في عش الدبابير
صرخة العاجز وشوشات وأنين
كأنني وجدت نفسي فجأة في مسرح بلا جدران،
مسرح يمتد في فراغٍ بلا سقف،
وتنتصب فيه خيوط شفافة لا تُرى إلا حين يلامسها ضوء بعيد.
كنتُ واقفًا في المنتصف،
أراقب العرائس المعلّقة وهي تتحرك بانسجام غريب،
كأنها تعرف طريقها أكثر مما يعرفه مَن يحرّكها.
وجوهها جامدة، لكن عيونها تبرق بوميض ميت،
يشبه وميض أحلام لم تولد بعد.
كنتُ أسمع وقع خطواتها الخشبية على أرضية غير مرئية،
وكل ضربة كانت ترتدّ في داخلي كأنها دقّات على جدار روحي.
سألت نفسي: من يحرك هذه العرائس؟
أي يدٍ خفية تسحب الخيوط لتمنحها حياةً مؤقتة،
ثم تتركها تتدلى كجسدٍ بلا معنى؟
اقتربتُ من إحداها،
ووجدتُ أن خيطها يمر عبر صدري أنا.
أدركت أنني لست مشاهدًا فقط،
بل جزءًا من المسرحية.
أنني العروس الأخرى، أتحرك حين يشدّ الخيط، وأصمت حين يرخيه.
ما ظننته حرية لم يكن سوى ارتعاشة بين قبضتين مجهولتين.
في لحظةٍ غامرة،
شعرت أن العرائس ليست خشبًا،
بل صورًا مجسدة لوجوه البشر من حولي:
هذا الذي يتكلم بلسان غيره،
وذاك الذي يحلم بما بُذل فيه،
وتلك التي تسير بخطى رسمها آخرون.
كلهم يرقصون بخيوطٍ غير مرئية،
يظنونها قدرًا،
وهي في حقيقتها شبكة متشابكة من أهواء، مصالح، وموروثات متصلبة.
حين حاولت أن أقطع الخيط الذي يخترقني، لم ينقطع.
لكن شيئًا تغير : لم أعد أستجيب له.
اكتشفت أن الخيط بلا قوة إن لم أمنحه أنا قوتي.
حينها فقط، توقفت العرائس من حولي،
وتجمّد المسرح، كأن الصمت انسكب من الأعلى.
عندها فهمت:
الحرية ليست أن تُقطع الخيوط،
بل أن تتحول إلى يدٍ لا تُرى،
تصنع حركتك بقرارك، لا بإملاء من فوق.
وهكذا بقيتُ واقفًا وحدي،
بين عرائس معلّقة في صمت،
أدرك أنني لم أعد عروسًا بينها،
بل الناجي الذي تعلّم كيف يعزف من داخله،
لا من خيطٍ يشدّه من الخارج.
طارق (بصوت مرتجف وهو يتأمل العرائس):
من أنتم؟
أشباح أم ظلال؟
ما الذي يجعلكم تتحركون بهذه الطاعة الصماء؟
عروسة عجوز بوجة متشقق (بصوت خافت متقطع):
نحن أنت ، وأنت نحن.
لسنا سوى مرآة لخيطك الممدود.
طارق: مرآتي؟
لكنني أحيا، أتنفس، أختار…
كيف أكون خشبًا محمولًا بخيط؟
العرائس معا :
الاختيار وهمٌ يا طارق.
أنت تتحرك لأن خيطًا شدّك،
تضحك لأن أحدهم أوحى لك بالضحك،
تبكي لأن خيطًا آخر همس للحزن أن يقطر فيك.
طارق يصرخ : لا!
أنا ! أنا لست خشبًا. أنا من يقرر
العروسة بالزي الملكي تضحك ببرود:
جرب أن تتحرك الآن دون أن يلتفت الخيط إليك.
جرب أن تصمت حين يُطلب منك الكلام.
ستعرف عندها أنك لا تملك إلا ما يُمنح لك.
طارق (متمهلًا، يضع يده على صدره):
لكنني أشعر بالتمرد ،
أشعر أنني أستطيع أن أرفض.
العرائس معا :
الرفض نفسه خيط آخر،
مُعدّ لك من قبل أن تفكر فيه.
طارق (بصوته الداخلي):
هل أنا محكوم حتى في لحظة رفضي؟
أم أنني قادر أن أتحرر لو توقفت عن الاعتراف بالخيط؟
إحدى العرائس (تقترب منه، عيونها تلمع كجمر):
لا تنخدع، يا طارق.
الخيط ليس في السماء، بل في داخلك.
ما يربطك ليس اليد العليا،
بل خوفك، طمعك، ذاكرتك المثقوبة.
طارق بصوت متصاعد :
إذن إن قطعتُ الخيط من داخلي، أكون حرًا!
العرائس (تضحك وتنتحب في آن):
الحرية ليست قطعًا ،
الحرية أن ترى الخيط وتعرفه،
ثم تختار أن تعزف لحنك الخاص فوق ارتعاشاته.
طارق (بصوت هادئ، حاسم):
نعم ، لن أكون خشبًا.
سأكون اليد التي تحرّك ذاتها.
لست تابعًا لصدى، بل صانعًا لصوت.
تسقط العرائس فجأة صامتة، تتدلى بلا حياة.
يظل طارق وحده في المسرح،
محاطًا بخيوط تتلاشى في العدم.
يمد ذراعه نحو السماء،
وكأنه يمسك بخيطه الأخير،
ثم يتركه يسقط.
طارق (همسًا) : ها أنا أخيرًا ، أنا.
يسود المسرح صمتٌ مطبق.
فجأة، يبدأ صوت خافت يشبه تنفسًا متقطعًا ينبعث من الخلفية،
يتصاعد تدريجيًا ليتحوّل إلى دقات ثقيلة كدقات قلبٍ كوني.
العرائس المعلقة ترتجف،
تتحرك لا إراديًا،
كأن الخيوط تعصف بها بعنف لم تعرفه من قبل.
طارق (مرعوبًا وهو يحدق في العرائس):
ما هذا؟ لقد أسقطت الخيط ،
فلماذا تعودون للحركة؟!
الإضاءة تتشظى:
ضوء أبيض حاد يسقط من الأعلى،
يقسم الخشبة نصفين،
بينما العرائس تتأرجح كأنها تحاول الإفلات من قيودها.
أصوات صرير الخشب،
ثم أصوات بشرية تتداخل،
صراخ،
ضحك،
بكاء في آن واحد.
العرائس (بصوت جماعي متفجر) :
لن تهرب منا يا طارق!
نحن داخلك ،
نحن كل قرار لم تُدرك أنه وُجه من قبل!
طارق يضع يديه على رأسه،
يتراجع للخلف،
ثم فجأة يصرخ بكل قوته:
طارق : لا!
لستُم أنتم من يحرّكني!
أنتم بقاياي، أشباحي، قيودي القديمة!
(مع الصرخة،
تُطفأ الأنوار كلها لحظة خاطفة،
ثم يندفع شعاع ذهبي وحيد من أسفل الخشبة نحو طارق،
كأنه يخرج من داخله.
العرائس تسقط جميعها أرضًا في لحظة واحدة،
تتكسر أصوات خشبها في انفجار مدوٍ يشبه انهيار جدار).
(الموسيقى تنفجر كعاصفة:
طبول، صفارات، دوي رعد.
يتزامن مع ذلك اهتزاز المسرح البصري:
أضواء متقطعة، ضباب يملأ الخشبة،
ثم صمت مطبق مرة أخرى).
(طارق يقف وحده في المنتصف،
مرفوع الذراعين، يتنفس بصعوبة،
لكن النور الذهبي يغمره تدريجيًا حتى يبتلع المسرح كله).
طارق (بصوت هامس أخير):
الآن ،
أنا لست خشبًا
أنا النار التي تحرك ذاتها.
تسقط الستارة ببطء على ضوء خافت يتلاشى،
فيما تظل أصداء الانفجار المسرحي ترنّ في آذان الجمهور.
تمت
وليس للنمرود سوى خُفي حُنين
وخليك يا شعب غلبان ، عامل زي شخشوبان ، بجسم خشب وعيون زجاج ، منين تشوف؟
يا إدريس : جهز جلسة الكهربا
طارق غريب


ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق