* وداعاً *
قصة قصيرة.
الظلمة بدأت تجثم على الطريق الطويل الممتد، والبرد متنمر يرعب الأطراف... بعض عواميد كهربائية ترشح نوراً مصفراً باهتاً خجلاً... ثلوج قطنية تهمي على الأشجار العارية الحزينة... رداء ناصع البياض يلفلف المدينة لتتباطأ الحياة في ترقب مكبوت.
أتقدم على الرصيف المبيض خلف دار الأوبرا... يتلاشى وقع خطواتي المتوجسة تحت إصرار نغمات السكسفون التي تتسرب مكونة لحناً جنائزياً متناغماً مع تساقط ندف الثلج المتسارعة لتغرقني في عوالم هلامية رومانسية استثنائية.
أتوجس من الهدوء وأنا أقترب بخطى وئيدة ترتبها الألحان، ويرعبها السكون العميق الذي يجلد كياني المهتز تأنيباً وتقريعاً.
أترقب حركة، صوتاً يعيدني إلى صوابي... المكان فارغ خال... الخيمة في مكانها ارتخت جنباتها المثقلة
بالكتل الثلجية المتنمرة... الجراء مازالت تدور بجنون حول الأم الحزينة المتكدسة عند مدخل الخيمة الزرقاء مسبلة أذنيها في هم وغم بالغين... جرو دون حراك تتشممه حيناً، وتتأمله حيناً آخر في أسى بالغ... تنزاح جانباً... لم تنبح، ولم تنزعج مثلما فعلت البارحة عندما جاء معي بعض الشباب ليأخذوا عبد السلام إلى "مطعم القلب" أو إلى المشفى، لكنه رفض بشدة... كان يرتعش من حمى كورونا المتجبرة... قلت له:
— تعال معنا إلى المشفى ليكشف عليك الطبيب، وسنعيدك إلى هنا.
وضع يده على فمه، وقال بصوت متهدج:
— لن أتركها... سيموت جراؤها.
تقترب منه... تتمدد حذوه حزينة مهمومة... الجراء تقفز تحتها بحثاً عن حلمة متجمدة جافة... تنفض رأسها... تتأمله بعين دامعة وقد تيقنت أنه لن يحميها، ولن يحمي جراءها أبداً.
حبيبة المحرزي.
تونس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق