنا ينهض السؤال: هل تفاعل الذاكرة مع المكان محدود بما تدركه الحواس فقط؟ أم أن هناك منطقة أعمق، مورائية، يتجاوز فيها العقل حدود الضوء والهواء، ليُصغي إلى شيء يشبه الصمت المضمَر؟ كأن المكان يخبّئ في داخله تاريخاً من المشاعر، فنلتقطه دون أن نعي كيف. وهكذا يبقى الإنسان واقفاً بين عالمين: عالمٍ يرى فيه بعينه ما حوله، وعالمٍ آخر يلمسه بقلبه، حيث تتلامس ذبذباته مع ذبذبات المكان، فتتكوّن تلك اللحظة الغامضة التي لا نعرف لها تفسيراً واضحاً، لكننا نعرف يقيناً أننا شعرنا بها.
هادية آمنة تونس

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق