** ماذا تشربان **
كانت السّاعة تشير إلى منتصف اللّيل.. يتعانق العقربان في حميميّة بالغة بعض الثّواني ثمّ يفترقان فراق الأحبّة.. تماما مثل سندرلاّ الّتي التقت بالأمير الوسيم في حكايات الأطفال.. شعرت بنفسها فعلا كأنّها سندرلاّ في منتصف اللّيل.. تتلاشى منها ثياب التّرف و القصور.. يمحى من وجهها قناع مساحيق التّجميل.. يتبخّر أمامها الحوذيّ الأنيق و العربة الفاخرة.. تعود إلى سالف عهدها فتاة بسيطة بساطة الوردة في خدرها.. لا تمتلك سوى ثيابها العاديّة الّتي أكل عليها الدّهر و شرب..
منتصف اللّيل.. الآن تتساقط الأقنعة.. تماما مثلما تتساقط عن الشّجرة أوراق الخريف.. الآن تتساقط جميع الأكاذيب الّتي تعوّدت على حياكتها ليلا نهارا.. ها هي الآن مجرّدة من كلّ زيف.. من كلّ ما يعكّر صفو الحقيقة العارية..
اشتدّ اللّيل سوادا.. و ارتدى الكون حلّته القاتمة.. لا قمر في السّماء.. وحده الهاتف الجوّال يضيء المكان.. انعكس نوره على وجهها الشّاحب.. أخذت تؤلّف قصصا.. تصوغ ما ستقوله يوما ما..
كانت تودّ أن تقول له.. اسمع يا وائل.. أنا لست شهناز الّتي حدّثتك عنها في ذلك الفضاء الأزرق.. و صورتي تلك الّتي رأيتها ليست صورتي الحقيقيّة.. والدي ليس مديرا للمصنع الّذي حدّثتك عنه.. بل هو يشتغل حارسا لذلك المصنع.. أنا لا أجلس في المطاعم الفاخرة.. و لا أتناول البيتزا و غيرها من الأطباق الّتي يحسبها النّاس رفيعة.. بل أتناول ما تعدّ والدتي من أطباق تقليديّة.. فهي ربّة بيت و لا تعمل مدرّسة مثلما أخبرتك.. كانت تودّ أن تقول له.. أنا لا أهوى ركوب الخيل.. و أسرتي لا تقضي أيّام العطل في الفنادق..
في يوم ما ستذكر له ذلك.. كلّ ذلك.. نعم ستخبره باسمها الحقيقيّ.. ستخبره أنّ قلبها نبض له بمجرّد تلك المحادثة اللّعينة الّتي جمعتهما ذات ليلة في فضاء الرّسائل المكتوبة.. ستخبره أنّها شعرت شعورا غريبا.. كأنّها ولدت في تلك اللّحظة من جديد.. كأنّ الدّنيا أصبحت ملوّنة بعد أن كانت بالأبيض و الأسود.. كانت عيناه في الصّورة لامعتين.. تقولان ما لايستطيع اللّسان قوله.. كانت صورته تبوح بمشاعر غريبة لا تدري كنهها..
و الآن أمست لعينيه أسيرة.. تفرح لفرحه و تحزن لحزنه.. و لكن حتّى متى سيدوم هذا الزّيف و المكر و الخداع.. لقد شعرت أنّه من عائلة ميسورة فتظاهرت له بكلّ ذلك حتّى تقنعه بأنّها من نفس البيئة الاجتماعيّة.. هي لا تدرك لماذا كانت تفضّل دائما الرّسائل المكتوبة.. فلا الرّسائل الصّوتيّة تغريها.. و لا المكالمات المرئيّة تجذبها.. ربّما عندما يرى صورتها الحقيقيّة سيتراجع عن حبّه لها.. و أيّ حبّ هذا.. إنّها لم تره و هو لم يرها على أرض الواقع.. إنّه مجرّد حبّ رقميّ في فضاء رقميّ.. و لكن رغم ذلك كان في تلك الرّسائل المكتوبة سحر غامض يجعل الأشياء جميلة أكثر من ذي قبل.. و لكن ما العمل.. القلب و ما يريد مثلما قال الأوّلون..
فجأة رنّ الهاتف رنّته المحبّبة إلى النّفس.. يا للهول.. كيف تذكّرها الآن بالذّات.. إنّه هو .. أجل هو..
ـ أهلا.. كيف حالك.. ما رأيك أن نتقابل غدا على السّاعة الرّابعة في قاعة الشّاي الجديدة الّتي فتحت أبوابها للعشّاق مثلنا..
كيف ستردّ عليه.. ما هذا المأزق.. و لكنّ السّاعة آتية لا ريب فيها.. سيأتي ذلك اليوم الّذي فيه يتقابلان.. غدا أو بعد غد.. أو بعد شهر.. أو حتّى بعد عام..
ـ أجل.. نتقابل غدا..
مرّت السّاعات ثقيلة متباطئة.. و أخيرا حلّت السّاعة الرّابعة.. ارتدت فستانها الأحمر.. استعانت بمساحيق تجميل باهتة لا تكاد العين تلحظها.. وضعت شيئا من العطر.. و الآن هاهي أمام قاعة الشّاي.. فجأة رنّ هاتفها..
ـ ها أنا في انتظارك.. أ لم تتفطّني إليّ..
و غير بعيد لاح شابّ نحيف غريب الملامح يشير بيده.. توجّهت نحوه..
ـ هل أنت وائل الّذي..
ـ نعم أنا هو.. هيّا لنتّخذ مجلسنا في هذا المكان الرّومنسيّ..
يا إلهي.. ماذا جرى.. ليست ملامحه مطابقة لما تعرفه في صورة حسابه الإلكترونيّ.. أين العينان اللّامعتان.. أين الابتسامة الجذّابة.. أين صورة ذلك الفارس الوسيم الّذي يظهر في الأفلام..
ـ لماذا تنظرين إليّ هكذا.. هيّا اجلسي..
تهالكت على المقعد دون أن تنبس ببنت شفة..
ـ و أخيرا جمعنا القدر لنتعرّف إلى بعضنا عن كثب.. أقدّم لك نفسي.. في الحقيقة وائل هو اسم مستعار خاصّ بالفضاء الرّقمي.. من المؤكّد أنّك في شوق لمعرفة اسمي الحقيقيّ..
كان الشّابّ يتكلّم باسترسال و هي لا تعي ما يقول.. كانت تشعر بما يشبه الدّوار.. انسدلت أمام عينيها ستارة تشبه الضّباب بينما أقبلت النّادلة على مهل في زيّها الرّسميّ ترحّب بالعاشقين الجديدين..
ـ مرحبا بكما.. ماذا تشربان..
** محمّد الزّواري ـ تونس **
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق