رواية "رسائل مؤجّلة" لفوزية البوبكري بين المرجعي والرمزي
"رسائل مؤجلة" للكاتبة التونسية فوزية البوبكري هي رواية الصّوت الواحد أي أنّ راويها واحد والرّاوي كما يعرّفه معجم السّرديّات" هو العون السّرديّ الّذي يعهد إليه المؤلّف الواقعيّ بسرد الحكاية أساسا ويهتدى إليه بالإجابة عن السّؤال " من يتكلّم؟". راوي الرّسائل تكلّم فنقل أعمالا لشخصيّات لم يسمّها واحتفى بأحداث عاشتها وعايشتها الشّخصيّة الرّئيسيّة في فترات مختلفة من سنين حياتها بدأ من الطّفولة والشّباب حتّى الكهولة وبداية الشّيخوخة. والسّارد يجنح إلى السّرد الانتقائيّ فينتقي لحظات حاسمة عاشتها الشّخصيّة الرّئيسيّة وكان لها تأثير في تغيير خطّ سيرها في هذه الحياة تغييرا قسريّا مرّات كثيرة وإراديّا بعض المرّات وذاك حال المرأة في المجتمع الشّرقيّ فهي مسيّرة لا مخيّرة.
الرّاوي سرد الأحداث معتمدا سردا غير خطّيّ راوح فيه بين زمن الحاضر وزمن الماضي فأمّا زمن الحاضر فهو زمن الثّورة التّونسيّة. إنّه الزّمن الّذي انطلقت فيه الحكاية وهو زمن الخريف. خريف العمر لهذه الجدّة الّتي بلغت السّتين من العمر. ومجتمعنا العربيّ يحيل من بلغ سنّ السّتين على التّقاعد والقعود انتظارا للموت عملا بالمثل الشّعبيّ القائل " كول القوت واستنّى الموت". ينخرط الحفيد في هتاف رافعا شعارا تردّد كثيرا في تلك الفترة " الشّعب يريد..." فتتذكّر الجدّة ماضيا قد مضى وتولّى فيه طمحت إلى أشياء وما حقّقتها وتنازلت عن أحلام ورديّة ما نالتها ويؤرجحنا الرّاوي في غمار سرده كما يؤرجح بطلة الرواية في كرسيّها الهزّاز ومع كلّ اهتزاز لهذا الكرسيّ يتغيّر الزّمان ولكنّنا لا نحسّ رجّة لهذا التّغيير بل تتراوح الأحداث تراوحا سلسا بين حاضر البطلة وماضيها الّذي عاشت فيه شقيّة تحت سلطة أمّ متجبّرة تجبرها على التخلّي عن أحلامها شيئا فشيئا إرضاء للأخريات أولئك اللّواتي طوّقن حياتها فقلبنها جحيما بثرثرتهنّ وفضولهنّ وتأويلاتهنّ القاسية المتخلّفة. وفي الرّواية زمن ثالث هو زمن المستقبل المشرق الّذي يستمدّ إشراقه من التّفاؤل والحلم بالغد الأجمل وتبقى الأحلام تسكننا مادامت لم تتحقّق.
وإلى جانب السّرد اعتمد الرّاوي الوصف الّذي تعلّق بالشّخصيّات فحدّد سماتها وملامحها واهتمّ أيضا بالأماكن وحتّى الأشياء فوصف في إحدى مواضع الكتاب الشّخصيّة الرئيسيّة وهي طفلة تجلس أمام المعلّم في القسم تتلقّى علمه بشغف وانتباه "تنظر بعينيها الواسعتين" بل إنّه يصفها وصفا داخليا "كانت صغيرة مليئة بأحلام وأمنيات تفوق رقّة جسمها ورقّة صوتها ورقة خطواتها" ثمّ إنّها تلميذة مجدّة "لا حدود لانطلاق خيالها وشغفها بالقراءة وقدرتها على التّحليق مع المعاني والصور" ويصف النّصّ المعلّق أمامها على السّبورة فهو نصّ "غابت فيه النقاط على الحروف وغابت كلّ أشكال التّنوين والفتح والضمّ والكسر" ويصف أيضا الطّريق إلى مدرستها الّتي " تبعد أكثر من الكيلومتر عن بيتهم". ولأنّ الوصف أداة مؤثّرة في النّصّ الرّوائيّ شأنه شأن السّرد فوصفه لشغف الفتاة بالدّراسة والمطالعة رغم صعوبة الظّروف الّتي تتعلّم فيها ساهم في إبراز معاناة التّلميذة لاحقا إذ تضطرّ للانقطاع عن المدرسة فتتخلّى قسرا عن أحلام راودتها ولم يشفع لها نبوغها وشغفها بالعلم في مواصلة تعليمها لأنّ المجتمع في تلك المرحلة يرى في تعليم البنات ترفا يمكن الاستغناء عنه فالمرأة النّاجحة لم تكن تلك الّتي تحوز الشّهادات الجامعيّة وتتدرّج في سلّم المعرفة بتفوّق بل تلك الّتي تتقن تدبير بيت زوجها والقيام بشؤون أبنائها دعك من طموحاتها وأحلامها.
أما الحوار فكان أداة قصصيّة لنقل الأقوال وحكايتها كأن يجري السّارد حوارا بين الحفيدة وجدّتها مداره صندوق الجدّة وما احتواه من أسرار أثارت فضول الطّفلة ودفعتها للسؤال: "جدّتي لما لا تريني ماذا تخبّئين داخله؟" وتجيب الجدّة استنادا لخبرتها الطّويلة في الحياة فتقدّم الدروس والعبر لحفيدتها وهي مؤهّلة لذلك ف"الأكبر منّك بليلة أزيد منك بحيلة" هكذا قال المثل الشّعبيّ. وبين الجدّة والحفيدة عقود لا ليال فتقول في جملة ما تقول: "الموت يأتي فجأة يا ابنتي فلا نعرف له موعدا". وتجنح الكاتبة إلى الحوار الباطنيّ بعد ذلك فتصوّر تفطّن الجدّة إلى صعوبة الجواب الّذي قدّمته لحفيدتها "ففكرة الموت أصعب من أن يستوعبها عقل طفلة". ولكن لتعلّمها وتؤدّبها وما يلتقطه ذهنها اليوم من أقوال جدّتها ستستفيد به غدا إذ تصير شابّة وستتّعظ من تجارب جدّتها وتكون أصلب عودا منها وأشرس في مواجهة مواقف مجتمع مازال يكيل بسياسة المكيالين في الحكم على المرأة والرّجل. وهكذا يبقى الحوار فسحة للشّخصيّات للكشف عن بعض خبايا نفوسها وتحديد العلاقات بينها وهو أيضا أداة للتّعبير عن مواقفها وموقف الكاتبة من ورائها.
وإلى جانب أدوات القصّ تستند الكاتبة إلى أركان القصّ لتأثيث حكايتها وكان المكان أحد هذه الأركان وهو في هذه الرّواية تقليديّ إذ تبدأ الأحداث في بيت تونسيّ لأسرة تجتمع أمام التّلفاز تتابع أحداث السّاعة وجدّة تنزوي في غرفتها يقابلها صندوقها العتيق بما احتواه من أسرار فنكون إزاء بيت بمواصفات تونسيّة ويتدعّم هذا المنحى ونحن نقرأ الرّواية فالأثاث والعادات والتّقاليد تونسيّة. وحتّى الشّخصيّات فقد كانت تونسيّة محلّيّة في تركيبتها ومواصفاتها فالرّاوي زرعنا وسط أسر تقليديّة فهناك الجدّة والأمّ والأب والجارات المحيطات بالأسرة والقيّمة في المعهد وصديقات البطلة وزوجها وأسرته. وقد تراوحت علاقة الشّخصيّة الرّئيسية بباقي الشّخصيّات بين الاتّصال والانفصال وكان بعضها مساعدا حينا وبعضها معرقلا أحيانا فالأمّ مثلا كانت معرقلة لأحلام البطلة والزّوج كان مساعدا لها.
لا يملك القارئ إلا أن يطمئن إلى كون "رسائل مؤجلة" رواية تتوفر على مكونات الكتابة الروائية من مكان وزمان وشخصيّات وأحداث حاضرة في الكتاب بل إنّ الكاتبة أبرمت معنا عقدا أجناسيّا منذ البداية إذ دوّنت على غلاف الكتاب كلمة رواية بل ودعّمت ذلك في توطئتها إذ أقرّت بأنّها تكتب أحداثا متخيّلة يعسر على قارئها أن يقتنع بأن هذا المتخيّل السّرديّ بعيد كلّ البعد عن السّير ذاتيّ تقول الكاتبة في توطئتها "لا يمكنكم أن تظنّوا أنّ هذه الرّواية هي قصّتي ولكن في نفس الوقت لا أظنّ أنّني سأقنعكم أنّها ليست حكايتي". فالكاتبة أثبتت في الجزء الثّاني من هذا الكلام ما حاولت أن تنفيه في جزئه الأوّل وفهمنا أنّنا نتعامل مع رواية لا تخلو من تخييل ذاتيّ ولو تورات الكاتبة خلف ضمير الغائب لتتحدّث عن نفسها أثناء الحديث عن بطلتها فتذكّرنا بطه حسين في أيّامه و إن كانت هي لم تلتفت في الضّمائر كما فعل . ولعلّ مقارنة طفيفة بين حياة الكاتبة والشّخصيّة الرّئيسيّة تجعلنا نجد نقاط ائتلاف كبيرة بينهما. فالحياة التّلمذيّة حياة المبيت والمدرسة الّتي تفصل بين البنين والبنات والحياة الاجتماعيّة حيث الأسرة المحافظة تخاف من سلطة الأقاويل وتحسب لها ألف حساب وحتّى الأحداث السّياسيّة نفسها فالفترة البورقيبيّة وأحداث الثّورة عاشتها الشّخصيّة كما عاشتها الكاتبة ونقلتها لنا في روايتها. ومن ناحية أخرى إذا وسمنا هذه الرّواية برواية الصّوت الواحد نكون قد أغفلنا الأصوات العديدة الّتي تتعالى ممتزجة بهذا الصّوت فباختين يقول "قد يتكلّم الرّاوي كلاما رصينا هو صدى لكلام الفيلسوف وقد يتكلّم بصوت رجل القضاء يكون نازعا إلى البحث عن التّوازنات وقد ينطق بكلام الأستاذ أو بكلام الموظّف". وكذلك كان الحال في "رسائل مؤجّلة" فالأصوات تتعالى في صوت الرّاوية الواحدة فنجد صوت المرأة الطّموحة الّتي تريد أن تتمرّد على قيود اجتماعيّة سحقت أحلامها كما نجد صوت المرأة المحافظة الّتي تظلّ كظيمة إن رزقت بالأنثى فلا تقرّ عينها إلاّ إذا زوّجتها ويحضر صوت الرّجل الّذي خالف السّائد فلم يكن ذاك المتسلّط بل كان المتفهّم الحنون وكأنّه بصوته هذا يكسر المألوف الشّعبيّ "الرّجال والزّمان ما فيهم أمان " ويعقد مصالحة وإن كانت على الورق بين الرجال والنساء.
ثمّ إنّ الرّواية أولت اهتماما بقارئها وحسبت له ألف حساب فوجّهت إليه رسائل ملغزة منذ عتبة العنوان فعباراتها التبست بمعاني التّسويف والمماطلة بل بمعاني الإغراء والاستدراج حتّى كأنها تستدرجه ليخوض غمار الكتاب وتغريه بالبحث فيه عساه يجد أجوبة لأسئلة اختزنها العنوان وكلّ قارئ سيحاول أن يفكّ شفرة هذه الرّسائل مستدعيا آليّات التّأويل وهو يخوض غمار القراءة فالنّصّ كما قال أمبرتو إيكو" آلة كسولة تتطلّب من القارئ عملا حثيثا لملء الفضاءات الّتي لم يصرّح بها " ونصّ رسائل مؤجّلة جاء مليئا بالفراغات والكاتبة عوّلت على القارئ ليملأ هذه الفجوات. ومن الفجوات الّتي خلقتها السّاردة في الرّواية فجوة الأسماء فالكاتبة لم تسمّ شخصيّاتها ولعلّها بذلك منحت للقارئ الفرصة ليحاول ملء هذه الفجوة حسب خبراته وثقافته. فقد يعتبر القارئ أن السّكوت عن التّسمية يمنح الشّخصيّات بعدا رمزيّا اجتماعيّا فالأب هو رمز لكلّ الآباء والجدّة والأمّ كذلك. وقد يعتبر أنّ السّكوت عن كلّ الأسماء واستحضار اسم واحد هو اسم "أمل" ابنة البطلة إنّما هو إحياء للأمل في نفس الإنسان مهما تقدّمت رحلته في هذه الحياة وأزف رحيله. ثم إن الكاتبة أتاحت للقارئ أن يتفاعل مع هذا النّصّ حسب ميولاته فالقارئ الرّومنسيّ سيتأوّل "الرّسائل" المؤجّلة باعتبارها رسائل غرام تخفي قصّة حبّ جميلة وإن شابها الحزن والقارئ الجندريّ سيتفاعل مع هذه المرأة الّتي أخرجت قسرا من مدرستها وزوّجت لمن لا تحبّ باعتبارها صورة للنساء ضحايا المجتمع الذكوري، والقارئ المتسيّس سيرى في "الرّسائل المؤجّلة" حكاية ثورة بدأت جميلة متّقدة ولكنّها انتكست وخبت مما يجعل من "رسائل مؤجلة" رواية الأحلام المؤجّلة مادام واقع المجتمع التونسي في هذه المرحلة من تاريخه غير مُهيَّأ لتحقق الأحلام.
بقلم نجاة وسلاتي خوالدي