معلّم صامت
في حضرة الشّتاء، تلقي المدينة وشاحها القديم وتدخل في طقس من الخشوع، كأنّها تنصت لخطى السّماء وهي تعيد رسم وجه الأرض. يغتسل الإسفلت بماء له رائحة البدء، وتتماوج الأرصفة كأنّها تجرّب ثقل الذّاكرة حين تبلّلها الأمطار الأولى.
الأشجار، تلك الكائنات الوقورة، تهدم صمتها ورقة ورقة، وتعيد ترتيب ظلّها على الأرض، كأنّها تتدرّب على صيغ أخرى للوقوف، وعلى شكل جديد لجسد يتهيّأ للانبعاث.
الوديان تفتح أفواهها، تتلقّى سيلا يتدفّق بحنين قديم، وتطرد عن مجاريها ما خالطها من رماد الفصول، كأنّ الماء ينظّف عروقها ليذكّرها بأنّ الحركة قدر لا يتخلّى عنه النّهر مهما أثقله الجفاف.
والأرض وهي أمّ الكلّ، تهبط نبضاتها إلى وتيرة عميقة، تلتفّ حول نفسها مثل امرأة تصلّي في صمت طويل قبل أن تنهض بيتها من سبات.
وفي هذا السّكون المبلّل، يستعيد النّاس صلتهم بالعناصر الأولى: يمدّ أهل المدينة والرّيف خيوطا رقيقة بين أرواحهم، يعودون إلى موائد الأهل، وإلى بوّابات البيوت التي سدّلت عليها المواسم. كأنّ الشّتاء يناديهم بأسماء كانوا قد نسوها، فيتذكّر كلّ منهم جذوره، وينصت لصوت الأرض وهي تخبره بأنّ الرّحلة لا تستأنف دون وقفة تنقّى فيها الرّوح من شوائب الاندفاع.
الشّتاء ليس بطئا… إنّه عمق آخر للوقت.
فصل يعلّم الجسد أن يتقوقع قليلا ليحمي نوره الدّاخلي، ويعلّم القلب أن يهدأ، أن ينصت لارتجافة باهتة في صدره قبل أن يشرع في الرّكض من جديد.
حتّى الحبّ… يتخفّف من بهرجه، ينزوي في زاوية دافئة، يترك للقلوب فرصة أن تتذكّر كيف ينبض العشق حين يقرئها المطر درسه الأوّل في الرّهافة.
العصافير، سفراء الضّوء، تتوارى لا خوفا بل توقا إلى اكتمال نغمتها.
تراجع خرائط أغصانها، تعيد تنسيق أجنحتها، تجرّب لحنا خافتا لن يذاع إلّا حين ينشقّ الرّبيع عن جلده ويفتح نافذته للسّماء.
فكلّ كائن في الشّتاء يمارس طقسه الخاصّ من الإعداد: من الحشرة الصّغيرة الّتي تلمس سرير الطّين، إلى السّنبلة الّتي تحتضن بذرتها كأمّ تصغي لوليد لم يولد.
وسيمضي الشّتاء…
لكنّه قبل الرّحيل، يترك في الهواء أثرا يشبه الحكمة، وفي التّربة أثرا يشبه الوعد، وفي أرواحنا أثرا يشبه اليد الّتي وضعتها الطّبيعة على كتفنا، تطمئننا بأنّ الرّبيع ليس هديّة مجانيّة، بل ثمرة صبر شتويّ طويل.
ومتى حلّ الرّبيع، ستنهض المدينة من تحت غطاء البرد كمن استيقظ من رؤيا، وستمتدّ الطّبيعة في كامل جسدها، كأنّها تستعيد ما فقدته من ألوان ونبضات.
لكنّ الشّتاء قاعدة هادئة قامت عليها هذه القيامة الخضراء.
ها هو الشّتاء… ينزل كضوء بارد، يلمس الكائنات لمسة تشكيل، ثمّ يمضي...ليبدأ كلّ شيء آخر.
رشدي الخميري/ جندوبة / تونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق