الكنعانيون باقون..وسيستمر الفينيق الفلسطيني بمواصلة الانبعاث من الرماد من جديد..
"الخير أيضا مثل الشر – نزعة متأصلة في الإنسان»
– كل طفل فلسطيني يموت،تطلع من قبره ألف شمس جديدة تنشر نور الفكرة، فكرة الصمود المفتوح. فالحرية فكرة قد تمرض، ولكنها لن تموت..
أن تتداعى الصور الشعرية في ذهن الشاعر، وتخترق سجوف خياله مفصحة عن الوجدان وما يمور داخله من أحاسيس ومشاعر، فهذا يعني أن ما ستفرزه شاعريته، سيؤسس لوعي جديد تتأثث به عوالم النص وترتقي فيه اللغة إلى مرتبة الجمال والإبداع..
لكن..
الكتابة الشعرية في وجه من الوجوه هي ضرب من الشقاء والمعاناة تتراوح فيها الذات بين حالتين متنافرتين: قتامة وانكسار/قوة وانتصار..
ولو حاولنا استقراء الحالتين لتبين لنا أن للأولى دلالات تحيل على الذات المشروخة والمشظاة، حيث تبدو الصور الشعرية متسربلة بالألم، راشحة بالمرارة، جانحة في أبعادها إلى الاغتراب، وموغلة في سوداوية ورثناها عن ذاكرة مدانة تحطّ بنا كرها في مواقع مترهلة، تكشف عن تشاؤم دفين..
أما الحالة الثانية، فهي تلك التي تتجاوز فيها اللغة تحقيق المصالحة بين الإنسان والفرح ليكونَ التألق في رحاب شعرية مشرقة ومضيئة تنحى صوبَ الجمال وتعانق الأفاق المستقبلية بكل أمل وثبات..
إننا إزاء حالتين متناظرتين تتنافر فيهما الصور وتتعارض.. أفلا يمكن إيجاد مصالحة بينهما تقوم على التناغم بين: ثنائية التوتر بين الذات والموضوع، والكائن والممكن، على نحو يقترب فيه النص الإبداعي من الشمولية، دون أن يشذّ عن الحدود التي رسمناها، أو تلك التي أملاها الواقع؟ وبسؤال مغاير أقول:
ألا يمكن أن تكون الكتابة الشعرية جامعة توحّد بين قطبين نائيين: تداعيات الراهن.. وتجليات المدى المنظور.. فنكون بذلك قد أسسنا لوعي جديد يبدأ من الذات ويؤسس للكون في تواصل جمالي خلاّق؟ ألسنا إزاء تغييرات في البنى الاجتماعية والثقافية بالنظر إلى ما تطرحه العولمة من تحديات في ظل احتدام الثقافات وتنافسها، إلى حد يحيلنا على وضع تبدو فيه البكائيات والمراثي المألوفة واستهجان الواقع المترهل، من ضروب التقوقع والانغلاق على الذات؟ ألا تفرض علينا الثقافة الكونية نصوصا شعرية ذات شمولية فنية مفعَمة بدفء الكلمة ونبل السؤال وجمال الحيرة، تؤسس الذات وتساعد على استجلاء المضمون الأدبي والفني بتفاؤل خلاّق، لنواجهَ عبرها عالما ما فتئ يخيّب الآمال ويثير الفوضى في وجه الوجود؟ ألم تكن أشعارنا المحدثة في معظمها تنحو للغرابة والغموض، وما الغرابة إلا دلالة على الغربة عن العالم وانعطاف، يستحيل نوستالجيا -لا يخطو على درب الآتي الجليل، بل يترجرج إلى الماضي في حنين سئمناه؟
إن هذه الأسئلة التي طرحناها لا نروم من خلالها التأسيس لواقع مغاير لمنطق الأشياء والكون، بقدر ما نهدف إلى صياغة هذا الواقع في نصوص إبداعية ترنو إلى أفق مغاير يتفتّح باستمرار ويؤسّس دفقا موصولا ضمن تواصل موضوعي، يحقّق عبره المبدع شرط وجوده..
على سبيل الخاتمة:
يرى البعض أن الطبيعة البشرية من أقوى أسباب الصراعات الإقليمية والعالمية، وأن تاريخ الأمم هو تاريخ حروبها، وأن من طبيعة الأمور- من ناحية – أن يهيمن الأقوى على الأضعف ويستغله لصالحه، ومن ناحية أخرى فإن الصراع حتى بين الإخوة مغروس في الجينات البشرية، فقصة مثل قصة الأخوين قابيل وهابيل Cain And Abel – حين لم يكن على الأرض غير أسرتهما – إنما ترمز لوجود جين العنف في الإنسان. ويرون أن الصراع سيبقى ما بقيت البشرية، فلا أمل في التخلص من الاستعلاء العنصري أو التعصب العقائدي، وهما دافعان يبرزان في مقدمة دوافع الصراعات الطائفية والإقليمية، وربما دول الشمال مع دول الجنوب، بل دول قارة مثل أوروبا كما حدث في الحربين العالميتين في القرن الماضي، لكن من المعروف أيضا أنه كما يمكن إيقاظ الأحقاد إلى حد سفك الدماء بين الإخوة، حيث تكون هناك تفرقة في المعاملة بينهم، على نحو ما حدث في القصة الدينية: قصة يعقوب ويوسف وإخوته، وفي قصة قابيل وهابيل من قبل، فإنه يمكن وأد هذه الأحقاد حين تكون المساواة أساس المعاملة. كذلك الأمر بين الشعوب، يمكن بآليات محددة إثارة الفتن بين مختلف طوائفها أو مع جيرانها (وهو ما حدث في التاريخ نتيجة مؤامرات داخلية أو خارجية) ويمكن تغليب ثقافة احترام الاختلاف، وتغليب العوامل التي تجمع على تلك التي تفرّق بدءا من التعليم والمنابر العقائدية حتى وسائل الإعلام والقنوات الفضائية. فالخير أيضا – مثل الشر- نزعة متأصلة في الإنسان.
أخيرا:
الشعر في الأصل بوح ذاتاني يعبّر عن علاقة وجدان الشاعر بوجوده، من خلال أحلام اليقظة واقتراح عوالم خاصة يصنعها الخيال الشجاع واللغة الجسورة الماكرة. فالشاعر يمثّل هويته الخاصة أولا، حتى لو عاش في جزيرة معزولة فهو خارج عبودية الزمكان والإرادة الخارجية. فرسالته جمالية فنية في جوهرها. وبما أنه مرتبط بنسيج أمته وهموم مرحلته بالضرورة فمن الطبيعي أن يشارك شعره في الدفاع عن مأساة الجرح القومي فيرقى بشعريته إلى فضاء إنساني يسهم في وقف محاولات الاستبداد. كل المحاولات العولمية الساعية إلى تفكيك الروح الجمعية وتذويب خصوصية الشاعر في ماء عكر هجين ستبوء بالفشل، لأن كينونة الشاعر تأبى الاتباع والامتصاص. أما موقف الشاعر من محاولات طمس الهوية الفلسطينية فهو واحد في العالم كله. إنه الرفض الكلي. فالشعر دفاع فطري عن هوية الإنسان وخصوصيته، وهو ضد اقتلاع الجذور. وعليه فإن كل طفل فلسطيني يموت تطلع من قبره ألف شمس جديدة تنشر نور الفكرة، فكرة الصمود المفتوح. فالحرية فكرة قد تمرض ولكنها لن تموت. فالكنعانيون باقون وسيستمر الفينيق الفلسطيني بمواصلة الانبعاث من الرماد، إلى أن تموت البشرية. لفلسطين حضورها التاريخي الحضاري قبل من يحاولون سرقتها.
الحياة نفسها تستغيث بأطفال فلسطين ليعلموها فن الأمل. ألم نلاحظ أن مئة سنة من التشتيت والتهجير والإبادة قد فشلت في ساعة واحدة فصحا العالم من غيبوبته الطويلة ووقف على الحقيقة؟
وبسؤال مغاير أقول :
أليست فلسطين قصيدة أزلية،ينحني لها التاريخ احتراما..؟
ويظل السؤال محلقا في تعاريج المدى..يعانق أرواح الشهداء..
محمد المحسن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق