اللّيل بين الرّيف والمدينة
يأتي اللّيل على الرّيف متأنّيا في مشيته، كأنّه يتحضّر للقيام بألعاب سحريّة تستدعي التّركيز. يمدّ خطواته متباعدة متناسقة، كي يتجهّز النّاس لمروره، فيغدو كلّ شيء هادئا، كأنّ الطّبيعة وسكّانها دخلوا في صلاة طويلة، أو لعلّ طلاسم السّاحر قد أدخلتهم في سبات عميق.
ثمّ تبرز النّجوم متلألئة في السّماء الصّافية، ويغمر القمر المكان بضوئه كأنّه خيمة نصبت لتحتضن سهرة من نوع خاصّ جدّا. وأثناء ذلك، تنطلق أصوات الحيوانات لتملأ الأجواء: نقيق الضّفادع من البرك، صوت البوم من أعالي الأشجار، وعواء الذّئاب وهي تتنادى لتجتمع حول فريسة ما، أو شأن يخصّها... فكأنّك أمام سمفونيّة تؤلّفها عناصر الغابة، وقائد أوركستراها هو الرّيف نفسه.
ما يزيد من حلاوة اللّيل في الرّيف نقاء الهواء، والنّسائم الّتي تمرّ بين سنابل القمح وأغصان الزّيتون والأشجار المثمرة، فتحمل روائحها عبر الأثير وتوزّعها في الفضاء.
أمّا في المدينة، فاللّيل لا يعرف السّكون. والأضواء الكهربائيّة لا تترك تقريبا مكانا للعتمة، بل تنتشر في الفضاء لتعلن عن حياة من نوع آخر لها طقوسها المختلفة عن طقوس الرّيف. ضجيج السّيّارات لا ينقطع، ويظلّ صوت النّاس حاضرا حتّى ساعات متأخّرة من اللّيل، فمنهم من هو في طريقه إلى سهرة، أو إلى عمل، أو ربّما في طريقه لامتطاء سيّارة أجرة نحو شأن معيّن.
المقاهي تمتلئ بروّادها، وأصوات الموسيقى تختلط بالضّحكات وأحاديث المارّة الّذين يلتقون بمن استفاقوا من نوم خفيف ليحلّوا محلّهم، وهكذا تتواصل الحياة، ويتّصل اللّيل بالنّهار، فلا تكاد تفرّق بينهما.
في المدينة لا مجال لسكون تامّ، ولا توقّف عن الحركة. إنّها عالم من الأضواء والدّوام المستمرّ، وكأنّ الزّمن لا يعرف التوقّف.
ومع ذلك، يظلّ الرّيف في تناسق مع المدينة، ليعطي كلّ واحد منهما للآخر ما يحتاجه منه حتّى لا يتباعدا. وتبقى الطّبيعة والإنسان عنصرين متكاملين، يكتمل بهما المشهد هنا أو هناك.
رشدي الخميري/ جندوبة / تونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق