الحياة أقدس من النص.. والفعل المقاوم أعظم من أن تحيط به الكلمات
“إن الحياة كلمة وموقِف،الجُبناء لا يكتبُون التاريخ ، التاريخ يكتبه من عشق الوطن وقاد ثورة الحق وأحب الفقراء” تشي جيفارا "
“إنّ معظم النار..من مستصغر الشرر”
حين هبّت عاصفة السابع عشر من شهر ديسمبر 2010 لتخترق سجوف الصمت،وتنير درب الحرية أمام شعب ظل يرسف في الأغلال عبر عقدين ونيف من الظلم والظلام،في تلك اللحظات الخالدة تملّكني إحساس باللاجدوى.ماذا يمكن للمرء أن يفعل..؟
كيف يمكن أن يكون عمليا وهو لا يتقن غير الكلمات؟ !.حتى الكتابة عن حدث جلل بحجم الثورة التونسية لا ترقى إلى منصة النضال.
كنت أدوّن جميع ما أرى،-مكتفيا- بالتفرّج على الدّم التونسي مراقا،وعلى الجنائز تسير خببا في اتجاه المدافن..
هو ذا الموت فرجويا متوحّشا قاسيا فظّا بدائيا ساديّا همجيّا عاتيا ضاريا فاجعا.
هو ذا القتل على مرأى من الدنيا وحفاة الضمير.
الأرض التونسية لم تصَب بقشعريرة ولا بإندهاش.إنّها تأكل بنيها..!
جميع التفاصيل التي اجتذبتني إليها دوّنتها.معي الآن من التفاصيل ما يكفي لتأليف كتاب.كيف يرتقي المرء إلى مستوى ما رأى،كيف يكتبه محاطا بهالته الأسطورية دون أن يقع في نقل الوقائع أو وصفه وصفا إخباريا مسطّحا يفقره ويلغي كثافته؟
كيف يكتب جانبه السحري الأسطوريّ المروّع..؟
الحياة أقدس من النص،والفعل المقاوم أعظم من أن تحيط به الكلمات،لا سيّما إذا كان الفعل أسطوريا رسوليا على النحو الذي رأيت..
ولكن..لا يجب أن تنتهي الحياة إكراما لشبابنا الذين تسابقوا إلى الموت إعلاء للحياة وتمجيدا للحياة.
أنا على يقين من أنّ الإستبداد سيظلّ يدحرج -غلاته وصانعيه-بإتجاه الهاوية حيث لا شيء غير الموت وصرير الأسنان.
يا تونس الصابرة نحتاج قليلا من صبرك الرباني فالرّوح محض عذاب.قصر قرطاج ينوح في السرّ على “أمجاد”من سكنوه ذات زمن موغل في الدياجير.وطائرة المخلوع تحلّق في الأقاصي في اتجاه المنفى البعيد.والحرية تتمطى في اتجاهنا عبر الدموع.
ولنا أن نفرح.لنا أن نهلّل.وطوبى لأمهات الشهداء لأنهن عند الله يتعزين.
غريب أمر هذا الشعب التونسي لا يكتفي بالخبز بديلا عن الحياة والكرامة.
مدهش أمر هذا الشعب التونسي الذي ارتقى بقراره إلى منصة الإستشهاد.
ومدهش أيضا أمر هذا الشعب الذي اتخذ قرارات مصيرية يهون دونها الموت.
على سبيل الخاتمة:
الشعب التونسي بتجربة عظيمة هي تجربة التحرر وهي تجربة يتسامى فيها الناس فوق ضيق الأفق والمصلحة الشخصية، وحتى فوق الجريمة..
وإذن؟
ان حرق الذات إذا هو صرخة قصوى،ذهب فيها فرد، يشعر بالظلم والعجز أمام الانسداد، إلى أقصى ما يمكنه الصّراخ.ثم مع انتصار الثورة شكّل هروب-الراحل-زين العابدين بن علي نوعاً من عزلة الزعيم الفردية في النهاية،أمام المجتمع حين تتراص قواه..
ختاما أقول:إن تونس شرّفت العالم العربي لأن شباب الثورة استطاع في مجتمع استبدادي بائس أن ينادي بأعظم الشعارات العالمية في ذلك الوقت،ومن هنا سيبقى العالم العربي مدينا لتونس بهذه الانطلاقة الاختراقية التي تمكّن التونسيون من خلالها من وضع ملف الكرامة وإنسانية الإنسان موقع جديد وهام في الدولة.
وأخيرا:أعترف أمام العالم،بأنّ الثورة التونسية الخالدة،جردتني من أدواتي اللغوية والبلاغية جميعها،ومسحت بممحاة واقعيتها كل ما حفظته من كلمات وتعابير،وما خزنته من أسماء وتشبيهات،وأوقفتني هكذا مذهولا مبهوتا،أما حقائقها العارية!
ومن هنا غدت (الثورة التونسية) مبثوثة في الأنساغ كلّها،وعلى من يبحث عن موقع بجوارها،أو في مدى توهّجها أن يعثر على ثورته،لغة ورؤى،وأن يستغيث بها للتحرّر من المديح الذي تورّطت به الثورات العربية كلّها خلال نصف قرن.. وستبقى تونسى منارة تضيء دروب الآتين في موكب الآتي الجليل..
سلام هي تونس
تونس التي ستزداد شمسها إشراقا..رغم الغيوم الملبّدة في الأفق..
لست أحلم..ولكنه الإيمان الأكثر دقة في لحظات التاريخ السوداء..من حسابات حفاة الضمير..
محمد المحسن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق