حول مدفأة وجدان
كلَّ واحدةٍ ترسلُ طفلَها للأخرى، ليبلغَ أنَّ التجمعَ الساعَةَ التاسعةَ والنصفِ صباحاً وحتى الحاديةَ عشرةَ قبلَ الظهرِ، إنَّهُ موعدُ الاجتماعِ شبهِ اليوميِّ، مؤتمرٌ وجدانيُّ تتوسطُهُ مدفأةُ الجدةِ، النابضةِ بحكاياتِ الكرمِ والعطاءِ والإيثارِ، مع أكوابِ الشايّ العطرِ قبلَ أنْ تكونَ جلسةً للقيلِ والقالِ، كانَتْ بينَهم كالبدرِ الأحمرِ، تبكي حرقةً كلما وصلَها الدورُ للكلامِ، وقد مضى من عمرِها الكثيرُ، فقالَتْ ذاتَ مرةٍ ناصحةً لصديقاتِها: كيف تثرثرْنَ بهذا الكمِ من الهمومِ، وأكوام من الإشاعاتِ طوالَ اليومِ، إنَّ اللهَ منحَكم الثلثَ الأخيرَ من الليلِ، عندَها ستجدونَ لذةَ العبادةِ ومتعةِ الطاعةِ، لبسَتْ عباءتَها وذهبَتْ، تهامسَتْ الأخرياتُ حولَها فقالَتْ إحداهُنَّ: أهملَتْ نفسَها كثيراً من أجلِ بيتِها، في العملِ، وتربيةِ الأولادِ، والفروضِ العباديةِ الواجبةِ والمستحبةِ، وقضاءِ حوائجِ السائلينَ، أما الثانيةُ فقد إستدركَتْ الأولى قائلةً: لا تظلميها فهدوؤها يندرجُ تحتَ مسمى حسنِ التبعلِ، والابتعادِ عن مشاكلِ الناسِ لتنعمَ براحةِ البالِ، أما الثالثةُ المثقفةُ المتبجحةُ قالَتْ: إنَّها كوميديا بائسةٌ، انصتوا لهدوءِ بيتِها إنَّهُ كالمقبرةِ، وقامَتْ الجارةُ الرابعةُ ونفضَّتْ عباءتَها لتقولَ في سخريةٍ منهنَّ: ذبولُ الأزهارِ ليسَ دليلاً على قُبحِها، بل لأنَّ ما حولها لا يجيدُ الاعتناءَ بها، وبعدَ يومينِ التقَتِ المرأةُ الصابرةُ (وجدان) جاراتِها قائلةً: كلماتُ بعضُكنَّ كانَتْ كالمساميرِ تركَتْ ثقوباً في قلبي، لكنَّ أزواجَكنَّ تجمعوا مع زوجي ليلةَ البارحةِ في بيتي، وكانَ لكلِّ منهم رأيَهُ فقالَ الأولُ: أعاني من تقصيرِ زوجتي في عملِها وعبادتِها وتربيةِ أولادِنا، والبركةُ غادرَتْ بيتَنا مع أنَّ رزقي كثيرٌ والحمدُ للهِ، وقالَ الزوجُ الثانيُّ: زوجتي لا تلتقي إلا بزوجتِكَ (الأختُ وجدانُ) تحترمُها كثيراً، ودائماً ما تضعُ الحروفُ على النقاطِ في حالِ اعترضَتْها مشكلةُ معي، أنا أومنُ بقدراتِها الحكيمةِ حيثُ وهبَها اللهُ جميلَ الصفاتِ، فباتَتْ زوجتي لا تبحثُ في تفاصيلٍ تافهةٍ، بل تصبُّ جُلَّ اهتمامِها على بيتِها، وقالَ الثالثُ: لقد مللْتُ زوجتي التي تضعُ ثقافتَها الفارغةَ على رأسِها، وتدورُ على البيوتِ لتنغصَ ما فيها فهي داءٌ لا دواءٌ، ولا تستفيدُ مما تقرأُ وبيتي جحيمٌ، أفكرُ في الزواجِ بامرأةٍ أخرى، لقد تعبْتُ حاولْتُ معها لكنْ دونَ جدوى، أما الزوجُ الرابعُ ماسكاً كوبَ الشايّ المهيلِ فقد قالَ: لأنَّ زوجتي صديقةُ زوجتِكَ وجدانُ ومقربةٌ منها جداً، فأنا أشعرُ بالسعادةِ فخطواتُها (كمَنْ تمشي على الرمالِ لا يسمعُ لها صوتٌ لكنَّ أثرَها باقٍ وراقٍ) أسقي بيتي بماءِ المكرماتِ، فأشعرُ أنَّ الجنةَ في بيتي، طأطئَ زوجُ وجدانَ رأسَهُ الى الأسفلِ، وأخذَتْ روحُهُ تطوفُ، لتصلَ الى سرِّ سعادتِهِ الذي لم يهتمْ بهِ يوماً، دخلَ المطبخَ وإذا بها تمسكُ بخاصرتِها وتئنُ، عندما شاهدَتْهُ أفلتَتْ يدَها ورفعَتْ شعرَها، لتكملَ بقيةَ عملِها في إكرامِ ضيوفِ زوجِها العزيزِ، فقبّلها قائلاً: بعدما سمعْتُ من أصدقائي أدركْتُ أنَّ التنافسَ مع الآخرينَ لأجلِ النجاحِ، لا يمنحُني حقُّ أنْ أكسرَ مجاذيفَكِ، والإرتقاءَ على كتفِ عائلتِنا وأهملُها، لكي أكسبَ السباقَ، لكنني في هذهِ اللحظةِ أيقنْتُ أنَّي خسرْتُ إنسانيتي، وقد خسرَها للأبدِ عندما علمَ أنَّ زوجتَهُ تعاني عجزاً في كليتيها.
أمل هاني الياسري/ العراق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق