الثلاثاء، 23 فبراير 2021

قراءة في قصيدة : مــَن..يطهّرني من دنس الركض؟ للناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 قراءة في قصيدة : مــَن..يطهّرني من دنس الركض؟

إنّ الكلامَ على الكلام صعب (التوحيدي)
و..هذا..ما قيل عني..
شعرية التشظي
____________
قراءة أولية في قصيدة :
_______________
«مــَن..يطهّرني من دنس الركض؟» بقلم ناقد من المغرب الشقيق
كنتُ كما كان جدّي نبضا..يخاف السقوط
بفوهة المستحيل
ويخشى سهاما تصيب من الخلف..من ألف خلف
تخدش الرّوح
تطيح بأضلعنا...
في منعطف للثنايا
وترسلنا إلى الموت في موعد غامض..
وكان أبي مثل جدّي تماما..
أصفى من قمرين معا
يحبّ الرحيل..
إلى أيّ شيء
يحبّ بلادا ويرحل عنها
لكنّي أراه يكفكف دمعا
كلّما رأى برعما غضّا يتهاوى
أو كوكبا مستفيضا..يتشظى
ثم يستحيل في هدأة الفجر
شظايا..منثورة في الفضاء
..ههنا الآن وحدي على مقعد لست فيه
أهذي لأسمع نفسي
أتحسّس درب اليمام على سطح قلبي
أستعيد ولادة عمري
أدافع عن زهرة لوز
تضوّع عطرها بين الثنايا
ههنا جالس حيث يعرفني الغرباء
أرنو إلى وطن..كلّما قلت أنسلّ من عشقه
أفرد للنوايا بساطا..
وحمّلني وجعا مبهما
لا..
ما عدت أستطيع التحمّل
كأنّ عطر الفتوّة قد تلاشى
كأنّي جئت من زمن آخر كي أكون هنا
لحظة أو أقلّ
كأنّ وشم أمّي لم يزل يطاردني في المرايا..
كأنّ الرفاق الذين عاشوا في ضوئهم..قد مضَوا
أو تواروا في الغبش وراء الغيوم
ماتوا من ضوئهم..
وأنا..ها أنا أجلس خلف جدار العمر أراقب طيفهم
غدا ربّما أسعى إليهم
وأحمل حنيني على كتفي
أقول غدا ربّما…
ربّما أمضي في الغيم بين ثنايا المدى
علّني أستردّ ما نهشته الجوارح من مضغة القلب
وأصيخ السّمع مع الرّيح،إلى جهة المستحيل
فقد- كفّت-الكأس-عن فعلها فيّ مما تداويت
واستبدّت بأوردة القلب مملكة للمواجع-
تنهش الرّوح
توغل في التشظي
وتؤجج خلف الشغاف
جمر العشايا..
وما ظلّ في خاطري الآن إلاّ حنين
يتذاكى،ويحملني دون إذن،على مركب اللّيل
كأنّي مع النوارس على موعد للرحيل
-لا مركب للغريب سوى شوقه-
لا رفيق له غيره
أو نجمة بين الضلوع،تضيء وتخبو ويرتفع الشوق
من فوق أضلاعها إلى..
تُرى؟
هل يبرق الصّبح شفرته عبر هذا الظلام الكثيف
فأنا في فيض العواصف،دون كفّ
لأدفع عنّي الأذى..
أراني أركض بين تهليلة الطين والماء
وما زلت أعدو
طليقا ومرتهنا بما
خلّفته الوصايا..
فمن،يطهّر الرّوح من دنس الركض
بين النفايات
ويعيد-لشغاف القلب-
ألق الصّبح..وأريجه
المشتهى..؟!
(محمد المحسن)
هي قصيدة تشبه تجربة حياتي ،ومهما كانت الأسباب التي دفعت صديقي الناقد والقاص التونسي "صالح مورو " ،لتقديمها لي،فإني أجد وراء هذه الصدفة الفنية الرائعة أسبابا غامضة،ربما كان هناك شيئ لايعلمه أحدنا عن وصول هذه القصيدة الي،وانا من المؤمنين بالخوارق والغوامض وما وراء الطبيعة،خاصة وأنا لم أكن أعرف قبلا الصديق محمد المحسن الشاعر التوننسي الكبير،وحين أطلق وصف الكبير فأنا لا أطلقه جزافا،بل ان صراحتي في النقد وعزوفي عن نقد الكثير مما يعرض علي تسبب لي في جفاء كثير من الأصدقاء،وهذا شأنهم طبعا ،لايمكن أبدا بناء صداقة ما على أسس زائفة .
فحين تجتمع في القصيدة شروط أربعة تصبح قصيدة قابلة لأن تسكن مملكة الشعر،وحين يختل شرط واحد يمنع عليها ولوج مملكة الروح/الشعر،و أظن أن قصيدة محمد المحسن جمعت بين حواشيها تلك الشروط وأوفتها حقها وزيادة .
فقد كان التركيب سلسا والصياغة انسيابية والخيال وثابا وخصبا،والموسيقى تستقي من موضوعها ألحانها ومقاماتها،فكانت قصيدة مفتوحة نوافذها على مساحات جمالية باذخة ، عمدت الى تناول موضوعها بفنية عالية،ليس أدل عليها أن الشاعر استطاع أن يجمع بين ثلاثة أجيال في تعبير مقتضب ومكثف،ليمنح قصيدته احدى شروط الحداثة الشعرية بإعتبارها تضعيفا للمعنى وتكثيفا للرؤية،في كلمات قليلة ،يقول الشاعر:
كنتُ كما كان جدّي نبضا..يخاف السقوط
بفوهة المستحيل
هكذا يجمع الشاعر بينه وبين جده في موضوعة الخوف من السقوط،وهي موضوعة تتعلق بنوع من الرهاب الاجتماعي والسياسي،التي باتت المجتمعات العربية مسكونة به الى درجة الامتثال لكل رموز الخوف في العالم العربي بدءا من الحاكم الجائر،وليس انتهاء بالمشي في الشارع،لكن الشاعر يقرن خوفه بفوهة المستحيل،وحين نفكر أو نتأمل في علاقة الإسناد التي تجمع بين الفوهة والمستحيل نجد أن الشاعر استطاع بحدسه الفني أن يختزل المستحيل رغم طبيعته اللاتوقعية والمنفتحة بفوهة،وهي ذات شكل معلوم ومحدد،كأنه تصوير دقيق لحالة الشعب العربي المنفتح على كل احتمالات التوهج والابداع والازدهار،لكنه مرهون في فوهة الأنظمة الديكتاتورية العربية،فالفوهة سواء كانت فوهة مدفع أو فوهة بركان فهي لا ترسل غير الدمار والخراب،وهذا قدر من ارتهن لفوهة الأنظمة العربية التي لاتزال شظايا بارودها تمزق أجساد الأبرياء،وحمم براكينها تشوي الجلد البشري .
هكذا تحمل الذات الشاعرة عبئا فوق عبء،عبء الذات،وعبء المجتمع،خاصة والشاعر يقف عند فترة جده وهي فترة يمكن قراءة وجودها بلحظات النضال ضد المستعمر ونيل الاستقلال ، حيث ابتدأت طقوس توزيع الغنائم وسد الطرق والتسلط على الشعوب العربية،وهو ما عبر عنه الشاعر بلغة شعرية تروم انزياحها الفني كشكل تعبيري راقي اذ يقول:
ويخشى سهاما تصيب من الخلف..من ألف خلف
تخدش الرّوح
تطيح بأضلعنا... في منعطف للثنايا
وترسلنا إلى الموت في موعد غامض..
ليس الجد وحده من يخشى سهام الغدر،هذا الغدر الذي تعددت مصادره وأصبح شبيها بعادة تبناها العربي كقاعدة لمختلف تعاملاته ومعاملاته مع أخيه،وقديما قال الشاعر العربي،وظلم ذوي القربى أشد مضاضة من وقع الحسام المهند.فالسهام لم تكتف بالجسد،بل وصلت الى عمق الروح،وكم كان تعبير الشاعر رائعا وهو يكني حالة التوجس والقلق التي تنتابنا في انتظار الضربة القاضية التي تقضي علينا تماما في وطن كنا نتوق ونحلم أن يمنحنا الأمن والطمأنينة بالموعد الغامض ،بيد أنه أصبح كغابة مأهولة بالكواسر والوحوش المتعطشة للدم العربي . فعبارة موعد غامض تحمل شاعريتها في انفتاحها على حياة تطبعها انتظارية عدمية لموت عبثي قد يصيبنا في أي لحظة .
لنصل بتخلص شعري رائع الى الجيل الثاني من السحق العربي،جيل الآباء الذي كابد تجربته غربة،سواء كانت الغربة داخلية او خارجية ،قسرية أو طوعية،فرغم صفاء البسطاء وطهرهم الا أن هذا الصفاء والطهر يكاد يكون السبب الرئيس لبؤسهم ومأساتهم ،وهو ما عبر عنه بجلاء أحد الحكماء الغربيين،مما فرض على الأب رحلة الاغتراب والرحيل الأبدي ،وإن كان رحيلا الى العدم الذي عبر عنه الشاعر باقتدار ب"الى أي شيء" كناية عن مدى فداحة الهرب من العبث والخواء الذي ملأ مساحات الوطن العربي من الماء الى الماء .
هكذا يصبح الشعر مع محمد المحسن شعر رسالة الانسان العربي،دون أن يغفل الأبعاد الفنية ، فالفن هو توليف الانساني بالفني في صورة متكاملة،كأن الشاعر يمتثل لمقولة تولستوي:"لا يجب أن تكتب إلا في اللحظة التي تشعر فيها أنك عندما تغطس ريشتك في المحبرة تترك طرفا من لحمك داخلها"،ولا يكتب الا حين تملي عليه الكتابة الشعرية رؤيتها وقد امتلأت بلغة تتأسس على الجمالي وعلى الفني دون أن تنسى رسالتها الانسانية السامية .
"لا يجب أن تكتب إلا في اللحظة التي تشعر فيها أنك عندما تغطس ريشتك في المحبرة تترك طرفا من لحمك داخلها" تولستوي ،وهو ما يصنعه محمد المحسن،فالقصيدة ترفل بنسغ الشعرية ذات الأبعاد المختلفة،اذ تحتفظ بجمالية الشعر وهي تؤدي رسالتها الاجتماعية والسياسية،وتحتفظ بسلاسة التعبير رغم اغراقها الرمزي والاحالي الى متون المعيش واليومي والتاريخي،أن تكتب الشعر،يعني أن تذوب في الكون،أن تصبح أنت كل شيئ،وهذا ما يعجز عنه أغلب الكتاب والشعراء الا قلة قليلة .
ان بنية المقطع الأول من القصيدة تبرز لنا أن الشعر حين يكتب بعشق فانه يمنحك من عنده كل مفاتيحه،فالشاعر لم يغفل بنية واحدة من بنيات القصيدة الحداثية،كالموسيقى مثلا،فتجاور الحروف في :
كنت كما كان جدي نبضا ..يخاف السقوط
بفوهة المستحيل
فقراءة بسيطة للمقطع تجعلنا نلاحظ تجاور حروف الكاف ثلاث مرات والنون أيضا،وحرف الفاء مرتين والسين ايضا مرتين،مما يعطي للشذرية أو للسطر،حسب الإختيار النقدي ، موسيقاه الداخلية النابضة بالحيوية،لتأخذ الموسيقى حظها الجمالي ووظيفتها الدلالية،التي ترسخ المعنى في وجدان القارئ .
وبذلك يكون الشاعر قد اعتمد بذكاء فني على كل المكونات التي تمنح القصيدة بعدها المتكامل، حيث يجعل القارئ يعلن بافتخار أن الشعر العربي ما زال بخير .
واذا كانت هيمنة التيمة النواة،تجبر الشاعر على العودة الى سردية تجربة الأجيال الثلاثة ، فانه يعود اليها وقد حمل معه كل أدوات الفن الشعري الذي أصبح يتقاطع فيه الشعر مع النثر ليمتح شعريته من كل ممكنات اللغة والكتابة والإحساس الدقيق بنوعية وجنس الكلمة واللفظة ، وليس استدعاء الجد والأب في تعاطيهما مع تجربتهما استدعاء اعتباطيا ،بقدر ما هو نمط من تكثيف الواحد في المتعدد واعطاء تنوع الوحدة ووحدة التنوع تجسيدها الفني والجمالي في قصيدة لا تؤمن الا بفسحة الجمالية التي تتجاوز التقييد والحد :
وكان أبي مثل جدّي تماما..أصفى من قمرين معا
يحبّ الرحيل..إلى أيّ شيء
يحبّ بلادا ويرحل عنها
لكنّي أراه يكفكف دمعا
كلّما رأى برعما غضّا يتهاوى
أو كوكبا مستفيضا..يتشظى
ثم يستحيل في هدأة الفجر
شظايا..منثورة في الفضاء
لم يعد القمر مثال الاكتمال والجمال في عرف شاعرنا،وان كان يعني بهما ما بقي من ثلاثية الأجيال ،أنا النصية وجدها،فالأب الذي قد يختزل الابن والجد ،أصفى من قمرين،لأن منطق التطور العقلاني والانساني الطموح يفترض دائما التجاوز والارتقاء،،ثم لا ننسى أنه واسطة العقد هذه المكانة التي طالما تغنى بها التراث العربي ،انه الجسر الذي يربط بين جيلين ،فهو أمل الجيل الأول ونموذج الجيل الثالث ،لذا كان همه الرحيل وان نحو المستحيل ،وهو رغم حبه للبلاد الا أنه يهجرها،لكن الفراغ الذي يتركه الشاعر تاركا للقارئ مهمة ملئه ،هو لماذا يهجر الانسان بلادا يحبها ؟ ألم يقل الشاعر العربي بيته الشهير ؟
بلادي وان جارت علي عزيزة ،،،،وأهلي وان ضنوا علي كرام
لكن شاعرنا عمل بحكمة الشنفرى حين أنشد :
وفي الارض منأى للكريم عن الأذى ،،،،وفيها لمن خاف القلى متعزل
فمن تدمع عيناه لذبول برعم ،وكم كانت الصورة معبرة حين أسند التهاوي للبرعم،فالبرعم هو النبتة الأولى للزهرة،وهو لم يلحق بعد مرحلة التهاوي،لكن التفاتة الشاعر لخصيصة الشاعر الذي يعتبر نفسه دائما كائنا برعميا لم يتفتح بعد في انتظار قصيدة لن تأتي تعلن تفتحه وشاعريته،كانت التفاتة غنية بالاشارات الاستعارية ،خاصة وأن مقابلة البرعم بالكوكب المتفيض وهو يتشظى تعطينا رؤية بل لوحة غاية في الجمالية ،سواء نظرنا اليها من زاوية تمثل الشاعر لذاته،أو من زاوية آلة الأنظمة العربية التي لا تفرق بين صغير وكبير،بين مكتمل ومن في طور التكوين .
ليعيدنا الشاعر بلغته الانزياحية العالية الى الى صورة" أي شيئ"،حين يستحيل الى شظايا منثورة في الفضاء،هذه هي رحلة الشاعر،رحلة التشظي في متاهة الفضاء المفتوح المتمدد .
لا يلتزم الشاعر بأي قيد عروضي أو شكلي ،فشاعرية الانفتاح على الشعرية التي ترفل بها اللغة العربية هي بوصلته الى تحقيق موسيقى شعره ،وهي عملية تتطلب دربة وعشقا للغة العربية وشعرها ،فلو قطعنا السطر الأول مثلا نجده يتفكك الى التفعيلات التالية :
مفاعلتن / فاعلاتن / فعولن/مستفعل/فعلن /فعلن
وهي تفعيلات قد تتواجد في أكثر من بحر،بعد ادخال الزحافات والعلل ،إلا تفعيلة الوافر، مفاعلتن،التي يختص به فقط بحر الوافر،فان باقي التفعيلات يمكن أن تتضمن في أكثر من بحر، مما يجعل البحور الشعرية مفتوحة على بعض ،ويوفر للقصيدة العربية موسيقى خارجة سياق الشكل المتحجر والنمطي.
نخلص من كل هذا أن الشعرية قد تتوفر بالإنصات الى الذات،والإنصات الى الذات مقام الواصلين الى الكون عبر التأمل الوجداني ،وقد أخذتهم اللغة في كونها الممتلئ بأسرار الكون والحياة .
ولنا عودة الى القصيدة ككل .
(ناقد من المغرب الشقيق)
تنويه: المقاربة أعلاه خصني بها صديق/ناقد مغربي،وهي تتعلّق بقصيدتي المعنونة ب:" من يطهرني..من دنس الركض"
محمد المحسن
Peut être une image de 1 personne

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق