المطر
المطر في ظاهره، ظاهرة طبيعيّة تتكرّر في فصول محدّدة من السّنة، لكنّه لدى العديد من النّاس، يكتسي حالة نفسيّة مفعمة بالأحاسيس والمشاعر الدّفينة.
وهو موعدٍ سرّيّ بين الأرض والسّماء في صورة قطرات ناعمة تطرد الغبار عن الوجوه وتتطهّر بها الأرواح.
ينزل المطر ، فتتبدّل ملامح الوجود: الأرصفة تغتسل فتكتسب بريقًا يجعلها تلمع، الأشجار تلبس حلّة خضراء بديعة كأنّها تستعدّ لحضور حفل مهيبب، والهواء يكتسب أكثر نقاء فيبعث في الكون والنّاس روحا جديدة لبدايات مختلفة لكلّ حسب غاياته وأحلامه .
أن تستمتع بالمطر، ليس فقط في مشاهدة قطراته وهي تنساب على الأرض وعلى زجاج النّوافذ، بل أيضا بتأثيره العميق في النّفوس. إذ هو مزيج من الطمأنينة والبهجة، يذكّر الإنسان بأنّ الحياة بكلّ صعوباتها تحتفظ دوما بلمسات يختلف أثرها من شخص لآخر، وتمنح القلوب فسحة من الصّفاء والأمل.
أثناء هطوله، تختلج في داخل المرء مشاعر قد يخالها غريبة أو جديدة عليه؛ فالأصوات المألوفة للمدينة تغيب، لتحلّ محلّها موسيقى السّماء، وإيقاعات متناغمة لا تحدثها آلات موسيقيّة، ولا أصوات فنّانين بل قطرات المطر الّتي ترتطم بالأرصفة أو الأشجار أو النّوافذ، وأسطح المنازل وهو مايجلب للعديد من النّاس الانشراح الدّاخلي، والرّاحة النّفسيّة، كأنّ كل قطرة تسقط تحمل رسالة تطمينيّة: لا شيء يدوم على حاله، ولا يأس مادامت الحياة متواصلة وما دامت هناك غيوم فسوف يصعّد النّاس لينفّسوا عمّا في دواخلهم. فالخصب والحياة مرتبطان بالمطر ، إذ لا ينبت الزّرع ولا تزهر الحقول إلّا بعد أن تتشبّع بهذا التّساقط العذب والعجيب.
في بعض الأحيان ترى من يتركون أنفسهم تحت المطر دون مظلّة، فتلك لذة أخرى: شعور بالتحرّر من الأعراف اليوميّة، وخروج عن المألوف وتحرّر من القيود. أي نعم قد يتبلّل هؤلاء النّاس، لكنّ أرواحهم تتخلّص من أعباء كثيرة وضغوطات جثمت على صدورهم، ويتصالحون مع ذواتهم في لحظة صدق.
فتنطّ إلى أذهانهم أفكار جديدة ويصبح المطر بوّابة للفرح إذ هو قد يأتي من الأشياء البسيطة: كوب شاي ساخن بجوار نافذة تقرع بأنغام المطر، أو في السّير البطيء في شارع هادئ تغمره رائحة التّراب المبتلّ، أو في محادثة قصيرة مع النّفس وهي تصغي إلى دقّات المطر وكأنّها رسائل علويّة.
المطر يغيّر المشهد الخارجيّ نعم، ولكنّه أيضا يوقظ فينا الطّفل الّذي طالما أحبّ الرّكض فوق البرك الصّغيرة، وصناعة القوارب الورقيّة، والإيمان بأنّ العالم مكان أجمل كلّما غسله الماء وابتسمت له السّماء بتساقطاتها.
رشدي الخميري/ جندوبة/ تونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق