الأحد، 7 سبتمبر 2025

دموعي غزيرة..ومواجعي بحجم هذا الوطن..! بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 دموعي غزيرة..ومواجعي بحجم هذا الوطن..!


(دموع غزيرة بحجم الوجع..تنسكب على خد نحاسي)


إلى روح إبني ذاك الفتى الغض..الذي رحل دون وداع..بعد أن استرددت برحيله حقي في البكاء..


أنا متعَب كزيتونة أحرقها الصقيع..كزهرة لوز تناستها الفصول..كيتيم يسير حافيا على ثلج الدروب..

متعَب.."والزمان ابتلاني..مجوسية قصتي..معبد النار فيها..وقلبي على عجل للرحيل.."

أسافر أحيانا عبر الغيوم الماطرة..وأرحل إلى مدن لا رفيق لي فيها ولا صديق..

وأحطّ رحالي بتلك البقاع القصيّة كطير غريب حطّ على غير سربه..

أحتاج أبي الآن كي ألعن في حضرة عينيه المفعمتين بالأســى غلمانا أكلوا من جرابي وشربوا من كأسي واستظلوا بظلي في زمن القحط والجدب..لم أبخل عليهم بشيء وعلّمتهم الرماية والغواية والشدو البهي..

واليوم تحلّقوا في كل بؤرة وحضيض لينهشوا لحمي..وحروفَ إسمي..

آه أمّي..كيف سمحت لنفسي بتسليمك إلى التراب..؟!

أمّي التي خاضت تجربة الحياة بمهارة..مازالت ظلالها ممتدة من الجغرافيا إلى ارتعاشات القلب..

مازالت هنا رابضة على عتبات الرّوح مثل رفّ جناح..

وما زالت أسمع تراتيلها وصلواتها كلّما مرّت رياح الجنوب بحذوي..مازلت أرى طيفها في الأيّام الشتائية الماطرة حين السحب تترجّل على الأرض ضبابا..أستجدي عطفها أحيانا..فتتسربل بالغيم وتتوارى خلف الهضاب..أبكي قليلا ثم أقتات من مهجة الليل..وأنام..

أما أنت يا-غسان-يا مهجة الروح:

اقتادتك-الموت-من يد روحك إلى فردوس الطمأنينة،بل ربما إلى النقيض..ولكن الأبناء البررة يولدون مصادفة في الزّمن الخطإ،ويرحلون كومضة في الفجر،كنقطة دم،ثم يومضون في الليل كشهاب على عتبات البحر..

إبني ومهجة روحي:

منذ رحيلك وأنا أحاول مجاهدا تطويع اللغة،ووضعها في سياقها الموازي للصدمة..للحدث الجلل..إننّي مواجه بهذا الإستعصاء،بهذا الشلل الداخلي لقول الكلمات الموازية،أو المقاربة لرحيل القمر والدخول في المحاق..

ولكن الدّمع ينهمر نزيفا كلّما لاح لي وجهك من شقوق المرايا..

ماذا تعني كلمات أو مفردات:منكوب أو مفجوع أو مدمّى أو منكسر؟

لا شيء..سوى الفراغ الذي كنت تملأه فيما مضى.يتسع بك ويضاء بالبهاء الإنساني والغنى الروحي الحزين جراء فساد العالم وخرابه..

الآن بعد رحيلك-القَدَري-أعيد النظر في مفاهيم كثيرة،ربما كانت بالأمس قناعات راسخة،الآن تبدو لي الحياة بكل مباهجها كأنّها مهزلة وجودية مفرغة من أي معنى سوى الألم والدموع..

وأسأل نفسي :

هل كان الحمام الجنوبي يعبّر بهديله عن رغبته في اختطافك إلى الفضاءات النقية لتكون واحدا من-قبيلته-بعيدا عن الأرض الموبوءة بالإنسان الذي تحوّل إلى وحش ينتشي بنهش الجثث،قاتل للحمام والبشر،معيدا سيرة أجداده القدامى منذ قابيل وهابيل حتى الآن..؟ !

غسان:

الزّمان الغض،المضاء بشموس النصر والتحدي.الزمان المفعم بإشراقات القصيد،ما قبل إدراك الخديعة،بغتة الصدمة ولسعة القدر..

-تطاوين-الجاثمة على التخوم الفاصلة بين البسمة والدمعة ترثيك.فرحة هي النوارس بمغادرتك عالم البشر إلى الماوراء حيث نهر الأبدية ودموع بني البشر أجمعين..

أنت الآن في رحاب الله بمنأى عن عالم الغبار والقتلة وشذّاذ الآفاق،والتردّي إلى مسوخية ما قبل الحيوان.

نائم هناك على التخوم الأبدية،وروحك تعلو في الضياء الأثيري،طائرا أو سمكة أو سحابة أو لحنا في موسيقى.لقد غادرت المهزلة الكونية للعبور البشري فوق سطح الأرض.

في الزمان الحُلمي،كما في رؤيا سريالية،سأحملك على محفة من الريحان،بعد تطهيرك بمياه الوديان،من مصبات الأنهار والمنحدرات الصخرية بإتجاه البحر..سيسألني العابرون :إلى أين؟

في السماء نجمة أهتدي بها.أعرفها.تشير دوما إلى الجنوب.أنت أشرت إليها ذات غسق وهي الآن فوق-مقبرة تطاوين المدينة-تضيئ القبور بلمعانها المميز عن بقية الكواكب.وهي تشير كذلك إلى المرقد والمغيب فوق أفق البحر في أواخر المساءات.أحملك نحوها لتغطيك وتحميك بنورها الأسطوري لتدخل في ذرّاتها وخلودها الضوئي..

قبل هذا الإحتفال الأخير سأطوف بك حول-شارع طارق بن زياد-الذي أحببته،حيث يرثيك أبناء حيك ومجاييلك من الفتيان أمثالك..بدمع حارق يحزّ شغاف القلب..

يسألني العابرون أو أسأل نفسي:هل محاولة إستعادة نبض الحياة الماضية يخفّف من وطأة صدمة الموت؟..لا أعرف شيئا..!

حين يأتي المساء الرّباني سنلتئم تحت خيمة عربية مفعمة بعطر الجنوب.نشعل النيران في فجوات الصخور اتقاء للرّيح،ونبدأ الإحتفال في لحظة بزوغ القمر فوق تطاوين..

أما أنتم-يا شباب الحي الذي عاش فيه رفيق دربكم-:إذا رأيتم-غسان-مسجى فوق سرير الغمام فلا توقظوه،إسألوا الصاعقة التي شقّت الصخرة إلى نصفين لا يلتحمان.

إذا رأيتم-غصنا-متبرعما في الصمت الأبدي،فلا تعكرّوا لمعانه بالكلمات.

اسكبوا دمعة سخيّة على جبينه الوضّاء،دمعة في لون اللؤلؤ،واكتموا الصرخة المدوية كالرعد في كهوف الرّوح..

وأخيرا إذا رأيتم والده المغنّي الجوّال حاملا قيثارته،افسحوا له مجالا في الدروب لينشد أغنية الوداع للنجم الآفل..

عندما تبهت الأيّام،وتنطفئ في عين النّهار إبتسامة حاولت كثيرا أن أغذيها بدمي،يتعالى صراخ من هنا،أو نحيب من هناك،وتتوالد حول الأحداق أحزان كثيرة وعابثة الشعور،تذكّر أنّ الإنتهاء قد اقترن بكل شيء.

في عمق اللجة-مات إبني-بكل حتمية..مات وهو يتوسّد أحلامه وآمانيه..

لقد تجرّأ الموت وسأل -إبني-لماذا يعيش.. ؟! ولا بدّ أن يكون المرء سخيفا ليسأل الموت عن علاقته بإبني.غير أنّي صرت سخيفا لحظة من زمن..

وفي تلك اللحظة عندما نظرت إليه يستلقي في استقرارة أبدية بلا عيون،سألت لماذا تنكسر البراعم قبل أن تزهر..ولماذا تولَد مصادفة في الزّمن الخطأ،وترحل دون وداع..يترك القلب أعمى.. ؟!

وأدركت أنّ السؤال قدريّ..وأدركت أيضا أنّ الدموع لا تمسح تراب الأسى..إلا أنّ الألحان العذبة التي عزفها لي إبني عبر رحلة شبابية لم تكتمل،ستظل تحلّق في الأقاصي ويتغنى بها القادمون في موكب الآتي الجليل..

.. وهذا عزائي في المصاب الجلل..


محمد المحسن



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق