الاثنين، 1 سبتمبر 2025

العنوان الشعري بنية لغوية..لا إستغناء للقصيدة عنه.. متابعة الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 العنوان الشعري بنية لغوية..لا إستغناء للقصيدة عنه..

مما شك فيه أن العنوان في القصيدة الشعرية ليس مجرد اسم أو وسيلة للتمييز،بل هو عتبة نصية أولى وأساسية تُعد القارئ لدخول عالم القصيدة.إنه بمثابة البوابة التي نعبر منها إلى النص،والنافذة التي نطل منها على أفكاره وجمالياته.و هو جزء لا يتجزأ من بنية القصيدة الكلية،وهو آخر ما يكتبه الشاعر بعد اكتمال النص.إنه يختزل الجوهر الجمالي أو العاطفي للقصيدة في بضع كلمات مختارة بعناية فائقة.

وغالبًا ما يقدم العنوان مفتاحًا لفهم القصيدة أو تفسير رموزها.فهو يوجه خيال القارئ ويضعه على بداية الطريق الصحيح (أو المتعمد) للتأويل.

على سبيل المثال: قصيدة "الجلاد والصليب" لأدونيس.فالعنوان هنا،يخلق صراعًا دراميًا فوريا بين رمز القمع (الجلاد) ورمز التضحية والفداء (الصليب)،مما يضع القارئ في جو من الصراع الفلسفي والديني قبل أن يبدأ بقراءة السطر الأول.

أو عنوان "أكتب كي أحيا" للشاعر اللبناني أنسي الحاج.هذا العنوان ليس وصفًا للقصيدة فحسب، بل هو بيان وجودي يختزل فلسفة الشاعر في الحياة والكتابة: الكتابة هي وسيلته للبقاء والمقاومة.

ومما لا شك فيه أن احتقار اللحظة العنوانية وعدم تجشم قراءة العنوان بما تقتضيه من الاهتمام الكافي،والتركيز الشديد،قد يقود إلى فهم خاطئ لكلية النص،لذلك اتجهت هذه الدراسات والبحوث إلى دراسة العنوان كنص مستقل بذاته،ومن هذه البحوث دراستا ليو هوك Leo hoek: (نوعية العنوان La marque du titre،وسيميولوجيا العنوان La sémiotique du titre،بالإضافة إلى ما جاء به جيرار جنيث في الموضوع في كتابه معمار النص.

يتحدث جيرار جنيث في كتابه-معمار النص-عن العنوان باعتباره نصا صغيرا يختزل ويختصر النص الكبير،هذه الاستقلالية تقود إلى اعتبار العنوان وخاصة العنوان الشعري بنية لغوية يتركب من مفردات ينبغي دراستها تركيبيا ودلاليا للوصول إلى المرامي التي يتغيا الشاعر إبلاغها،وهذا العنوان يتمظهر من خلال خطوط يمكن قراءتها سيميائيا على المستوى الخطي الكاليغرافي،وكذلك حيزه على مستوى الصفحة، بالإضافة إلى المرجعيات الثقافية والاجتماعية والإديولوجية التي يحيل عليها،بما يجعله بؤرة تختزل النص بكامله..

على هذا الأساس،يمكن اعتبار العنوان،هو الروح الأولى للقصيدة والعهد الذي يقطعه الشاعر مع القارئ.إنه عتبة ضرورية لا نعبر منها إلى النص فحسب،بل نعود إليها بعد الانتهاء من القراءة لفهم أعمق،حيث تتكشف دلالاته الجديدة بعد اكتمال الصورة.وعنوان القصيدة الناجح هو الذي يكون قادرًا على أن يكون غامضًا بما يكفي لإثارة الفضول،وواضحًا بما يكفي ليكون دليلاً،وجميلاً بما يكفي ليكون قصيدة مصغرة بذاته.

ولا يَخفى على ذي لبّ أنَّ العنوانَ للقصيدة هو بابُها الموصد،ومفتاحها المفقود،وعتبتها الأولى التي لا يُغفَلُ عنها إلاّ مُهمِل.فما العنوان إلاّ الومضة التي تسبق القصيدة،والنَفَس الذي يعلن عن مولدِها،والظلّ الذي يرافقُها حتى تُختَم.

ولكنْ،احذرْ-أيّها القارئُ الكريم-من أن تنخدعَ ببريقِ العناوينِ،فكم من عنوان برّاق يخفي تحتهِ قصيدةً تفتقر لمقومات الإبداع،وكم من عنوان بسيط يتواضعُ مثل غلاف كتاب قديمٍ،فإذا بِكَنْز المعاني ينفتحُ أمامك.!

والعنوانُ،في النهايةِ،هو اليد التي تمتدّ من الشاعر إلى قارئِه،وهو الوعدُ الذي يقطَعُه على نفسِه،وهو التوقيعُ الأخير على العملِ.فإن أصابَ الشاعر في اختيارِ عنوانه،فقد كسب نصف المعركة مع القارىء.وإن أخطأ،فقد يخسر قصيدته حتى قبل أن تُقرأ.

وبكل تأكيد.العنوان في القصيدة الشعرية ليس مجرد اسم أو وسيلة للتمييز،بل هو عتبة نصية أساسية ومدخل إجباري لا يمكن للقارئ تجاوزه. إنه البوابة الأولى التي نطل منها على عالم القصيدة،والوعاء الذي يُحتْمَل أن يضمّ دلالاتها المركزية.

ختاما،نؤكد أن العنوان لم يعد  مجرد "غلاف" خارجي،بل أصبح نصًا موازيا قصيرا ومكثفًا يعلن عن استراتيجية القراءة،ويكشف عن العالم الداخلي للقصيدة،ويشكل عقدًا بين الشاعر والقارئ.إنه البصمة الأولى التي تترك أثرها في ذهن المتلقي وتظل ترن في خلفية وعيه أثناء رحلته في تفاصيل النص الشعري.وإهمال العنوان أو عدم تأمله هو إغفال لبعد جوهري من أبعاد التجربة الشعرية نفسها.

فلا تستهِنْ-أيها الشاعر/المبدع بالعنوانِ،فهو ليس مجرّد كلمات تزيّنُ الصفحة الأولى،بل هو روح النصِّ التي تسبق الجسد..

وأرجو أن تستساغ رسالتي..جيدا.


متابعة محمد المحسن



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق