الخميس، 25 فبراير 2021

إشراقات القصة القصيرة،وتجليات البناء الدرامي في إبداعات المبدعة التونسية-سميرة بنصر-"قصة بين مسائين" نموذجا بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 إشراقات القصة القصيرة،وتجليات البناء الدرامي في إبداعات المبدعة التونسية-سميرة بنصر-"قصة بين مسائين" نموذجا

“وحده من يسأل هو الذي يعرف” (من محاورات سقراط للسـفاسـطة)
-إذا كان الشعر نصّاً ذاتيّاً،منسلخاً عن واقعه،عماده التخييل،ولغته مخاتلة منزاحة ٌعن قواعدها، فإنّ النصّ السّرديّ –القصّة والرواية- هو نصٌّ موضوعيٌّ بالدرجة الأولى،يمتح مادّته من الواقع،عنصره التخييليّ يكمن في بنيته الكلّيّة،متمثّلاً في انثيال الأحداث ومصائر الشخصيات التي تحدّدها رؤية الكاتب..-
ولأن القصة القصيرة جدًا عالم مختلف..غنائية مغايرة..هاجس وتأمل وسؤال وإطراقة..بل وحيرة وكشف صوفى جليل،فإن رعشتها تتطلب نسقًا متميزًا فى الكتابة..نوعًا من الأثر يترك جلاله وفخامته فى مخيلة المتلقى ووعيه الفائق..إنها للغرابة حين تستهدف الوعى، فإنها تخاطب اللاوعى المستتر، ففيه تكمن الحقيقة، وعن طريقه تتم رحلات الكشف والتجلى..
.حين تلج الكاتبة التونسية المتميزة سميرة بنصر عتبة الإبداع،وتؤثث حضورها في فضاء المبدعات والمبدعين،فإنما نراها تسعى-بجهد غير ملول–إلى أن تكون شاهدة على عصرها وفاعلة فيه بالقدر الذي يحتمله واقع المنع والإباحة، لذلك فهو تجرنا–دون وعي منّا-إلى ذواتنا أو هي تذكرنا بها مشروخة مشظاة ..
ولا عجب فيما أزعم إذا علمنا أن هذه المبدعة المنبجسة من ضلوع ولاية بنزرت الخالدة، ولجت عتبات الإبداع :شعرا..قصة..إلخ من أبواب الحياة الشاسعة،وراحت تؤثث فضاء اللغة في تجلياتها الخلاقة بالمجاز وبالإستعارة ذات الكثافة الحسية،والتوتر والإيحاء مما ساهم في إيجاد مناخات عالم قصصها المعبرة عن علاقة شخوصها المختلفة والمتوترة مع الذات والعالم الذي يتركها لمصيرها الأعزل وحيدة ضائعة،مستلبة ومقهورة بسبب الشرط الإجتماعي والوجودي المأسوي الذي تحياه،والذي يجعلها تنكفئ على دواخلها -المعطوبة -وتعيش في مناخ كابوسي مخيف لا تجد سوى الأحلام وسيلة للهرب،وإشباع رغباتها المستفزة والمحرومة .. تقول في قصتها التي أبهرتني "بين مسائين" :"الريح وأسراب غيمات قطنية تأتِي من ناحية الشمال من عرض البحر …
شعر بالدفء...شعر بالحرارة وهو ينفث شتاءه الأخير في صورة إطارها عرض الحياة…
وفزع الناس من حوله يوارون بالرمل دماءً وردية تشكلت على هيئة عجوز لا ملامح لها.."
لم تضق الكاتبة بأشكال الكتابة القارة ومرجعياتها،وتعمل على تهديمها لإحساسها بالضيق بها، وتأكيدها لقيمة الحرية كشرط للإبداع الأصيل،وإنما عبّرت أيضا عن ضيقها بالواقع،ونقمتها عليه،وتمردها على مواضعاتها الأخلاقية والإجتماعية،وفضح مظاهر الترجرج والسقوط والقهر فيه،ولذلك حاولت أن تصوّ ذلك الواقع بالقسوة التي كانت تراها فيه،أو ترى مأساة الإنسان وضياعه تتمثل فيها.
في قصتها الأخيرة» بين مسائين» تكثّف الكاتبة فن القصة القصيرة في إشعاع دلالي،تختلس من الفن الدرامي طرائقها في تصعيد وتيرة الأحداث ومن الرواية كثافتها السردية محافظة-ببراعة وإقتدار-للقصة القصيرة هويتها التي تميّزها في اقتناص اللحظة الحالمة والقدرة على تعميق الإحساس بالوجود من خلال عالم يتحرك فيه القاص برشاقة تعبيريّة تمسك بزمام السرد دون أن تقع في التعمية المضللة أو التفصيل الممل.
وهذا شأن سميرة في قصصها التي-أزعم-أني اطلعت على جلها- تتجه إلى اليومي دون الخوض في التفصيلات إذ تبعث نفسها من خلال نصوصها ذاتاً متشظيّة في الواقع.
قد يذهب –البعض منا–في قراءته لتجربة القاصة (سميرة بنصر) إلى أنّها رغم خروجها على أدب الإديولوجيا،كانت تنطلق في بناء عالم قصصها من رؤية ايديولوجية تتمثل في تلك السمات المتناقضة التي تحكم عالم الصراع في الواقع،وتحدد أبعاده في أغلب نتاجه،لكن هذه الرؤية/القراءة سوف تتجاهل الدلالات الواسعة التي منحتها القاصة لمضمون الصراع وشكله ومستوياته،وإنها-في تقديري-كانت تعبّر فيما تكتبه عن انحياز واضح لقيم الحرية والجمال والحب والتجدد،وإن قضيتها الأساس ظلت تتمثل في اصطدام وعيها بالواقع الإجتماعي في مختلف تداعياته،كما أنها مازالت تجتهد في فضح وتعرية الواقع من الداخل والخارج بقسوة أو سخرية لاذعة ومريرة،تنتصر للقيم التي آمنت بها.
وهذا سمح للكاتبة بإنتاج مستويات خطابية أثيرة،تتقلص المساحة المكتوبة بتعاظم لغة السرد، كما في القصة المذكورة أنفا» بين مسائين» التي تقدّم العنوان بعمق دلالي وثراء فني لا يخلو من التشويق،والإثارة وكأن الشخوص تُساق إلى مصيرها بنفسها،تقول واصفة حركة شخصيتها الرئيسة» ترك المكان على أجنحة الريح،كانت أنفاسه تصم أذنيه عن كل شي وخفقان قلبه يسابق رجليه …
قشعريرة بداخله تصعق أركان نفسه وتسري في كل أوصاله كما الموجة الكهربيه على حين غفلة…
رجلاه تحملانه دون أمر منه وتسعفه بأقصى ما يمكن لها من السرعة ويداه ظلت أمينتين على جرابه الملتصق بجنبه تضمه في عنف.."
إنّ التحرك بين العمق الفكري والمكان دفع بالمتلقي إلى البحث عن طبيعة المكان ومآله، وجوهره،ممّا جعله يدخل فعل القراءة برغبة جامحة لاكتناه الحقيقة،بعدما وقع في إغواء النص.
هل لديَّ ما أضيف ؟
قد لا أضيف جديدا إذا قلت أنّ المبدعة التونسية (سميرة بنصر) في مجال الإبداع بمختلف إشراقاته الخلاّبة،إنما هي تؤسس خطابها القصصي من فضاءات واقعية تؤكد انتماء القصة القصيرة لأسلوب السرد بالدرجة الأولى،إذ يُسهم هذا الأسلوب في تنشيط العلامة اللغوية وجعلها أكثر قدرة على استعارة الدال اللفظي الذي يخالطه اللفظ العامي بكلّ تلقائية وقدرة على استيعاب المعطى الفكري للخطاب القصصي..
على هذا الأساس،تُصبح الكتابة لدى سميرة بنصر ليس ما ترغب في نقله لنا من أحلام ووقائع وأفكار،وإنّما ما تستطيع عين القارئ التقاطه من تفاصيل صغيرة مُتشابكة في حمأة وقائع فاجعة وأيضاً من قدرة الذاكرة على ترميم الأحداث وتفسير فانتازيتها وتفكيك حجاب اللّغة،بما يتضمّنه من سياقات وعلامات ورموز مشرعة في وجه بحر من التفسيرات والتأويلات المُمكنة :"وفزع الناس من حوله يوارون بالرمل دماءً وردية تشكلت على هيئة عجوز لا ملامح لها.."(السطر الأخير من قصة :" بين مسائين"
ختاما أقول: بما أن سميرة بنصر تنتمي إلى فئة الكُتّاب العرب الذين يشتغلون وفق تصوّرات مُتنوّعة،فإن القارئ لا يكاد يعثر على ما يجعل من القصة القصيرة على مستوى الشكل نصاً مفتوحاً،بسبب قدرتها على تغليب لغة النثر وجعل التعابير الشعرية الحسية مُضمرة في عمق العمل القصصي وتحتاج إلى حساسية جمالية،تلتقط أنفاسها من داخل النثر.
ولنا عودة إلى لوحتها القصصية المذهلة"بين مسائين" عبر مقاربة مستفيضة.
محمد المحسن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق