حتى لا ننسى الشاعر الثوري..مظفر النواب.."شاعر الثورات..والشجن "
"الشعراء كالأوطان..لا يموتون.."
"أصابح الليل مصلوبا على أمل
أن لا أموت غريباً ميتةَ الشبح" ( مظفر النواب)
تقديم :تقترب صورة مظفر النواب في الذاكرة الجمعيّة العراقية والعربية من صورة برومثيوس في الميثولوجيا الإغريقية،الذي انحاز إلى البشر حاملًا شعلة النار الإلهية من جبل الأوليمب لتكون قبسًا لهم،وهو ما أغضب منه زيوس،آلهة السماء والصاعقة الذي يمثّل قوّة الطبيعة غضبًا شديدًا.
الشاعرية تتميّز بالحساسية والجمال والإلهام،ومثلما ترتبط بفن الشعر فهي ترتبط بعموم الإبداع. وقد توقّف باختين عند شاعرية الروائي ديستوفسكي. وسبق للمعلّم الأول أرسطو أن تناول في كتابه «فن الشعر» التكوين الفني ومحاكاة الطبيعة بصفتها جوهر الشعر بما فيه الملهاة والملحمة والحوار والموسيقى والرقص، فثمة فارق بين ما يسمّى شعرًا وبين ما يسبغ عليه حيّزًا جماليًا بحيث تشعر أنه «شعر»، وهو ما نشعر به ونتحسسه حين نقرأ شعر مظفر النواب، ناهيك حين نسمعه بصوته المؤثر ونبرته المتميزة مموسقًا وممسرحًا تتراقص صوره الفنية برشاقة فائقة، وهارموني عالي الانسجام.
مظفر النواب يكتب من خارج فلول الكتابة،إنه مهندس على المادة الورقية حيث يسور قصائده بقسوة التحدي،والتمرد،والمواجهة،والثورة..إنّ الكم الكبير من الاستلاب المتماهي في قصائده يجعل القارئ يعيش ارهاصات وجدانية وتاريخية مجمعة في المادة الشعرية من صور وتشظي وانبناء وانسحاب..وبقدر ما كان مظفر صاحب مدرسة الحداثة في القصيدة الشعرية الشعبية (المحكيّة)، فإنه كان بالقدر نفسه شاعر الحداثة في قصيدة الفصحى، حتى وإن كتب بعض القصائد العمودية، وقد سار في ذلك على خطى نازك الملائكة وبلند الحيدري وبدر شاكر السيّاب وعبد الوهاب البياتي ومجايليه سعدي يوسف ورشدي العامل ويوسف الصائغ وألفريد سمعان وآخرين.
وبين الفصيح والمحكي كانت تتراوح أغراضه بين الغزل والثورة، ولا ثورة حقيقية وكاملة دون حب حقيقي،ومثلما ليس هناك نصف حب،فليس هناك نصف ثورة،فقد أعطى مظفر روحه للثورة والحب وتسامت صوره الشعرية في ذلك،مع وطنية وجدانية باهرة،وبقدر ما كان مغتربًا وحزينًا فإن ذلك ينعكس على المكان مدحًا أو قدحًا، سواء في هجائه أو في حنينه وأساه لفراقه..
الشعر يشبه الوحي،هكذا تقول قصائده،فهو يصدر عن رؤية ورؤيا وكلاهما ضرب من ضروب الامتداد الانثروبولوجي.فجمالية الاستلاب في شعر مظفر النواب تتأصل في انغراس معطياتها وافرازاتها في أعماق تاريخ المعارضة السياسية والتاريخية العربية الرافضة للاستبداد والقاطعة مع القمع وحكم البوليس السري.لقد سربل النواب ذاته بعباءة ظاهرها المبدع وباطنها الثائر المتمرد.
لم يكن إعلان اسم مظفر النواب مرشحا لجائزة نوبل للآداب ثم فوز الكاتب البريطاني من أصل ياباني كازو ايشيغورو سوى مواصلة لحالة الاستلاب التي عاشها الشاعر الراحل الكبير،ولو سنحت الفرصة بعيدا عن الموضوعية المطلوبة لقلت : مظفّر النواب لا يمكن أن يحيا دون استلاب.ولا يمكن أن يبدع دون مواجع..ولا يمكن أيضا أن يرحل دون أن يتركَ إرثا شعريا مذهلا..سيكون نبراسا يضيء دروب القادمين..في الآتي الجليل..
لروحك السلام..يا مظفر..
(فى الليل/يضيع النورسُ فى الليل،القارب فى الليل/ وعيونُ حذائى تشمُّ خطى امرأة فى الليل/../ يا امرأة الليل أنا رجل حاربتُ بجيش مهزوم/ ما كنت أحب الليل بدون نجوم/..والآن سأبحث عن مبغى/ أستأجر زورق/ فالليل مع الجيش المهزوم طويل).(مظفر النواب)
ها أنّي-يا مظفر-أراك في هدأة الصّمت..تنبجس من اختلاجات العزلة..فأقول :
..من يدقّ باب الرّوح
في خفوت الشمس والضّوء..
من يطهّر الجسد من دنس الركض
خلف صهيل الرّوح..
من يمنح حبّة قمح
تعبق بعطر الأرض
ليمامة تاهت
في رعب السكون الهائم
من يجفّف الدّمع..
والمحزونون في سبات ملء الجفون
أوغلوا في الدّمع في لحظات الوَجْد
فأنطفأ الوجع..
إلى أين تمضي
في مثل ليل كهذا !؟
والكلمات التي تركتها خلف الشغاف
تشعل شرفاتها
منارة
منارة
ولا يكتمل المكان..
..تمنيتَ لو كنتَ نورسا
على ضفاف دجلة..والفرات
كي تعيد ارتحالك..
كلّ يوم في المياه
تمنيتَ لو تجعل من دموع الثكالى
قاربا يجتاز العتمة..
كي يرسي على ضفّة مرهقة
تحتاج يد النهر كي تعبره..
تمنيتَ لو يتوقّف..الزّمان
لحظة أو أقل
كي تعيدَ ترميم الحروف
..كي تسير بكل،فجاج الكون
بغير جواز سفر
كي تروح بنوم مفتوح الرّوح..
..يفيق على جمرة سقطت
فوق شغاف القلب..
تمنيتَ لو تبرق للبعداء جميعا أن:
عودوا..أعطوا-لمظفر*-بعض وطن !!
ها أنتَ تئنّ..
وتئنّ..
إذا استرجعت غربتك
من تيه الضجّة..
وعدت بلا وطن..
إلى أين تمضي
في مثل ليل-عربيّ-كهذا ؟
إلى أين تمضي..
بعربات الصّبح المبكرة
ها أنّي أراك تلوّح
للأمكنة الأمامية
وهي تغيب..
ثمة نورس يتلاشى في الأفق البعيد..
ثمة وجع بحجم الغيم ..
يتمطى في اتجاهنا
عبر التخوم
ثمة شيء ما ينكسر
يتهاوى..
ولا يصل المكان..
ها..أنّي أراك..في هدأة الصّمت
تنبجس من اختلاجات العزلة..
تنبثق بياضا ناصع العتمة..
من عتبة القلب
نهرا
تجلّله رغوة الانتظار
أراك..
نهرا
تعتعه الرّحيل..فتهاوى
في أفلاج جفّ ماؤها..
ها أنّي أراك
تعبر ممرّات الذاكرة
تترك حنجرتك زهرةَ بنفسج..
تلج حجرات الرّوح
تاركا خلفك..
صهيل الرّيح
كي لا ينهمر..
الوجع
ويسطو على ما تبقّى..
من مضغة القلب
سخط الزّمان..
برحيل مظفّر النواب،نكون أمام مرحلة سياسيّة كبرى وموقف من الوجود والتحدّي الأبدي للطغيان،وليس أمام نهاية شكل من القصيدة فحسب.ودّعه-بالأمس-المستضعفون والحزانى الذين كتب عنهم ولهم،والذين تراءى لهم في انتفاضاتهم وثوراتهم التي يُراد لها أن تُجهَض وتذوي ويأبى الشاعر إلّا أن يقيمَها من جديد بوحيه إذ يقول:
"أين سيذهب من لا بيت له
ولا امرأة ولا وطناً؟
سبحانك مهما بلغ الطائر
يتعب من دون مطار."
وداعا..يا طائر البرق
محمد المحسن
*المقصود: الشاعر العراقي الراحل مظفر النواب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق